في دوحة الإسلام (43)
في دوحة الإسلام (43)
نشر بجريدة صوت الأزهر الأربعاء 18/11/2020
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
عمود الإسلام
لم يكن عمود الإسلام في الأمجاد أو الفتوحات الكبرى التي تحققت، وإنما عموده في « المفتاح » الذي وضعه أمام أيدى الناس، ليلجوا به إلى عالم جديد كل الجدة، مختلف كل الاختلاف عما كان سائدًا في العالم قبل الإسلام .
هذا العالم الجديد، مفتاحه الأمن والأمان الذي يجب أن يبذله المسلم للمسلم ولغير المسلم.. والوفاء بالوعد والعهد والميثاق، للمسلم ولغير المسلم، والإصرار على الأمان الذي يجير به المسلم غير المسلم بل والمشرك، وفيًّا ملتزمًا بمقتضياته حتى يبلغ المستجير مأمنه.
لم يكن من الإسلام العلو في الأرض، وإنما في التمسك بهذا العمود الذي عاش به الإسلام، والإمساك بحبله الصحيح؛ وبذلك « المفتاح » البسيط؛ المليء بالثقة والروح والأمان.
عمود الإسلام الذي غير واقع الدنيا؛ هو اتجاه الإنسان إلى خالقه بقلبه وكيانه، وبكلياته وجزئياته.. وهذا الاتجاه الصادق لا يتغير، لأن الله عز وجل لا يتغير .
بهذا العمود توطدت علاقة الإسلام والمسلمين بالدنيا، وبالناس جميعًا مسلمين وغير مسلمين، وقامت عليه وحدة الإنسانية التي تتجاوز كل الفروق الأرضية التي جرى الناس على التوقف عندها .
الاختلاف بين الناس سنة كونية من سنن الحياة، تحدث عنها القرآن الكريم فقال :
« وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ » ( هود 118 ).
روح وعمود الإسلام هو التفاته المحمود إلى هذا الاختلاف وموافاته بما يقتضيه تحقيقًا للسلام والأمان للإنسانية، وللناس كافة .
أحلت الآية الخامسة من سورة المائدة ـ أحلت للمسلمين طعام أهل الكتاب، وطعام المسلمين حل لهم، وأحلت زواج المسلم بالكتابية وأن تبقى الزوجة على دينها دون أن ينقص ذلك شيئًا من حقوقها .
اقتضى المفتاح الذي سلمه الإسلام للدنيا، أن يكون الإسلام واحة للأمن والأمان، والأمان مقرون فيه بالوفاء بالعهود والمواثيق .
والوفاء بالوعد والعهد والميثاق، مبدأ عام أوصانا به اللطيف الخبير عز وجل . قال : « وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً » ( الإسراء34 )، وأخبر سبحانه وتعالى أنه من صفات المؤمنين، فقال عنهم : « وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ » ( البقرة 177 ) .
ونعرف من القرآن الحكيم أن حق العهد والوفاء مقدم في الإسلام على كل ما سواه . حتى على الانتصار للدين . وفي ذلك يقول جل شأنه : « وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ » ( الأنفال 72 )
بذلك قدَّم القرآن الكريم بصريح وآمر لفظه ـ قدَّم احترام ورعاية العهد والوعد والميثاق ـ على نصرة من يستنصر المسلمين في الدين .
وفي حديث الرحمة المهداة ـ عليه الصلاة والسلام : « إن حسن العهد من الإيمان » .
لا يقبل الإسلام بأى ذريعة ـ نقض العهود والمواثيق..
في حديث رسول القرآن عليه الصلاة والسلام :« من كان بينه وبين قوم عهد، فلا يحلّن عهدًا، ولا يشدنه، حتى يمضى أمده أو ينبذ إليهم على سواء » .
عاش الإسلام وتقدم بوفائه ووفاء رسوله ووفاء المسلمين بالعهد.. منح للكافة أمان الحياة وأمان الجوار الذي لا يخرج منه أحد.. يُعطى ويُبذل للمسلم ولغير المسلم وللمشرك، وأعطى للجميع الثقة التامة في كلمة المسلم ووعده وعهده، وفي منح ورعاية الخائـف كل خائف حتـى يبلـغ مأمنه.. لا يستثنى من ذلك أحدًا، ولا حتى المشركين.. من يمر برحاب الإسلام يمر مصحوبًا بهذا الوفاء والأمان , آمنًا من الأذى ومن الغدر والخيانة .
يقول لنا الحق جل وعلا :
« وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ » ( التوبة 6 )
عاش الإسلام معطرًا بباقة ما تحلى به من سجايا وخصال وشمائل، موصولاً بالناس ـ كل الناس، المسلم وغير المسلم، بسماحته التي صاحبت رسالته منذ نزلت وللآن ـ ومن اللافت أن سماحة الإسلام لم تتوار حتى في فترات الهبوط والانحدار أو استبداد وبطش بعض الملوك والحكام والأمراء والولاة.. وهذه حجة مضاعفة لسماحة الإسلام التي لم تستطع صور البطش التي سقطت فيها بعض فترات الحكم في هذا القطر أو ذاك، أن تحول دون حضور سماحة وإسماح الإسلام، وإلى هذا الحضور سر الحضارة الإسلامية التي مضت متسامقة رغم كل شىء، تتسع بقيم ومبادئ وسماحة الإسلام للناس جميعًا.. للمسلم وغير المسلم، وتفسح لكل قادر أيًّا كانت ملته أو ديانته ليعمل ويجتهد وليصب عطاءه في نهر هذه الحضارة التي ظلت دافقة متدفقة لعدة قرون .
