في دوحة الإسلام (54)
في دوحة الإسلام (54)
نشر بجريدة صوت الأزهر الأربعاء 6/2/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
إن مع العسر يسرًا
كثيرًا ما نردد لأنفسنا قول القرآن المجيد: « إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ». ويستوقفنا تكرار ذات العبارة في الآية الواحدة، منوهين إلى أن ذلك تأكيد رباني لا يفوت. فهل وعيناه ونعيه حقا ؟! لو تأملنا لعرفنا أن بعد النصب والتعب راحة، وبعد الظمأ ارتواء، وبعد الجوع مهما طال شبع، وبعد الأرق مهما سهدنا نوم، وبعد المرض تأتى بفرج الله العافية، فكم اهتدى الإنسان بعد ضلال، وتغشته الهداية بعد معاناة، وجاءه النور بعد ظلام !
* * *
الحصيف لا يضيق ذرعاً بما يحيط أو يمسك به، فدوام الحال من المحال ! وأجمل الجلد والصبر والاحتمال ـ انتظار الفرج. أليس الحق سبحانه وتعالى يقول في محكم التنزيل: « فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ » (المائدة 52).. الذكي الحصيف من يلملم إرادته وعزمه من براثن الأشجان والأحزان.. أن يصنع من مرارة الليمون شرابا حلواً هنيئا. أن يحول الخسائر إلى أرباح، أن يتعلم حلاوة الرضا والتسليم. فعسى أن يكره الإنسان حاضرا يضنيه لأنه خير له من شر آخر لا يعلمه.. ثم هو بقلبه موصول بالسماء، هي مفتوحة على الدوام لضراعته.. « أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ » (النمل 62).. إليه سبحانه يفزع المكروب، ويستغيث المنكوب.. إنه الله تعالى.. لا إله إلاّ هو، ولا ملجأ منه إلاّ إليه.
* * *
بشرى لكل من صبر على ما يكره، ولم يفقد إيمانه لحظة، ولا تزعزع منه اليقين..
بشرى له لما تجمل به، وبما وعده العزيز المهيمن إياه.. بشرى له بما قدم وبما سينال.. فهو سبحانه قد بشر الصابرين ووعد الصامدين بعظيم الأجر والثواب. وجزيل الرضوان..
* * *
طوبى له أن عرف أمر الولي الحميد فعمل به، واستحق الأجر عليه.
وطوبى له أن عرف الحياة وبلى حقيقتها وعلم أنها ضيق وفرج.. عسر ويسر.. كرب وسرور.. أن العاقبة فيها هي للمتجملين ثابتي العزم واليقين.. الذين مع صبرهم يعطون ولا يملون بذلاً ولا عطاء. ينتظرون الثمر مهما أظلم الليل أو طال المدى.. فهو إلى حين.. وأن نور الفرج لأبد سيعم بضيائه حياة المؤمنين وحنايا قلوب العارفين..
* * *
طوبى لهؤلاء وأولاء، وهنيئًا لهم قول الحق تبارك وتعالى في الحديث القدسي: « إذا ابتليت عبدًا من عبادي مؤمنًا فحمدني وصبر على ما ابتليته فإنه يقوم من مضجعه كيوم ولدته أمه من الخطايا ».
التكاثر الضرير
التكاثر في العدد، والمفاخرة به، خصلة ضريرة، لا عقل لها، ولا حكمة فيها.. نبهنا القرآن الحكيم إلى عمائها وانحرافها عن الغاية التي يرعاها الإسلام ويحض عليها.. فقرع الله سبحانه وتعالى من تركوا التكاثر في العلم والمعرفة والأخلاق والفضيلة، وانحصروا في المفاخرة بأعداد الأحياء والأموات أيضًا، حتى زاروا المقابر ليتذكروا من قُبر فيها ليتكاثروا ويتباهوا به وبكثرة عددهم على منافسيهم، قال لهم عز وجل مؤنّبًا:
« أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ » ( التكاثر 1 ـ 5 )
* * *
هؤلاء يشغلهم التكاثر بالأولاد والأموال، حتى إذا أعوزتهم أعداد الأحياء، زاروا المقابر لإحصاء الأموات، وهذا ألهاهم ويلهى عن التكاثر في العلم والفضيلة والحكمة، ويلهيهم عن عبادة الله ويصرفهم عن ميزان الحسنات في الدار الآخرة. وسوف يعلمون سوء عاقبة ما يفعلون.
* * *
عن هذا التكاثر الذميم في الأموال والأولاد، قال تعالى:
« اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأمْوَالِ وَالأوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ » ( الحديد 20 )
صدق الله العظيم.
