في دوحة الإسلام (83)
أبو ذر الغفاري التقى الزاهد الصادق اللهجة
في دوحة الإسلام (83)
نشر بجريدة صوت الأزهر الأربعاء 8/9/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
أبو ذر الغفاري التقى الزاهد الصادق اللهجة
آمن الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري أن الترف آفة ومفسدة في ذاته، به تنصرف النفوس عن جواهر الأشياء، وتعتل الضمائر، وتخفت الطاقة الروحية!! ولكن اللافت للنظر، أن «معارضة» أبى ذر الغفاري على شدتها لم تمتزج بتمرد أو تآمر أو عصيان، ممــا ينبئ عن أن الرجـل فهـم الشرعية وحدودها بفطرته ـ فلـــم تكـــن هـــذه التعبيرات قـــد نحتت في الخطاب السياسي بعـد، ولكنهـا الفطـرة التي أدركت بحسها أن المعارضة فرع علـى إبداء الرأي، وأن إبداء الرأي ليس حقـًا وكفي، وإنما هو واجب يصل إلى فرض كفاية، وقد يتسع ليكون ـ في بعض الأحيان ـ فرض عين، ـ وأن إبداء الرأي هذا ليس تآمـرًا ولا عصيانًا ولا تمردًا، وإنما مساهمة واجبة لكلّ بقــدر ما يفهم ويعي ويقدر في صدق وتجرد وموضوعية، لذلك لـم يجـد أبو ذر تناقضًـا بين أن يعارض عثمان بقـوة، ولا أن يشق عليه بل ويغلظ في القــــول أحيانًا، وبين أن يسمـع لـه في النهاية ويطيع ويقول له: «لست منهم ـ من المتآمرين ـ يا أمير المؤمنين»، ولا بين أن يقول لمحرضيه: «والله لو أمرنى عثمان أن أمشى على رأسى لمشيت».
لذلك كان هذا النموذج الراقـى نموذجًا لازم الالتفات إليـه في هـذا الزمان الذي اختلطت فيـه الأوراق بين النقــد والسـب.. بين المعارضة والتهجـم، بين إبداء الرأي والعصيان أو التآمر.. وقـد كـان أبو ذر يكاد يكون نسيج وحده في هذا كله، فبقى في أوانه وفي كل أوان رمزاً بالغ الثراء لشجاعة الرأي، وقوة الحجة، ورشاد المعارضة وأدب الاختلاف !!
والمتأمل في سيرة وحياة أبى ذر، يستطيع بلا عناء ولا اعتساف أن يلمس ميولاً عامة تنحاز بالفطرة إلى العدل والتشيع للحق وأصحاب الحق باعتباره في جوهره انحيازًا للعدل.. ومن هذا الانحياز للعدل ـ انحيازه للفقراء والبسطاء والمساكين، وانحيازه للأمة ـ أو الشعب بتعبير العصر ـ إزاء الولاه والحكام.. وموقفه من كنز الأموال وتضخم الثروات ـ كان انحيازًا لا شك فيه للفقراء، ووعيًا بالفطرة لوظيفة المال الاجتماعية.. ويتوقف المرء طويلاً، وبإعجاب، ـ أمام الحوار الذي أداره أبو ذر مع معاوية بن أبى سفيان والـى الشام.. حول المال ـ لمن ؟!!.. هل هـو لله، أم هو للمسلمين ؟!! هل المال مال الله كما بلغه أن معاوية يقول ؟!!، أم أن المال مال المسلمين كما ارتأى أبو ذر وقال !!.. إن الأفكار والمقولات الشائعة في ذلك الوقت كانت ترد الأشياء كلها إلى الله، وترد الخلافة نفسها إلى الله، والخليفة ذاتـه يحكـم بأمـر الله وبظل الله، فكل شيء لله، مـن الله وإلى الله، فهو سبحانه الخالق، وهو سبحانه الوارث الباقي الواهب الرازق، والباسط القابض، والمعطى المانع، فما المانع مـن أن يكـون المال مال الله ؟!!.. فهـو بالفعل مال الله، وهو سبحانه وتعالى الذي استخلفنا فيه..
بيد أن أبا ذر رأي بفطرته أنها مقولة حق يُراد بها باطل، وأنها تؤدى للركـــوب علــى رقاب الناس، وتبرر احتجـان الأمـوال.. لا تبسط ولا تمنـع إلاّ بأمر الوالي الموكول إليه الذي يحكم الناس بأمر الله ؟!!، ويتصرف بالتالي فيما لله ؟!! فصمم على إبداء أن المال مال المسلمين.
