في دوحة الإسلام (48)

في دوحة الإسلام (48)

نشر بجريدة صوت الأزهر الأربعاء 23/12/2020

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

في القرآن الحكيم كنوز وآيات باهرة لا حصر لها، فدعونا نبدأ حديثنا اليوم عن بعض ما ورد في سورة الكهف من كنوز وآيات.

خاطب الله تعالى نبيه المصطفي عليه الصلاة والسلام، فقال له في سورة الكهف :

« وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا * وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا * وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً * أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا » (الكهف 27 ـ 31 )

ترى في البداية كيف أمره جل شأنه بأن يتلو للناس ما أوحى إليه من كتاب ربه، فلا مبدّل لكلماته عز وجل، ولن يجد من دونه ملتحدًا.. أي موئلاً وملاذًا..

هذه التوصية الربانية، توطئة لما بعدها.. أن يصبر عليه الصلاة والسلام نفسه ويثبتها مع الذين يدعون ربهم بالغدو والعِشِىِّ.. وألاَّ تنصرف عيناه عنهم.. فهم الذين آمنوا وطويت نفوسهم على ذكر الله في كل وقت، وفي غدوّهم ورواحهم، وينعقد فيهم الأمل والرجاء، وألاَّ يطع من غفلت قلوبهم عن ذكر الله، واتبعوا هواهم وكان أمرهم فُرُطًا.. أي إسرافًا وتضييعًا وهلاكًا..

لا عليه إلاَّ أن يبلغهم الحق الذي بعثه الله به، والذي لا مرية ولا شك فيه.. من شاء بعد ذلك فليؤمن، ومن شاء فليكفر.. ولكل من الإيمان والكفر مقتضياته وتبعاته.. وهنا تبدأ الآيات ببيان ما أعدّ للظالمين من جزاء إن استغاثوا فيه يغاثوا بماءٍ كالمُهْل ـ أي المعادن المذابة ـ يشوى الوجوه.. أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فليس الإيمان بالتمنّى ولكن ما وقر في القلب وصدّقه العمل، فإن الله تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملاً.. أولئك لهم جناتُ عدنٍ تجرى من تحتهم ينعمون بما أعدّ لهم من خيرات.. نعم الثواب الذي يلقونه وحَسُنَ مستقرهم فيه وتمتعهم به.. وذلك فيما أخبر سبحانه به لهو الفوز العظيم.

العفو والإسماح

في نداء رباني إلى عباده، يقول لهم عز وجل :

« وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ». ( النور 22 )

العفو الإسماح منهج رباني.. يضرب العفو والغفور المثل بنفسه عز وجل..

« أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ».. ثم يذكر بأنه سبحانه وتعالى الغفور الرحيم. كظم الغيظ فضيلة إسلامية ومن أخلاق المتقين، ينادينا رب العزة في كتابه العزيز فيقول لنا :

« وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ » ( آل عمران 133، 134 )

ويقول تعالى : « وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ » ( التغابن 14 )

يقول الرحمة المهداة ـ صلى الله عليه وسلم :

« العفو لا يزيد العبد إلاَّ عزًّا، فاعفوا يعزكم الله ».

يوم فتح مكة، وبرغم ما لاقاه النبي عليه السلام والمسلمون من أذى قريش، نادى فيهم : « ما تظنون أنى فاعلٌ بكم ؟ قالوا : أخ كريم وابن أخ كريم. قال : اذهبوا فأنتم الطلقاء ».

وقال عليه الصلاة والسلام : « من جاءه معتذرٌ فليقبل عذره، فإن لم يفعل لم يرد على الحوض يوم القيامة ».

نادى الإمام علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه. نادى غلامه فلم يجبه ثلاثًا، فنهض إليه فرآه. يضحك، فقال له : ما حملك على ترك جوابى ؟! قال : أمنت عقوبتك ؟ قال : أنت حرٌّ لوجه الله..

وسبحان القائل في كتابه العزيز :

« إِن تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَن سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا » (النساء 149)

صدق الله العظيم

من أبواب الرحمة

من أخلاق القرآن الكريم فضيلة الرحمة.. وهي هي أخلاق رسول القرآن عليه الصلاة والسلام.. أخبره ربه تبارك وتعالى أنه أرسله رحمة للعالمين، وقال له : « وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ » ( الأنبياء 107 ) فصار لقبه الشهير « الرحمة المهداة »، وقالته الأثيرة : « الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ».

أول من تشملهم هذه الرحمة، من يحتاجونها من ودائع الله.. الضعفاء، والفقراء والمساكين والمحتاجين، والمريض والمكروب والمعسر، والعمال الذين يتفصد عرقهم في خدمة الحياة والأحياء، والصغير حتى يكبر، والمريض حتى يشفي، والعاجز حتى يشتد، واليتيم حتى يشب، وعابر السبيل حتى يستقر.

