في دوحة الإسلام (70)

في دوحة الإسلام (70)

نشر بجريدة صوت الأزهر الأربعاء 2/6/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

من يتأمل في الكون، يلقى نعمًا من الله تعالى لا تُعد ولا تُحصى، منها ما يراها ببصره، أو يسمعها بسمعه، أو يدركها بحواسه، ومنها ما يشعر بها وبفضلها وإن لم يرها رأي العين، وأولاها من أنعم به الله على مخلوقاته.. وما زودنا به سبحانه مما نعرفه ومما لا نعرفه أو خفي عنا أو لم تفهمه عقولنا ومداركنا..

يقول الخالق البارئ جل شأنه:

« إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ » ( آل عمران 190، 191 ).

وكان الهادي البشير يحدث بذلك المسلمين، فيقول لهم:

« ويل لمن قرأها ولم يتفكر ».

ويوصيهم بقوله: « تفكروا في خلق الله، تفكر ساعة تخيرٌ من عبادة سنة ».

في بعض هذه الخيرات التي أفاء بها الخالق البارئ، يقول عز وجل:

« أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ * رِزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ » (سورة ق من 6 ـ 11).

أعظم آيات الله ونعمه، هي في خلقنا وفي داخلنا.. هذا العالم الكبير الذي نجهل معظمه، وتجرى به وعليه حياتنا، وتفكيرنا وذاكرتنا، وحركاتنا، وسكناتنا، وحركة أعضائنا، وما في المخ من ملايين الخلايا التي تحكم أعصابنا وكافة حواسنا.. أجمل الله تعالى هذه النعم، في آية واحدة من أربع كلمات. يقول لنا عز وجل:

« وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ » ( الذاريات 21 ).

فضل المخلوقات يستوجب الشكر، فكيف بأفضال الخالق البارئ جل شأنه، التي لا تُعد ولا تُحصى، وتستعصى على العد والإحصاء..

يقول لنا عز وجل في كتابه الكريم:

« وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ » ( النحل 18 )

ويقول تعالى:

« أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ » ( لقمان 20 ).

بسم الله الرحمن الرحيم..

« لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ »  ( إبراهيم 7 )

بهذا وعدنا الرحمن في قرآنه الكريم..

لا حاجة به سبحانه وتعالى إلى شكرنا، وإنما يدل الشكر على عمق وصدق الإيمان بالله، ومعرفة أن كل نعمة هي منه سبحانه وتعالى، وبمشيئته وفضله.. هو جل شأنه غنى عن شكرنا، وغنى عنا، ولكنه لا يرضى لنا الكفر والخسران، ويحب لنا التصديق والإيمان، وما يدفعان إليه من إقبال على الطاعات والخيرات..

رضاه سبحانه في شكره بما آمنت به قلوبنا وأفئدتنا..

وسخطه في الكفران به وبنعمته علينا.

يقول الحق جل شأنه:

« إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ »  ( الزمر 7 ).

هذا الشكر آية على صدق الإيمان، وعلى صفاء النفس، وطهارة القلب، وسلامة الصدر، وكمال العقل والفكر.

هذا الشكر مقرون بالذكر في القرآن الحكيم..

والذكر أعظم فضائل الإيمان..

ولذكر الله أكبر.

يقول تعالى:

« فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ »  ( البقرة 152 )

« يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ »

( البقرة 172 ).

وصدق جل علاه إذْ يقول:

« وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ » ( لقمان 12 ).

صدق الله العظيم

من اقتصد أغناه الله

روى بإسناده عن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه قال:

« من اقتصد أغناه الله، ومن بذر أفقره الله »

في هذا الحديث دعوة إلى الوسطيّة، وهي مكرمةٌ ومعلمٌ من معالم الإسلام.. الحديث يدعو إلى التوسط ما بين الاقتصاد والتبذير.

