في دوحة الإسلام (66)
في دوحة الإسلام (66)
نشر بجريدة صوت الأزهر الأربعاء 28/4/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
نمضي معًا مع شهر الصوم وشهر المواساة، وشهر القرآن، وليلة القدر.
من تكريم الحق سبحانه وتعالى للصوم، أن جعله له، وخصه عن كل أعمال ابن آدم بهذه المكرمة.
كل عمل ابن آدم له إلاّ الصوم فإنه لى
روى بإسناده، عن أبى هريرة رضى الله عنه، أن الهادي البشير عليه الصلاة والسلام قال:
« قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلاَّ الصوم فإنه لي وأنا أجزى به، والصيام جُنة ( أي وقاية )، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ( أي لا يفحش في القول )، ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم. إني صائم ».
* * *
يدلنا الحديث أن الصوم ينقسم عند الله أعلى الدرجات، فكل عمل ابن آدم له، إلاَّ الصوم.. فإنه لله تعالى وحده، يصوم العبد إلى الله، ويتجه بصومه إليه، لا يراه في صدق صيامه وصدق التزامه به إلاَّ الخالق العليم وحده.. الذي يعلم السر وما يخفي، فالآدمي قد يتظاهر بالصيام أمام الناس ـ اتقاءً للنقد أو طلبًا للسمعة أو انتحالاً للصلاح والاستقامة، ولكنه مفطر يتوارى بإفطاره عن الناس، ولكنه لا يستطيع أن يتوارى عن العليم الخبير..
وكيف يتوارى والحق جل شأنه يقول: إلاَّ الصوم، فإنه لي، وأنا أجزى به ».
* * *
ونرى في الحديث أن الصيام « جنّة ».. أي وقاية وعاصم. لماذا ؟ لأنه ليس فقط امتناعًا عن الطعام والشراب، ولكنه فضلاً عن الإقبال على الطاعات، فيه إقلاع وكفٌ عن المنكر.. لا رفث أي لا فحش في القول والسلوك، ولا صخب ولا فسوق ولا تطاول ولا انحراف، بل ودعوة إلى عدم مواجهة الشر بمثله ـ فإن سبه أحدُ أو شتمه، فليعتصم بصومه، وليقل له إني صائم إني صائم . ففي هذه القالة تذكير له بصيامه الذي هو « جنّة » ووقاية من الإزدلاف إلى كل أنواع الموبقات.
* * *
غاية الصيام غرس خلق المراقبة وخلق الصبر، والتقوّى بالعزيمة على الطاعات، والكف عن كل أنواع المنكرات .
الإنسان أحوج إلى التذرع بخلق الصبر ليثبت ويحتمل.. ولخلق المراقبة ليتقي الله ويستعين به ويعتمد عليه، وليقيم نفسه على الصراط الحق.
فرض الله الصيام على عباده ليغرس فيهم ملكة الصبر والمراقبة.. ومن ثم كان على الصائم أن يجعلهما قبلته وغايته.
ينبغي للصائم أن يكون زكى القلب، صافي النفس، مهذب الروح.. في نهاره وفي ليله، لائذًا بنفحات الشهر الكريم ومدده، ليكن صائمًا حقًا كما مره الله وأراده منه .
لماذا يصوم الفقير
كنت مدعوًا « على الهواء»، في اليوم الأول من شهر رمضان من عدة سنوات، بإحدى الفضائيات، مع فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر الدكتور محمد سيد طنطاوي، لنتحدث عن الشهر الكريم، وعن الصيام.. كان السؤال الأول الذي عنى مقدم الندوة أن يطرحه، منقولاً عن تساؤلات الشباب: لماذا الصوم ؟!.. أليحس الصائم ـ كما يقول البعض ـ بجوع الفقير فينعطف قلبه له، وتفيض مشاعره وعواطفه تجاهه، فتحرك الرحمات وتحض على البذل والعطاء.. فإذا كان ذلك ـ فيما تردد تساؤلات الشباب ـ فلماذا صوم الفقير وهو مكوى بالجوع يكابده ويقاسيه طوال أيام العام ؟!!
* * *
خطأ هذا المطروح، خطأ مركب، لأنه خطأ فيما يصدر عنه التساؤل البريء من بعض الشباب، وخطأ أيضاً فيما يبديه البعض من جواب أو تفسير أو تعليق عن سبب للصيام، يعزونه إلى الإحساس بفقر وجوع ومسغبة الفقير.. كان يمكن أن يستقيم التساؤل، والتفسير، لو كان الصوم محض صيام وكف عن الطعام والشراب لمدة معلومة.