فتح الإسلام ورسوله باحة الإسلام للبسطاء، وعنى بهم، وأوصى الله تعالى عباده بهم، وبأنهم ودائعه سبحانه وتعالى لدى كل مؤمن، وأمانة وعهدة في عنق كل مسلم قادر على عونهم ومساعدتهم وجبرهم وحمايتهم ورعايتهم والاهتمام بهم وفتح أبواب الرحمة لهم..

يقول الرحمة المهداة ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأصحابه : « الضعيف أمير الركب ».. ومن عناية الله تعالى بالضعفاء أن جعل الاستطالة عليهم من الكبائر، وأوصى سبحانه بهم والإحسان إليهم..

المؤمن يؤثر برحمته وبره ولو كانت به حاجة وخصاصة..

والمؤمنون يطعمون الطعام على حبه.. مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا..

والبر فيمن آمن بالله واليوم الآخر، وآتى المال على حبه وذوى القربى واليتامى والمساكين، وابن السبيل والسائلين، وفي الرقاب..

كان عليه الصلاة والسلام أسوة في البر والرحمة.. وكان الرفق والبر والعطف والرحمة خلقه.. محبًّا للرحمة والرحماء.. حياته عليه الصلاة والسلام سلسلة متصلة من الإسماح والرفق وبذل العطف والرحمة.. يقول لأصحابه : « مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ، تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى ».

أبو ذر الغفاري

التقى الزاهد

الصادق اللهجة

كان الصدق أظهر شمائل الصحابي الجليل أبى ذر الغفاري.. والصدق سجية مانحـة.. ليس حسبهـا في ميزان الأخلاق كحسب غيرها من السجايا التي تتحدد بحدودها، وإنما هي مزية تندح وتعطر بأنفاسها سجايا الإخلاص والأمانة والكرم والزهد والجود والعطاء والحلم والرحمة والصبر والإنصاف.. الصادق لا يرائى أحـدًا، ولا تهمه السمعة ولا التظاهر، وإنمـا يدفعـه صدقـه إلى إخلاص العطـاء في كل شميلة مـن شمائل الدين الحـق.. لا يعنيه ما يقوله الناس، وإنمـا همه فيما تدله عليه نفسه.. همه فيما يطمئن إليه ضميره وترضاه جوانحـه.. ويهديه إليه إيمانــه، وصلته الحارة الدافئة بربه تعالى المطلع الخبير العليم..

هـذا الصدق مع النفس، ومع الله ـ هو صاحب هذه اللوحة الرائعة الخالدة التي رسمها أبوذر حين دعت دواعي صد الروم إلى الخروج إلى تبوك.. كانت الأيام أيام حر وقيظ.. الضروع مجدبة.. لا نبت ولا كلأ.. والمؤمنون يلقـون أشـد العناء في إعداد أنفسهم للخروج لصد الهجوم الرومي المرتقب، حتى قال قوم من المنافقين: « لا تنفروا في الحر ».. فنزل قولـه تعالى: « وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُـونَ * فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ » ( التوبة 81، 82).. يومها لم يقعد أبو ذر كما قعد بعض الناس، ولا منعه ضيق ذات يده، ولا هزال بعيره، ولا إشفاق زوجته من القيظ وقلة الزاد وطول السفر ووحشة الطريق !!

تقـول له في إشفاق.. وقد سبقه المسلمون.. « أو سيحملك هذا البعير الأعجف ؟! » بيد أنه يجيبها في تصميم ـ « إذن أمشى »..

يومها، والمؤمنون يتساقطون في الحر اللافح، والريح الساخنة العاصفة.. وتتساقط العير من الإعياء والعطش ؟. ويتخلف البعض عجزًا عن متابعة السير.. يلتفت المسلمون فيرون شبحًا قادمًا من بعيد.. حاملاً قربته وزاده، بلا بعير.. ينادون النبي.. يا رسول الله، ها هو رجل قادم من وراء الأفق.. يمشى وحده !!

فما زاد النبي على أن قال متمنيا.. كن أبا ذر !!

فإذا به أبو ذر !!

هلك بعيره، فلم يرجع، واحتمل قربته وزاده، وأتى الرسول ماشيًا.. فأخذ عليه السلام يتأمله في رضى ويقول له وللمسلمين :

« رحم الله أبا ذر … يمشى وحده، ـ ويموت وحده، ـ ويُبعث وحده.. »

* * *

  • قيل في أبواب الضلال إنها أربعة : الكبر، والحسد، والغضب، والشهوة.

الكبر يمنعه الانقياد وخفض الجناح

والحسد يمنعه الرضا بالمقسوم ؛ وقبول النصيحة وبذلها.

والغضب يمنعه الحلم والعدل.

أما الشهوة فيمنعها ويداويها التفرغ للعبادة.

  • الصلاة أولى القربات.. علامة قربها قول الحق سبحانه وتعالى لنبيه المصطفي أسجد وأقترب.

والصلاة عماد الدين ؛ من أقامها فقد أقام الدين.

سئل النبي عليه الصلاة والسلام : أي الأعمال أحب إلى الله في الإسلام ؟

قال : الصلاة لوقتها..

زر الذهاب إلى الأعلى