الكثرة العددية الظاهرية خواء، لا قيمة لها ولا حصاد.. وضرب لنا القرآن الحكيم مثلاُ بما جرى في غزوة حنين التي أُعجب المسلمون بكثرتهم العددية، وفيهم الطلقاء والمنافقون، فلم تغن عنهم شيئًا.
قال عز وجل:
« وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ » ( التوبة 25 )
الكثرة التي تباهَى بها من تباهوا يوم حنين، كانت مجرد كثرة عددية، مدخولة بالمنافقين، وبغير المخلصين من الطلقاء الذين أظهروا غير ما يبطنون، فلم تغنهم هذه الكثرة العددية شيئًا..
* * *
التكاثر المحمود هو التكاثر في العلم والمعرفة، وفي الفضيلة والأخلاق، وفي العزم والعمل والإخلاص.. لذلك كان القرآن الكريم مأدبة الله فيما حدثنا الهادي البشير عليه الصلاة والسلام. فقال:
« إن هذا القرآن مأدبة الله. فأقبلوا على مأدبته ما استطعتم. إن هذا القرآن حبل الله، والنور المبين، والشفاء النافع.. عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه.. لا تنقضي عجائبه، ولا يخلق ( أي لا يبلى ) من كثرة الرد. اتلوه فإن الله يؤجركم على تلاوته كل حرف عشر حسنات » صدق رسول الله
- المسلم غنى بهدايته، لا يفقره ولا يضره ضلال غيره..
« عليكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ » (المائدة 105).. الإسلام يمد يده بالسلام والمحبة والإسماح.. السماحة خصلة أصيلة وشميلة رفيعة من خصاله وشمائله.. يصدر عنها المسلم في علاقته بالمسلمين، وفي تعامله مع غير المسلمين.. في بيعه وفي شرائه، وفي استئدائه وفي أدائه.. في الحديث النبوي:
« رحم الله رجلاً سمحًا إذا باع ، سمحًا إذا اشترى، سمحًا إذا قضى، سمحًا إذا اقتضى ».. المسلم مأمور بالأخذ بروح الإسلام ومهجته وتسامحه.. « خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ » (الأعراف 199).
- قالوا في مقام الصبر في طريق السالك إلى الله، إن الله تبارك وتعالى قد أمر المؤمنين بالصبر، فقال: « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ » ( آل عمران 200 ).
وقال سبحانه: « وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ » ( النحل 126 ).
وقال عز وجل لنبيه المصط في صلى الله عليه وسلم: « وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ » ( النحل 127 ).
وقال تعالى: « وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا » ( الطور 48 ).
- قالوا في مقامات السالكين في الطريق إلى الله، و في مقاماته:
الإخلاص والصدق، والصبر:
الإخلاص لا يتم إلاَّ بالصدق فيه، والصبر عليه.
والصبر لا يتم إلاَّ بالصدق، والإخلاص فيه.
والصدق لا يتم إلاَّ بالصبر عليه، والإخلاص فيه.
مع الله
روى أن أحد الصالحين مَرَّ على جماعة، فإذا بطبيب يصف الداء والدواء. فقال له: يا معالج الأجسام، هل تعالج القلوب ؟
قال نعم. صف له داءه.
قال الرجل الصالح: قد أظلمته الذنوب فقسا وجنا، فهل له من علاج ؟
قال الطبيب الصالح: علاجه التضرع والابتهال والاستغفار، آناء الليل وأطراف النهار، والمبادرة إلى طاعة العزيز الغفار، والاعتذار إلى الملك الجبار، فهذه معالجة القلوب، والشفاء من علام الغيوب..
مضى الرجل الصالح وقد أدمعت عيناه يقول: نِعْم الطبيب أنت، أصبت علاج القلوب.
فقال الطبيب الصالح: هذه معالجة قلب من تاب ورجع بقلبه إلى البَرّ التواب.
* * *
- بساطة الإسلام معناها أنه قادر قدرة عجيبة على إبراز ما هو جوهري ومفيد في أغراضه، وعلى استبعاد كل ما يحجب الجوهر من الحواشي والتفصيلات. فبساطة الإسلام ترجع إلى أدائه لمضمونه، ومقدرته على أداء هذا المضمون أداء ناصعاً مباشرًا. وهذه البساطة نقيض تلك السهولة الكلامية البدائية التي تكتسح ما هو جوهري وأساسي. فالإسلام بسيط من جهة حرصه الشديد على رؤية ما هو جوهري وما هو مفيد في الحياة، مرتسمًا بقوة على سلوك المؤمن وتصرفاته في حياته الخاصة والعامة.
- من يريد أن يتعرف على حقيقة طباع الخلق، فليتأمل قول الله عز وجل: « قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإنسَانُ قَتُورًا » ( الإسراء 100 ).