* * *
بيد أن القرآن المجيد، والسنة النبوية ـ يدلان على أن الصوم ليس محض انقطاع لأجل معلوم عن الطعام والشراب، ولكنه مجاهدة شاملة، ورحلة تعبدية كاملة ، ليس حسب العابد المرتحل فيها أن يصـوم عـن الطعام والشراب، وإنما يتوجب عليه أن يصوم أيضا عن « الرفث والفسوق، وعن السباب والكذب وقول الزور »، وعن « الصخب والتقاتل والفحش »، وعن سائر النواهي التي لا يستقيم الإقبال عليها أو الوقوع فيها مع أنسام الشهـر المبارك وغاية الصـوم الذي جعلـه الله تعالى للإنسان « وجاءً » وسبيلاً لكف نوازع وشهوات الجسد، والتضييق على وساوس الشيطان هذه الغاية المثلى لا تتحقق إلاّ بهذا الصيام الجامع المتعفف عن السقوط في وهدة المعاصي والآثام التي تتجافي مع جلال الصوم.. في الحديث القدسي: « كل عمل ابن آدم له إلاّ الصوم، فإنه لي، وأنا أجزى به. والصيام جنة ( وقاء ) فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ( لا يفحش في القول )، ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم.. إني صائم »..
* * *
لا معنى لصوم لا يقترن بالكف عن المعاصي والنواهي.. الصيام امتناع وكف وانتهاء عن هذا كله ليستطيع الصائم بهذا الصوم الشامل، أن يتخلص من نداء وشهوات ورغاب الجسد، وأن يفئ إلى عالم الروح، تصفو فيه نفسه من الأدران، ويحلق بقلبه وفؤاده ووجدانه وروحه في أنوار اليقين قربة إلى الله تعالى .
الصوم في رمضان ليس فقط إمساكا عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.. وإنما هو صوم للسمع والبصر والجوارح.. وعن المحارم جميعًا.. عن الرفث والفسوق..
عن الصخب والبغضاء والتشاحن.. عن فضول الكلام.. عن النم والاغتياب.. عن التجبر والعدوان.. عن الكبر والعجــب.. عن الخيانة والكذب واللغو والنفاق.. إنه رياضة روحية ومجاهدة حقيقية، وامتحان لقوة الإرادة في إقامة النفس على الصراط.. ليس فقط بترك النواهي والمحارم، وإنما أيضًا بالإقبال على الأوامر.. على الصدق والإخلاص.. على التواضع والعفو والإسماح.. على التراحم والتواصل والتكافل.. على القول الطيب والعمل الطيب.. على البر بالمساكين، والحدب على الفقراء والمحتاجين.. على الصلاة والتحنـث والعبادة..
* * *
هذا الصيام، أو هذه الرحلة التعبدية الروحانية، ليست إذن محض امتناع عن الطعام والشراب فقط، وليست محض جوع حتى يقال ! فلماذا يصوم الفقير وهو يكاد يكابد الجوع أيام عمره ولياليه.. هذه واحدة، والثانية أن « الجوع » ذاته ليس واحدًا في الحالين.. الجوع المعتاد للفقير المحتاج، جـوع « إجباري » و« ساخط ».. لا خيار فيه للفقير الجوعان ، وإنما هو مجبر مقهور مغبون ملئ بالسخط والإحساس العميق بالظلم !!!
من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا
عن أبى هريرة ـ رضى الله عنه، أن الهادي البشير صلوات الله وسلامه عليه، قال:
« من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفر له ما تقدم من ذنبه ».
* * *
يدلنا هذا الحديث النبوي على فضل صوم رمضان إيمانًا واحتسابًا، وثوابه الفياض عند الكريم العزيز تبارك وتعالى.. يبشرهم عليه الصلاة والسلام بأن الله سبحانه يكافئ الصائم المحتسب بغفران ما تقدم من ذنبه، ثواب إخلاصه وصدق عزيمته وإيمانه واحتسابه في صومه..
* * *
روى أن « أبا أُمامة » طلب يومًا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام أن يأمره بعمل ينفعه، فقال له ـ صلى الله عليه وسلم:
« عليك بالصوم فإنه لا عدل له ».
فكرر أبو أُمامة طلبه، فأجابه عليه الصلاة والسلام:
« عليك بالصوم فإنه لا مثل له ».
وبمثل ذلك أجابه حين سأله أبو أُمامة للمرة الثالثة..
* * *
الصوم دافع ومحفز إلى الخيرات والصالحات، وعاصم من المضلات والمنكرات ـ وهو لذلك لا عدل له، ولا مثل له.. وأعلى درجاته الصيام إيمانًا واحتسابًا، جعل الله تعالى ثوابه غفران ما تقدم من الذنب.
وقيل معنى الإيمان والاحتساب في الصوم؛ النية والعزيمة.. فيكون الصيام تصديقًا واتجاهًا خالصًا إلى الله، بريئًا من الاستعراض والتظاهر وطلب السمعة..
* * *
روى عن الزاهد العابد عبد الله بن عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنهما، أن الهادي البشير عليه الصلاة والسلام قال:
« الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة..
يقول الصيام: أي رب ! منعته الطعام والشهوة، فشفّعني فيه..
ويقول القرآن: منعته النوم بالليل، فشفّعني فيه.
قال عليه الصلاة والسلام: فيشفعان »
فما أجملها وأسماها من شفاعة، تقرّ بها أرواح المؤمنين الصائمين إيمانًا واحتسابًا، العاكفين الساجدين، القائمين على تلاوة القرآن الكريم، والتماس الهدى من مأدبة الله..