في دوحة الإسلام (74)
في دوحة الإسلام (74)
نشر بجريدة صوت الأزهر الأربعاء 30 / 6 / 2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
الإخلاص والولاء لله
يقتضي احترام عباده
على عكس ما يفهم بعض الغلاة والمتطرفين والسطحيين، فإن الولاء لله عز وجل، والإخلاص في عبادته، لا يعطى لأحد الحق في الاستخفاف بعباده أو ازدرائهم.
لا يكون الولاء لله عز وجل. بمعزل عن الاعتراف الكامل الصادق المخلص بعباده، أي الاعتراف بوجودهم وجودًا حقيقيًّا فعليًّا مماثلا لوجودنا تمامًا، وليس محض تفضل منا عليهم أو مِنَّة لا نقر لهم فيها إلاَّ بمحض وجود شكلي مبهم لا يقتضينا عملاً يصادقه ويترجم عنه.
والإقرار الصادق بوجود عباد الله، يستحيل معه ولا يستقيم ـ أن نستخف بهم أو نتعالى عليهم، أو نجازف بحيواتهم وبمصائرهم طمعًا أو عنادًا أو طيشًا.. بل ويستحيل مع هذا الإقرار الصادق أن نصبر أو نغضى أو نسكت على ظلمهم أو إرهاقهم وإعناتهم وشقائهم.. فذلك يوقعنا ـ مهما واريناه ! ـ في تناقض يكذب إخلاصنا وصدق ولائنا لله عز وجل..
ليس من الولاء لله جل شأنه، أن نستخف ناهيك بأن نزدرى عباده، وأن نعطى لأنفسنا الحق ـ استعلاءً واستخفافًا ـ في التحكم في مصائرهم أو تحريكهم على هوانا، وقد نستطيع بالتجمل والمصانعة أن نستخفي بما نفعـل، بيـد أن هـذا الاستخفـاء لا يوجد ولا يستقيم معه الولاء لله عز وجل، ولا يمكن معه أن نكون أوفياء العهد لله أو قريبيـن منه تعالى. فمن المحال وجود هذا القرب مع مسخ عباده وتحويلهم إلى مخلوقات كئيبة بائسة نصب عليها المزيد من ازدرائنا لها !
الله تعالى كرم الإنسان من حيث هو إنسان، دون نظر إلى جنس أو عرق أو جاه، وقال لنا في كتابه المجيد:
« وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً » ( الإسراء 70 )
والقرآن الكريم وإن أعطى التفاوت بين الناس القائم على العلم والاجتهاد ـ أعطاه حقه، فإنه قد أعطى المساواة بين الناس حقها، وقال لنا الله في خطاب عام إلى الناس جميعًا، لا إلى دين أو طائفة بعينها:
« يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ » ( الحجرات 13 )
وهذه الآية القرآنية الجامعة، تنبهنا إلى أن أصل الإنسانية واحد، وبذلك تكرر الخطاب في القرآن الكريم. فقال تعالى للناس كافة:
« يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَـا » ( النساء 1 )
« وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ » ( الأنعام 98 )
« هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا » ( الأعراف 189 )
مسخ عباد الله هو نسف وتدمير لباطن الآدمي، له في نفسه أثرٌ غائر بعيد الغور من طول التعرض لتأثير الهوان والإذلال، والخوف والقسوة، والتجاهل والإهمال..
ومن يُجبر على احتمال هذا الشر، يسكن أثره فيه ويستسلم له بحكم الاعتياد، ومن المحال ألاَّ يترك ذلك ندوبا عكسية تدفع إلى العناد، وإلى ما يجاوز العناد !
وكيما يتضح لنا مناقضة هذا الازدراء لعباد الله ـ للولاء لله عز وجل، فإن هذا الازدراء للآخرين يسلس بل يقود إليه ـ غرورنا ومبالغتنا في قيمة أنفسنا واعتقادنا الفاسد الضرير بأننا وحدنا من يملك المكانة والعصمة والعلم والحكمة، ويحتكر الصواب.. وكل ذلك لا يكون ولا يستقيم مع صدق الولاء لله عز وجل، وتطامننا المخلص إليه سبحانه وتعالى، وأن كلمته الأعلى جل شأنه ـ أعلى منا ومن أنفسنا وإليها مقاليد الحكم بين الناس !