يقول الله تعالى في كتابه العزيز في وصف المؤمنين:

« وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا » (الفرقان 67)

وفي سورة الإسراء، يوصى سبحانه:

« وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا » (الإسراء 29)

ليس في دعوة القرآن والسنة حضٌّ على الشح والإمساك أو التقتير، فقد نهي القرآن عن الشح والتقتير، مثلما نهي عن الإسراف والتبذير.. سبحانه القائل:

« وَأَنفِقُوا خَيْرًا لأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ » ( التغابن 16 )

وفي سورة الأعراف: « وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ » ( الأعراف 31 ).

في نطاق هذه الفلسفة القرآنية لوظيفة المال في الإسلام، تقوم دعوة الهادي البشير عليه الصلاة والسلام..

ومما كان يقوله للمسلمين: « إن الله يكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال ».

الاعتدال وسط بين التقتير والتبذير..

يقول عليه الصلاة والسلام: « كل ما شئت والبس ما شئت، ما أخطأتك خصلتان: سرف ومخيلة ».

الكلمة الطيبة

يقول اللطيف الخبير في كتابه العزيز:

« إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ » ( فاطر 10 )

مع قيمة الكلمة الطيبة، فإنها أثمن قيمة وأبلغ أثرًا إذا ما ارتبطت بالعمل، وتريدنا الآية الكريمة أن نفهم أن العمل الصالح هو الذي يرفع الكلم الطيب إلى الله سبحانه وتعالى.

الكلمة الطيبة صدقة، وهي مفتاحٌ للمحبة والمودة، والبر والمعروف، وأوصانا بها رب العزة فقال سبحانه:

« وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً » ( البقرة 83 )

ودلنا الصادق المصدوق، عليه الصلاة والسلام، أن استقامة اللسان من خصال الإيمان، فقال: « لا يبلغ عبدٌ حقيقة الإيمان حتى يخزن من لسانه ».

ولقيمة الكلمة وأثرها، حثنا الرحمةُ المهداة ـ عليه الصلاة والسلام ـ على أن نلقى لها بالاً، وأن نحترس من إطلاق القول على عواهنه، فنخطئ طريقنا، وتلتبس غاياتنا، فنسئ حيث يجب علينا أن نحسن.

يقول عليه الصلاة والسلام، فيما روى عنه بإسناده:

« إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقى لها بالاّ يرفعه الله بها درجات في الجنة، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقى لها بالاً يهوى بها في جهنم »

هذه المقابلة إيقاظ وتنبيه، وقد روى أن أسود بن أصرم المحاربي، أتى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يومًا فسأله أن يوصيه، فقال له:

« لا تقل بلسانك إلاَّ معروفًا، ولا تبسط يدك إلاَّ إلى خير »

لذلك كانت استقامة اللسان ـ فيما علمنا ـ من خصال الإيمان.

وصدق جل علاه إذ يقول في كتابه العزيز:

« إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ » ( فاطر 10 )

*      *       *

  • المؤمن يعرف أننا دخلنا الدنيا عابرين، غير مستوطنين ولا مقيمين.. مجرد عابري سبيل؛ الدنيا منزل عبور ومعبر مرور. المؤمن يتزود فيها لدار القرار، وصدق سبحانه وتعالى: « وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ » ( البقرة 197 ).
  • إذا اكتمل القلب بنور ذكر الله، وصار بحرًا موّاجًا من نسمات القرب، جرى في جداول أخلاق النفس صفاء النعوت والصفات، وتحقق التخلق بأخلاق الله تعالى.
  • قال بعض العارفين: المعرفة توجب الحياء والتعظيم، كما أن التوحيد يوجب الرضا والتسليم.
  • قيل في العارف إنه أنس بذكر الله فأوحشه من خلقه، وافتقر إلى الله فأغناه عن خلقه، وذلَّ لله تعالى فأعزه في خلقه.

*      *       *

من سنن الوجود

أن الشر لا ينقطع عن العالم !

ومن فضل الله ورحمته ؛

أن لطفه غالب

سبحانه

لا يترك أحدًا من عباده

دون أن يدركه بلطفه ورحمته !

 

 

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى