في دوحة الإسلام (41)

في دوحة الإسلام (41)

نشر بجريدة صوت الأزهر الأربعاء 4/11/2020

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

الرحمة والرفق من أصول العدل في الإسلام

يظن بعض السطحيين ، أو المغالين ، أنه لا موضع للرحمة مع الخطأ ، وأن الخطأ مانع من موانع الرحمة لا محل لها معه ، ويغالى البعض فيحسب أن الرفق ضعفٌ ، وأن التعاطف الإنساني لا موضع ولا محل لهما مع الخطأ . وهذا فهم سطحي لا يغوص ولا يتأمل ولا يلم بجوهر الإسلام ومبادئه إلمامًا شاملاً صحيحًا .

فالرفق قوة لا ضعف .. والخطأ ذاته مقدور ، لا يعز عليه بشر ، والعصمة لله وحده  ولمن عصم من رسله وأنبيائه ، وفى الحديث الشريف إن كلَّ البشر خطاؤون ، وإن خير الخطائين التوَّابون ..

فالإسلام لا يغلق بابه ولا يصد المخطئ عن التوبة وطلب العفو والمغفرة .

والعدل سواء وقسط واعتدال ، وليس ثأرًا ولا عصفًا ولا انتقامًا .. وتجد العدل مقرونًا بالإحسان فى آيات الكتاب الحكيم .. والحق سبحانه وتعالى يأمر بالعدل بالإحسان ، فيقول عز من قائل : «  إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَان  » ( النحل90)

ويحصن المخطئ مما قد يفقده التمييز أو حرية الاختيار ، فيسقط عنه الحد أو العقوبة إذا كان به مس أو عاهة في العقل أو ألمّت به حالة ضرورة .

فحالة الضرورة سبب عام من أسباب الإباحة في الإسلام .. فيقول الحكم العدل تبارك وتعالى : « فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ » ( البقرة 173 ) بل ويدارك المضطر برحمته وغفرانه ، فيقول في سورة النحل « فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ» (النحل 115) .

والخطأ لا تعميم ولا خلط ولا تخليط فيه ، فلا تزر وازرة وزر أخرى .

هذا وكل خطأ بقدره ، وأنه إذا كانت الحسنة بعشر أمثالها ، وقد تزيد ، فإن السيئة بمثلها..

ويحمى القرآن من سوء الظن ويحذر منه ، فيقول الحكم العدل سبحانه وتعالى : « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ  » ( الحجرات 12 )

شرط الشاهد أن يكون من ذوى العدل ، فقال تعالى : «  وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ » ( الطلاق 2 ) .. وفى حديث رسول القرآن عليه الصلاة والسلام  : « لا تُقبل شهادة خصم ولا ظنين في ولاء ولا قرابة ولا ذي إحنه ( أي عداوة ) » ، فالشبهة مسقطة للعدالة وللشهادة التي هي ركاز للعدل .

الرحمة أصل من أصول الإسلام لا يفارق سجيةً من سجاياه ، ومنها سجية العدل ، والرفق فرع أصيل على هذه الرحمة .. فمن أسماء الله الحسنى : « الرحمن الرحيم » .. وكلاهما مشتق من الرحمة ، وبعث سبحانه نبيّه المصطفى رحمةً للعالمين ، فقال : « وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ » ( الأنبياء 107 ) ، فصار من ألقابه عليه الصلاة والسلام : الرحمة المهداة .

وحظ المسلم من هذه الصفة الإلهية أن يكون رحيما ، وأن يرحم عباد الله ومخلوقاته ، لا يستثنى منهم أحدًا حتى الطير والحيوان .. يفتح للمخطئ طريقًا إلى الفهم والإدراك والاتعاظ والتوبة .. باللطف والرفق ، لا بالبطش والعنف .. بعين الرحمة لا بعين القسوة والإيذاء ..

ومن أسمائه عز وجل : السلام ، والغفار ، والستار ، واللطيف .