عَبّرَ أبو ذر بفطرته عن فهمه وانحيازه لجانب الأمة، وعن إدراكه لمخاطر ومحاذير المقولة التي يمكن أن تحـول الوالي إلى سلطة غاشمة مانحة مانعة تتصرف بغير حـق في مـال الناس.. فالحـق في المـال هو لمجموع الناس، والحاكـم ينبغي أن ينوب في إدارتـه لهـذا المـال والتصرف فيه عـن الناس، تحت حساب ومراجعة الناس !..
إمهال المعسر
التعاطف والتراحم والتساند والتسامح والإحسان، فضائل حاضرة من شيم ومناقب الإسلام التي حض عليها ودّعّا إليها.
روى بإسناده عن عبد الله بن عباس، أن الرحمة المهداة عليه الصلاة والسلام قال:
«من أنظر معسرًا ــ أي أمهله ــ أو ترك له، أظله الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلاَّ ظله».
يأبى الإسلام أن يكون المؤمن سيفًا على المعسر، أو سببًا لزيادة كربه وهمومه في شدته.. فالمعسر ضاقت به ظروفه وضائقته عن الوفاء، ولم يقصد إلى الإفلات من التزاماته..
إمهاله هنا يمكن أن يساهم في تجاوز إعساره.
والتعسف يمكن أن يزيد ضائقته ويضاعف إعساره ويُربى عجزه الذي غلبته فيه الظروف التي لم تكن من صنعه !
هذا الإمهال مزيج من التعاطف والتراحم والتساند، ومن التسامح والتكافل والإحسان، وكلها مناقب يراها المسلم في القرآن الكريم، وفي السنه النبوية، وفي سير الصالحين والأبرار.
روى الإمام مسلم بسنده ــ في صحيحه، عن أبى مسعود الأنصاري وحذيفة بن اليمان عليهما الرضوان، أن الرحمة المهداة عليه الصلاة والسلام ذكر رجلاً كان مسرفًا على نفسه، حوسب فلم يوجد له حسنه، فقيل له: هل عملت خيرًا قط ؟ قال: لا ؛ إلاَّ أنى كنت رجلاً أداين الناس، فأقول لفتياني سامحوا الموسر، أي تعاملوا معه بالسماحة، وانظروا المعسر، أي امهلوه. وقيل في لفظ آخر: وتجاوزوا عن المعسر. فقال الله تعالى: «نحن أحق بذلك منك. فتجاوز الله عنه، وغفر له..»
وفيما رواه ابن ماجه وأحمد والحكم بإسنادهم، أن نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام قال: «من أقرض دينارًا إلى أجل فله بكل يوم صدقة إلى أجله، فإذا حل الأجل فأنظره بعده ــ أي أمهله، فله بكل يوم مثل ذلك الدين صدقة».
ولا يفوت المؤمن المخلص البصير، أن الله تعالى يُربى هنا الثواب والصدقات، ويثيب من أقرض بلا ربًا ولا فائدة، فقد ترك الربا بإسماحه وكرم سجاياه، إيثارًا للرحمة والتعاطف وطاعة لله تعالى الذي حرم الربا وأربى الصدقات، وقال في كتابه العزيز.
«يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ» ( البقرة 276)
إمهال المعسر مكرمه مندوبة، ومنزلتها عند الله تبارك وتعالى عزيزة كبيرة، وثوابها عظيم.
والراحمون في الحديث الشريف يرحمهم الرحمن، والنداء إلى المؤمنين بأن يرحموا من في الأرض يرحمهم من في السماء..
هذا ووفاء المعسر واجبٌ عليه حين تنفك ضائقته، فالوفاء بالعهد والوعد والميثاق مبدأ عام أوصى به القرآن المجيد.
قال عز وجل:
«وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً» (الإسراء 34)
وقال جل شأنه في صفات المؤمنين:
«وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ» (البقرة 177)
والعقد فرع على العهد، الوفاء بكليهما واجب، يقول لنا تبارك وتعالى:
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ» (المائدة 1)
صدق الله العظيم
إمهال المعسر لحين ميسرة، ليس دعوة لإمهال الموسر، وليس بابًا للتهرب من الوعود والعهود والعقود. كلاهما واجب، يحكمه الإخلاص وصدق النية، والأخوة الحقيقية التي أرادها الله تعالى بين عباده.
عن الهادي البشير عليه الصلاة والسلام أنه قال:
«من يسر على معسر في الدنيا، يسر الله عليه في الدنيا والأخرة، والله تعالى في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه» صدق رسول الله
إن الله تعالى جعل نعمته سببًا لمعرفته
وتوفيقه سببًا لطاعته
وعصمته سببًا لاجتناب معصيته
ورحمته سببًا للتوبة إليه
والتوبة سببًا لمغفرته والدنو منه
وعلامة القرب الانقطاع عن كل شيء سوى الله تعالى..