في محبة المسيح

بقلم : أ. رجائى عطية نقيب المحامين

نشر بجريدة الوطن الجمعة 25 / 9 / 2020

كنت في الرابعة من عمري، حين ألحقني أبي ـ مع أختي الكبرى ـ بمدرسة الراهبات Notre dam des A’ Potre بشبين الكوم، ثم ألحق في العام التالي شقيقى المرحوم فاروق ثم شريف، ومن بعدهما الأختين الصغيرتين الباقيتين من عنقود الأولاد آنذاك.. كان النظام الذي التزم به أبي عطيه عبده، وهو مسلم شديد الالتزام بالإسلام، ومتنور يفهم الإخاء بين الأديان.. أن تستمر بناته في مدرسة الراهبات حتى الحصول على شهادتها، بينما الصبيان يمكثون لعام واحد ينتقلون بعده إلى المدارس العربية ـ وقد كان.. لا زلت أذكر أن هذا الإلحاق بمدرسة الراهبات ورئيستها الـ Me’re وأعضاء التدريس من الأخوات الراهباتSoeur ، كان خاليا من أي حساسيات علـى الجانبين، فلا حذرنا أبي أو أمي من أي تهاويم، ولا استغلت المير والسيرات ( الأم والأخوات ) قيامهن بالتعليم لتلقين ما لا يتفق مع الإسلام.
ولا زلت أذكر أن أطباء الأسرة، على كل التخصصات، فى ذلك الوقت، كان حافلا بأسماء مسيحية.. الدكتور اليوناني العجوز جورجي ياتريدس، والدكتور نقولا تادرس إلى جانب الدكتور عمر سعد في طب الأسـنان، والدكتور نـاشد عبد المسيح والد صديق العمر أسعد، وبنات الدكتور ناشد الثلاث الصديقات الحميمات لأخواتنا الثلاث، والدكتور رياض سركيس، كل هؤلاء ـ وبلا أي تفرقة ـ إلى جوار الدكاترة محمد مبارك ومحمد أبو باشا.. لم نعرف تفرقة بين الأطباء مرجعها إلى الانتماء الديني أو الطائفي، وكذلك الصيدليات، وبين المدرسين والأصدقاء .
وقتها لم أتوقف لاستقطار الأسباب، فلم يكن في ذلك أي نبوّ عن مألوف يدعو إلى التساؤل، ولما شَبَبْنا عن الطوق، عرفنا مما قرأناه، ثم درسناه فيما بعد وتأملنا فيه، أن محبة السيد المسيح والمسيحيين متجذرة في صفحات وجدان المسلمين في بر مصر، وأن هذا التجذر مستمد من الإسلام ذاته .. فقد دلنا ما كنا نتدارسه من الصبا، أن احترام الأديان السماوية جزء لا يتجزأ من الإسلام، وأن هذا الاحترام للأديان فرع على شجرة أصيلة أقرها القرآن المجيد الذي جعل الإيمان بكل الرسالات أصلا من الأصول الإسلامية .. ففي القرآن الحكيم : ” قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ” ( البقرة 136 ، آل عمران 84)
وحين توسعنا في قراءة مدونات الأديان، لم نجد كتابا من الكتب السماوية يتحدث بمثل الحديث الرائع الذي تحدث به القرآن المجيد عن زكريا ويحيى ومريم والمسيح عليهم السلام .. نقرأ في المصحف، ونسمع في التلاوات في الإذاعة وفي المساجد وفي التعازي، من آيات القرآن في هؤلاء الأنبياء الأحباء .. « إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ 0 فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهـَا زَكَرِيَّا الْمِحْـرَابَ وَجَـدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ 0 هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء 0 فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ » ( آل عمران 35 ـ 39 ) ..
« وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ » ( آل عمران 42) ..
« إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ . وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ » ( آل عمران 45 ـ 46) ..
« وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإنجِيلَ » (الحديد 27) ..
وعرفنا مما عَرَّفَنا القرآن المجيد ، المنزلة الرفيعة والتأييد الإلهي لكل من السيد المسيح وأمه مريم عليهما السلام، وتابعنا هذه الرعاية الإلهية منذ الحمل فيه حتى رفعه الله بآيات معجـزات هائلات: حمل مريم فيه بغير أب، وكلامه في المهد، وجعله الماء خمراً في عرس