وحظ المسلم من هذه الصفات الإلهية أن يكون سِلْمًا للآخرين ، وأن يستر من غيره ما يحب أن يستر من نفسه ، وفى حديث رسول القرآن  عليه الصلاة والسلام  : « من ستر على عبد عورته ستر الله عورته يوم القيامة » .. وأن يغفر لهم ما فرط منهم ، فرحمة الله تعالى وغفرانه تدرك عباده ، ويعلمهم ذلك فيقول لهم : « وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ » ( النور 22 ) ، وهو سبحانه القائل : « لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ » ( الزمر53) ..

والرفق سجية نابعة من الرحمة ، فالله تعالى إذ يأمر بالعدل والإحسان ، فإنه قد أمر بالرحمة والغفران ، وزان المسلم بفضيلة الرفق حتى في العقاب ، وحتى في ذبح الحيوان والطير الذي أحل ذبحة .. وفى حديث الرحمة المهداة عليه الصلاة والسلام : « من أُعطى حظه من الرفق فقد أعطى حظه من خير الدنيا والآخرة ، ومن حرم حظه من الرفق فقد حرم حظه من خير الدنيا والآخرة » .

القصاص لم يُجعل فى الإسلام للثأر أو التشفي أو الانتقام ، بل جُعل لصيانة الحياة ، فقال سبحانه وتعالى فى كتابه الحكيم : « وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ » ( البقرة 179 ) ..

والعفو مقدم على القصاص ، فقال سبحانه وتعالى : « وَإِن تَعْفُـوا وَتَصْفَحُـوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ  »( التغابن 14 ) ، وفى سورة الأعراف : « وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى »( البقرة 237 ) ..

وروى بإسناده أن رجلاً جاء رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال : « يا رسول الله إني أصبت حدًّا فأقمه علىّ ، ولكن النبي لم يسأله عنه ، وحَضَرَتْ الصلاة فصلى مع النبي والمسلمين ، فلما قضى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الصلاة قام إليه الرجل فقال : « يا رسول الله إني أصبت حدًا فأقم في كتاب الله ، قال عليه الصلاة والسلام : « أليس قد صليت معنا قـال الرجل : نعم . قال : فإن الله قد غفر لك ذنبك » .

لا تعارض في الإسلام بين العدالة وموجباتها ، وبين الرحمة ومعطياتها ، والرفق وفضله ، والعفو والمغفرة ومثوبتهما ، بل إن الرحمة أصل من أصول العدالة والإسلام .. قررها الرحمن الرحيم ، وعنى بالدعوة إليها الرحمة المهداة عليه الصلاة والسلام  .

أبو عبيدة

عنوان الرفق والرحمة

يخلط البعض بين الجدية وبين الصرامة أو الشدة أو الغلظة ، ويعتبر بعضهم أن القوة لا تكون إلاَّ في الشدة ، ويحسب بعضهم أن الرفق واللين ضعف وتفريط ، وأن القوة والرفق ضدَّان لا يجتمعان  .

وهذا خلط وتخليط في تحليل النفوس والشخصيات ، وفى فهم الإسلام ..

وأقوى الأمثلة التي تبسط الصواب ، شخصية أبى عبيدة بن الجراح ، فقد جمع بين اللين والرفق والرحمة ، وبين القوة التي لا تنى ولا تفرّط .

وصفه الصدّيق لمن سألوه أن يختار لهم ، فقال : « عليكم بالهيّن الليّن ، الذي إذا ظُلم لم يظلم ، وإذا أسئ إليه غفر ، وإذا قُطع وصل ، رحيمٌ بالمؤمنين ، شديدٌ على الكافرين . عليكم بأبي عبيدة بن الجراح » .

كان وهو أمير الأمراء بالشام ، مثلاً للتواضع والرفق والرحمة .. يأبى تعظيمه ويقول :« يا أيها الناس ، إني امرؤ من قريش ، والله ما منكم أحمر ولا أسود ، يفضلني بتقوى ، إلاَّ وددتُ أن أكون في إهابه » .

يتقدم الصفوف في القوارع والنوازل ، ويتوارى حين تحين ساعة الإطراء أو المديح . قليل الكلام كثير العمل ، بالمؤمنين رءوف رحيم .. يمضى بين أجناده وهو أمير الأمراء ، فيقول لهم مواسيًا في عام الرمادة : « وودتُ أنى كبش يذبحني أهلي فيأكلون لحمى ويحسون مرقى » . يترفق بابن سهيل بن عمرو بعد أن أُقيم عليه حدٌّ ، وتضعضت نفسه ، أن يكتب إلى عمر بن الخطاب طالبًا إليه أن يكاتبه ويواسيه . وكان أول الغيّاثين للمدينة ومكة في عام المجاعة ، فطار إليهم من الشام بأربعة آلاف راحلة محمّلة بالطعام . ولا غرو أن يكون أحد العشرة المبشرين من رسول الله بالجنة .

عمرو بن الخطاب

إنسان وأى إنسان

خرج عمر بن الخطاب مع غلامه قاصدًا الشام تلبية لدعوة أبى عبيدة بن الجراح لإبرام الصلح مع صفرونيوس في بيت المقدس . ما إن أصبحا بظاهر المدينة ، حتى قال للغلام : الطريق إلى بيت المقدس طويل ، ونحن إثنان ، والراحلة واحدة . حاول الغلام أن يقول إنها لأمير المؤمنين فأبى ، وأضاف قائلاً للفتى : إننى إن ركبت أنا ومشيتَ أنت ظلمتك ، وإن ركبت أنت ومشيتُ أنا ظلمتنى ، وإن ركبنا معًا قصمنا ظهرها . فلنقتسم الطريق مثالثة . أركب مرحلة ، وتركب مرحلة ، وندع الراحلة متخففة مرحلة ثالثة . ولم يترك للفتى فرصة ، فقال له في حزم : دورك فاركب  .

تصادف أن جاء الدور على الغلام وهما على مشارف بيت المقدس ، فنزل عمر من على الراحلة ونادى الغلام ليركب . فاستعطفه ألاَّ يفعل ، فهما مقبلان على مدينة وحضارة ، ولو رآهم الناس على هذه الصورة : الغلام راكب ، وأمير المؤمنين آخذ بمقودها ـ استهانوا بهما ، وربما سخروا منهما .

بيد أن عمر أجابه في إصرار وحزم : دورك . لو كان الدور دوري ما نزلت ، أما والدور دورك فوالله لأنزلنّ ولتركبنّ .

ولو كانت الراحلة تنطق ، لشكرت أمير المؤمنين  أنه لم يخرجها من القسمة ، وأمطرها برحمته لتسير ثلث الطريق متخففة .

الرحمة المهداة

كان الفاروق وأبو عبيدة ، من نجباء مدرسة النبوة ، استوعبا ما في القرآن الكريم  من نفحات الرحمة ، وتلقيا من الرحمة المهداة ما جعلاه نصب أعينهما وتأسّيا به ..

سمعوا منه مرارًا : « الراحمون يرحمهم الرحمن ، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء » ، ورأياه يرحم الطير والحيوان كما يرحم الإنسان ، وسمعاه يقول للمؤمنين عن أم رءوم برضيعها ، إن الله ـ سبحانه ـ أرحم بعباده منها .

ضرب القرآن الكريم والسنة المطهرة ـ ضربًا للناس المثل والقدوة ، أن من أعطى مخلوقات الله حظها من الرفق ، ومن تمثل بالمثل الأعلى ، الرحمن الرحيم ، وبرحمته المهداة عليه الصلاة والسلام ، وأعطى من نفسه الرفق والرحمة ، فهو في حصن الله ورحمته إلى يوم يبعثون .

زر الذهاب إلى الأعلى