يقول تبارك وتعالى في كتابه العزيز:
« شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ » ( آل عمران 18 ) صدق الله العظيم
« بم تقضى يا معاذ » ؟
سأل الهادى البشير عليه الصلاة والسلام صاحبه معاذ بن جبل ـ سأله وقد وجهه إلى اليمن داعيًا وقاضيًا: بم تقضى يا معاذ ؟
أجاب: بكتاب الله.
سأله الرسول: فإن لم تجد في كتاب الله ؟
أجاب: أقضى بسنة رسوله.
سأله الرسول: فإن لم تجد في سنة رسوله ؟
أجاب: أجتهد رأيى، ولا آلو… أى لا أقعد أو أقصّر.
فتهلل وجه الرسول عليه الصلاة والسلام، وقال:
« الحمد لله الذى وفق رسولَ رسولِ الله لما يُرضى رسولَ الله ».
يرينا هذا الموقف النبوى أن الاجتهاد مطلوب، وأنه جزء من بنْية الإسلام، على أن هذا الاجتهاد ليس لكل شخص، وإنما للعارف العالم القادر على استنباط الفرعيات من قواعدها الكلية.
فالمخاطب هنا لم يكن من الآحاد، وإنما هو صحابى جليل، صاحب علم ومعرفة بالقرآن والسنة، وبأحكام الدين. ولذلك كان انتدابه من الرسول لتفقيه أهل اليمن والقضاء فيما بينهم..
كذلك كانت المهمة الموكولة إلى الصحابى الجليل، في أرض بعيدة عن المدينة بمئات الفراسخ، ويستحيل عليه في المشاكل أو المعضلات العاجلة أن يرجع إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، ومن ثم كان عليه أن يجتهد رأيه ولا يألو..
صدق تهلل الرسول عليه الصلاة والسلام، وصدقت فراسته، فكان توظيف « معاذ » لعلمه وفقهه وملكاته العقلية، آية على رشاد الإسلام وبنيته الحية، مع وجوب رجوع من لا يعلم إلى أهل الذكر لنشدان المعرفة والجواب.
يقوان تعالى: « فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ » ( الأنبياء 7 )
يحتفظ المسلمون بمكانتهم بين أمم العالم ما احتفظوا بفريضة التفكير.
المقربون
مر أحد الأنبياء عليه السلام على طائفة من العبّاد احترقوا من العبادة، فقال: من أنتم ؟ قالوا: نحن عباد الله. فقال: لأى شىء تعبدتم ؟ قالوا: خوفنا الله من ناره فخفنا منها. قال: حق على الله أن يؤمنكم مما خفتم منه. ثم جاوزهم فمر بآخرين أشد عبادة منهم فقال لهم: لأى شىءٍ تعبدتم ؟ قالوا: شوقنا الله إلى الجنان وما أعد فيها لأوليائه فنحن نرجوها. فقال: حق على الله أن يعطيكم ما رجوتم. ثم جاوزهم ومر بآخرين يتعبدون فقال لهم: من أنتم ؟ قالوا: المحبون لله.. لم نعبده خوفًا من ناره ولا شوقا إلى جنته ـ ولكن حُبًّا له وتعظيما لجلاله. فقال: أنتم أولياء الله حقًّا. معكم أُمرت أن أُقيم. وفي لفظ آخر أنه قال للأولين: مخلوقًا خفتم ومخلوقًا أحببتم، وقال للآخرين أنت المقربون.
* * *
ـ القلوب أوعية، فإذا امتلأت من الحق ـ فاضت زيادة أنوارها على الجوارح.
ـ الصبر زاد المضطرين، والرضا درجة العارفين.
ـ لا يصفو قلب لعمل الآخرة ؛ إلاَّ إذا تجرد من حب الدنيا !
ـ الصبر مراتب: أوله ترك الشكوى، وآخره الرضا بالمقسوم.
ـ من الحكم العطائية: « لا تستغرب وقوع الأكدار ما دمت في هذه الدار، فإنها ما أبرزت إلاَّ ما هو مستحق وصفِها، وواجب نَعْتِها ».