أى إنسان يدخل إلى هذا العالم، مصحوبًا بهذا الأمان والوفاء، إنما يدخل إلى عالم جديد مختلف كل الاختلاف عما تركه وراءه في عالم آخر مشوب من قديم بالمكر والخديعة والغدر والغش والخسة المتداولة في دنيا الناس .
لم يتقدم الإسلام لأنه قوض امبراطوريات، وإنما بما أقامه من بناء جديد.. وما يحمله في صدور أبنائه وعقولهم ورءوسهم من قيم روحية وأخلاقية ومن رؤية جديدة تصلح وتبنى، لا تؤذى أو تضر!
تقدم الإسلام وأقام حضارة رفيعة، لأن عيون الدعوة كانت ملتفتة من واقع الدين ومبادئه وقيمه ومثله ـ إلى عمار الحياة وإلى البناء وإقامة ما ينفع الناس . لم تكن رسالته تقويض امبراطورية الفرس أو الرومان، وإنما رسالة نور وهداية.. تتغيّا تغيير الواقع الكئيب إلى « خفقات » جديدة تشد الحياة والأحياء إلى الأمام بقيم سامقة تختلف عما درج عليه الناس .
شحنة الهداية والنور والإصلاح، هي عمود وروح الإسلام!
العدل العمرى
حساب الولاة وأى حساب
شكا دهقان مسيحى بأرض فارس، من جور الأمير الذي استولى على ضيعته، فلما طلب منه أن يعيدها إليه، زجره الأمير وأهانه .
أشارت عليه زوجته أن يلجأ إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، فشد إليه الرحال، فلما عاد سألته زوجته عما كان، فوجدته آسيًا محبطًا، فسألته أقال له أمير المؤمنين ما يكره، أجابها بالنفي، ولكنه أضاف أنه ألفاه في المدينة جالسًا على عباءة ممزقة، فشكا إليه ما لقيه من عامله، فطلب أمير المؤمنين صحيفة وكتب فيها شيئًا، وأراد خيطًا يلفها به فلم يجد، فمزق قطعةً من عباءته ولف بها الصحيفة وناوله إياها .
سألته زوجته حين عاد، عما إذا كان قد ذهب بالصحيفة إلى الأمير، فأجابها نفيًا، وأضاف كيف يذهب بصحيفة لمن لم يقدر على خيط يشدها به! أيستطيع أن يلزم الوالى بأمره ؟!
تحت إلحاح زوجته، ذهب الدهقان إلى الوالى فقدم إليه الصحيفة الملفوفة . ما إن فضها وقرأها حتى سأل الدهقان متوجسًا عما فعله، فلما أخبره بأنه شكا إلى أمير المؤمنين أخذه ضيعته، إذ بالوالى يقول له : ما كان عليك لو جئتنى، فأجابه : جئتك فأسمعتنى ما أكره .
وفي مشهد لم يتوقعه الدهقان، إذ بالأمير ينادى على من يرد إليه ضيعته .
بقى أن عمرًا لم يكتب في هذه الصحيفة إلاَّ سبع كلمات : أنصفْ الدهقان من نفسك وإلاَّ فأقبل والسلام .
وبقى أن أقول لكم إن العبرة في المغزى لا في الصورة . إن الصور تتغير بفعل الزمن والعصر والتطور، ولكن المغزى ثابت لا يتغير، وفي هذا المغزى القيمة الحقيقية لما صنعه الفاروق عمر بن الخطاب!
* * *
- سماحة الإسلام مع منظومة سجاياه رسالة إلى الدنيا فرقت بين عهدين.. تسالم وتبث المحبة والإسماح ولا تبادئ بعداء، ولا تلفظ من رحابها أبناء الملل والديانات الأخرى، بل هي تؤمّن الكافر وتجيره حتى يسمع كلام الله ثم تبلغه مأمنه ..
- لقد جُبلت القلوب على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها.. فكيف بمن لم ير محسنًا غير الله، مَنَّ علينا سبحانه بكل شيء مع نعمة الحياة التي وهبنا، كيف به لا يميل بكليته إليه، ويحبه ويحب من يحبه ؟!
- قالوا في الإخلاص سبيل السالك في الطريق إلى الله، أن أساسه قول الله عز وجل :
« فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ . أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ » ( الزمر 2، 3) .
وقال تعالى : « فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ » (غافر 14) .
وقال عز وجل لنبيه المصطفي صلى الله عليه وسلم : « قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ » ( الزمر 11) .
وقال سبحانه : « قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي » ( الزمر14) .