في دوحة الإسلام (96)
الإسلام والإيثار وإنكار الذات
نشر بجريدة صوت الأزهر الأربعاء 8 / 12 / 2021
ــــ
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
ما من آدمى ، إلاّ ويشعر بذاته شعورًا لا يفارقه ، ولا يغيب عنه لحظة إلاّ ليعاوده .. والتفات الآدمى لذاته ، الملازم لشعوره بأنه حىّ ، هو التفات للحياة .. فالصلة بين حياة الذات وبيـن الحياة من حولها ، صلة مقدورة ..
ويبدو أن المبالغة فى النظر إلى « الذات » ، شـىء فطرى فى الآدمى ، يرجع إلى أن شعوره ابتداءً وانتهاءً هو شعوره بذاته ونفسه ، وأنه أساس لشعوره بكل ما عداه .. ومعظم الناس يستحسن ذاته وينحاز لها ، والآفة تأتى من الانحصار فيها وعدم الالتفات إلى غيرها . يبقى التوازن النفسى على سوائه ، ما بقى هذا الاستحسان للنفس فى دائرة المعقول ، فإن جاوزه إلى الإعجاب والتيه بها اختل هذا التوازن ، فإذا فارقه تماماً كاد فقدان هذا الإحساس أن يكون لحظة انتحار !
والآدمى يحب الإطراء لأنه يحب ذاته ولا يشبع من مرضاة نفسه لأنها وقود حياته .. وليس كل الناس سواء فى كبح جماح هذه الرغبة وإبعادها عن الغلو والمبالغة ، ومحاولة الالتفات المعقول لمرضاة الآخرين واحترام ما تواضعوا عليه من العدل والبر فى وسطهم وظروفهم . أما التجرد التام من مرضاة « الذات » فأمنية بعيدة المنال !
والحياة يلازمها سعى للآدمى ، لا يكف فيه عن محاولة الحصول على المزيد ومزيد المزيد من الرضا عن النفس ، وقد يكون من باب تحسين حاله ومستواه وظروفه . والواقـع أن هـذا المسعى الدائب ” قُطْب ” تدور حوله الحياة ومعها تاريخ البشر ، وكثيرًا أو أحيانًا ما يصاحب هذا المسعى تضخم للذات يجاوز المعقول أو لا يناسب ملكاتها واستعداداتها ، وكثيرا ما ينحصر به انحصارًا شديدًا فى « أنانيتها ».. وقد يتضخم هذا الشعور ويتفاقم ويتزايد على نحو سرطانى لا يرى فيه الآدمى إلا ذاته !
وقد ينجرف هذا التضخم إلى عبادة الذات والإمعان فى التشيع لها ، وقد يتشدق هؤلاء بالمساواة ، ولكنهم ـ فى الواقع ـ فى هلعٍ من التشابه والتماثل .. سيما فيما ينال أو يؤثر بالنقص على « المكانة ” العليا التى يعتقدونها لأنفسهم أو يتوهمونها أو ينشدونها .. وأمثال هؤلاء فى صراع لا ينى ولا يهدأ للطفو فوق بحر العاديين غير المعروفين من الناس .. يسعى كل منهم ليقرئ الدنيا اسمه ويحفره إن استطاع على جدار الزمن !
هذه الطبيعة الآدمية كانت وراء حرص الإسلام على رفع قيم الإيثار والتكافل والعناية بالغير والوفاء بحقوق الناس .. ويطالع القارئ فى القـرآن الحكيـم قول رب العـزة : « وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ ولا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ » ( الحشر 9 ) .. ويطالعون فى سيرة وحديث رسول القرآن ـ صلى الله عليه وسلم : « إن الأشعريين كانوا إذا أرملوا فى غزو ( طال بهم ) أو قل فـى أيديهم الطعام ، جمعوا ما عندهم فى ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم بالسوية ، فهم منى وأنا منهم » … ويقرءون فى الحديث : « لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه » .
أبو عبيدة بن الجراح
وإنكار الذات
فى سيرة الصحابى الجليل أبى عبيدة بن الجراح ، أمين الأمة وأحد العشرة المبشرين بالجنة ، مواقف عديدة فى سيرته توارت فيها ذاته تواريًا تامًّا ، حتى أطلقت عليه فى كتاب كتبته عنه : « عبقرية إنكار الذات » ..
فى سقيفة بنى ساعدة حيث اجتمعت الأنصار ، يوم قُبِض المصطفى عليه الصلاة والسلام ، أتته البيعة بالخلافة شاخصة إليه بغير سعى منه ولا طلب ، حين ناداه الفاروق عمر بن الخطاب : ” امدد يدك أبايعك ” .. ولكنه لم يمدد يده ، وإنما عاتبه مغاضباً كيف يبايعه ويتجاوز أبا بكر الصديق وثانى اثنين ؟! فلما لحق بهما أبوبكر ، وأراد أن يبايع أحدهما : الفاروق أو أبا عبيدة ، أبيا عليه معًا ، وصمم كلاهما على مبايعته هو بالخلافة ، وتابعهما الأنصار والمهاجرة .