« قانا الجليل » ، وتصويره الطين على هيئة طير ونفخه فيه فتكون طيراً بإذن الله، وإبراؤه الأكمه والأبرص، وإحياؤه الموتى بإذن الله، وإخباره بني إسرائيل بما يأكلون وبما يدخرون في بيوتهم، ومع ذلك أحس عيسى منهم الكفـر، ومكروا لصلبه وقتله ومكر الله والله خير الماكرين. « إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ » ( آل عمران 55 )
وعن جذور هذا الإخاء، وهذه المحبة في بر مصر ، بين المسلمين والمسيحيين ـ هذه الجذور قد أخبر بها القرآن الحكيم، وتلقيناها عنه من الصغر ، فجعلنا نقرأ ونتلو ونسمع قول الحق عز وجل : « وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبـَانًا وَأَنَّـهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ » ( المائدة 82 ، 83)
درجنا إذن على محبة السيد المسيح والمسيحيين، وتعلمنا على مر الزمن، ومراجعة ما ورد في الأناجيل المسيحية، وفي القرآن الحكيم ـ أنه لا عداوة بين الإسلام والمسيحية، فالمسيحية قوامها المحبة والسلام، والإسلام يحترم كافة الديانات وينبذ كل أنواع العصبية وهي عدوة السماحة والإسماح.. يقول الله تعالى : « يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُـم مِّن ذَكَـرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُـمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ » (الحجرات 13 ) .. يتسامح الناس، ويتسامح المتدينون، حين يدركون أن أصلهم واحد، وأن انتماءهم إلى شجرة واحدة.. إلـى ذلك لفت القرآن الحكيم، حين نوه في العديد من آياته إلى أن الناس جميعاً ينتمون إلى أصل واحد ونفس واحدة .. « يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء » ( النساء 1 ) .. « وَهُـوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ » ( الأنعام 98 ) .. هذا التنبيه القرآنى المتكرر إلى أصل الإنسانية الواحد، تنهدم به نعرات العنصرية والعصبية، وتتسع الباحة الإسلامية الوارفة إلى الناس جميعا على سنة الهداية والإسمـاح.. لا معـيار للمفاضـلة إلاّ بالعمـل والتقوى ..
لم يحضنا الإسلام في الإيمان به أو الدعوة إليه ـ على مخاصمة الأديان أوأهلها، ورأينا رسول القرآن ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتزوج ويبني بصفية اليهودية وبماريا القبطية المصرية أم ولده إبراهيم الذي رحل عن الدنيا طفلا.. وقرأنا ونقرأ ونتعلم من القرآن أن طعام أهل الكتاب والزواج من الكتابيات حل للمسلم، لا تحريم فيه ولا تثريب عليه « الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ» ( المائدة 5 )
من يستقطر التقاليد المصرية يجد هذه المحبة متجذرة في أصولنا المصرية ـ إسلامية كانت أو مسيحية، ويلحظ أنه فضلا عن توقير القرآن للأنبياء كافة، وللسيد المسيح عليه السلام خاصة، فإنه قد ترسخ في نفوس المسلم دلالة تسمية سور كاملة في القرآن الحكيم بأسماء الأنبياء السابقين وأسرهم، من مثل سور : نوح، وإبراهيم، ويونس، وهود، ويوسف، ومريم، وآل عمران، ولذلك فقد شببنا لا نفرق بين المزارات الإسلامية والمزارات المسيحية، وظلت السماحة المصرية حاضنة رءومة لهذه المحبة .. تراها في المزارات المسيحية التي صارت أيضا مزارات للمسلمين في مصر .. مزارات سانت كاترين، والقديس مار جرجس، والقديسة دميانة بالدقهلية، وسانت تريز بشبرا، ودير المحرق بأسيوط وغيرها، مزارات مسيحية يوقرها ويزورها ويتبرك بها المسلمون ..
إن ما نتبادله الآن من تهاني مع الأحباب والإخوة والأصدقاء والزملاء والجيران المسيحيين، ليس من قبيل أداء الواجب، وإنما هو تعبير صادق صادر من الأعماق عن هذه الأواصر والوشائج الحميمة، ونابع مما نحمله في صفحات وجداننا من « محبة للمسيح ».

زر الذهاب إلى الأعلى