لم يكن هذا الإنكار للذات زهداً فى هين من الأمور ، وإنما فى خلافة المسلمين .. بينما طبائــع الناس تسعـى للصدارة إلى حد الاقتتال .. يستحضر ما فعله أبو عبيدة يوم السقيفة ، ما صنعه فى غزوة ذات السلاسل ، يوم أرسله النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ على رأس مائتين من كبار الصحابة ، مدداً إلى عمرو بن العاص الذى تمسك بأن تكون القيادة له ، فغضب كبار الصحابة لمنزلة وسابقة أبى عبيدة ، ولكنه أبى الخلاف وتذكر ما وصاه به النبى عليه السلام ، فبادر إلى عمرو يقول له : « وإنك والله إن عصيتنى أطعتك » !
وتمر السنون ، وفى ميدان معركة اليرموك ، يأتى كتاب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى أبى عبيدة ، يخبره بوفاة الصديق رضى الله عنهما ، وبالبيعة له ، ويأمره بعزل خالد بن الوليد وتولى القيادة مكانه ، ولكن أبا عبيدة يطوى الكتاب ولا يحدث به أحدًا ، حتى أتم القائد خالد نصره العظيم .. هنالك استفسره خالد حين علم بالنبأ : « يرحمك الله أبا عبيدة . ما منعك من أن تخبرنى حين جاءك الكتاب » ؟! فما زاد عبقرى إنكار الذات على أن قال له : « كرهت أن أكسر عليك حربك . ما سلطان الدنيا نريد ..كلنا فى الله إخوة » .
كان خالد بن الوليد فى الأوج السامق يوم عاد الفاروق وعزله عزلاً تامًّا ، وأمر باقتسام ماله ، فخضع للأمر ينفذه علانية بالمسجد بلال بن رباح ويقتسم حتى نعليه ، فلم يخلع القائد العظيم لباس الطاعة ، واستمر يؤدى واجبه جندياً عادياً فى صفوف المسلمين ، ولم يساير من واساه بأنها الفتنة ، فقال له فى إنكار هائل للذات : « أما وابن الخطاب حىّ فلا » !
قبل هؤلاء العظام ، كان السائد فى الجاهلية منطق عمرو بن كلثوم :
إذا بلغ الرضيع لنا فطامــا تخر له الجبابر ساجدينــا
ونشرب إن وردنا الماء صفواً ويشرب غيرنا كدرا وطينـا
فكيف انتقل الإسلام بهؤلاء هذه النقلة الكبيرة ، وكيف استطاع أبو عبيدة بن الجراح وأترابه ، أن ينكروا ذواتهم هذا الإنكار فى باحة الإسلام ؟! كيف لم يهمهم أن يقرءوا أسماءهم ، أو أن يمنحهم الناس الصيت والمجد ؟! كيف ذابت ذواتهم حتى صار الواحد للكل ، والكل فى واحد ، حتى قال أبو عبيدة وهو أمير الأمراء بالشام : « إنى مسلم من قريش .. وما منكم مـن أحد ، أحمر ولا أسود ـ يفضلنى بتقوى ، إلاّ وددت أن أكون فى إهابه ».
إن الإيمان الذى عمّر قلوب هؤلاء الأبرار ، هو مفتاح هذه الصور الرائعة لإنكار الذات .. أعانهم على تمثل هذه المعانى والتخلق بها ، أن كل العبادات والمعاملات والأحكام الإسلامية اهتمت بالجوهر وشجبت ونفرت من كل صور الادعاء والرياء والتظاهر والاستعراض .
المسلم السوى لا يفتنه شىء من زخارف الدنيا ، ولا يعنيه أن يمنحه الناس صيتًا أو مجدًا ، أو حتى أن يعرفوا وجوده ، لأن الناس فانون ، والله تعالى وحده حىّ لا يموت .
المسلم السوى يتوحد مع الكل .. يعى أن نفحة الله تعالى فيه هى للكل ومن أجل الكل ، لا تهمّه صدارة ولا قيادة ولا وجاهة ولا أبهة .. يدرك أن الصورة الإسلامية الحقيقية إنما توجد مع وجود المعنى الجامع وهو الله عز وجل ، وبالولاء المطلق لله عز وجل ، وفيه وبه لا تنشد النفس سوى رضائه سبحانه الذى تتضاءل وتتلاشى أمامه مغريات المكانة والتصدر والوجاهة !!
لقد علم هؤلاء الأبرار من السابقين الأولين من الإسلام ، أن القيمة هى فى الإخلاص وصدق التوجه ونبل الغاية وطلب الحـق لا طلـب السمعـة .. لذلك فهمـوا أن « المكانة » فى الدنيا وهم وسراب ، وأن المسلم السوى لا يفتنه شىء من ذلك ، لأنه موقن ـ بما زرعه الإسلام فيه ـ أن الناس ينسون ويموتون ، وأن الله تعالى وحده حى لا يموت .
حاذر أن تضرك الشواغل إذا خلوت منها وأنت فيها ، نور الحق أضوأ من الشمس ، والطريق إلى الله خالٍ من أهل الشك ومن الذين يتبعون الشهوات ، وهو معمور بأهل اليقين والصبر ، وهم على الطريق كالأعلام . وفى القرآن الحكيم « وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ » .
من الحكم العطائية : « فراغُ قلبك من الأغيار ـ يملأه بالمعارف والأسرار »
من عرف نفسه اشتغل بإصلاحها عن عيوب الناس .