في دوحة الإسلام  (37)

في دوحة الإسلام  (37)

نشر بجريدة صوت الأزهر الأربعاء 7/10/2020

بقلم: الأستاذ رجائي عطية نقيب المحامين

العمل قيمة في الإسلام ، بل هو قيمة بذاته ولِذاته .. ومعلم من معالمه الأساسية ، الإسلام دين عمل ، وديانة للعاملين ، أراد لبنيه ألاَّ يكونوا متاحف ، وإنما صُناع للحياة .

وهناك من لا يفهمون هذه القيمة ، ويتوقفون عند آية واحدة يقرأونها قراءة خاطئة ، وينتزعونها من سياقها ومن سياق القرآن الكريم .

يتوقفون عند الآية القرآنية التي تقول : « وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ » (الذاريات 56) ، ويختزلون معناها في أن الخلق لا غاية لهم بتاتًا غير هذه العبادة ، مع أن معناها أن الخالق البارئ ـ سبحانه ـ في غنىً عن خلقه ، لم يخلقهم لأنه يريد منهم شيئًا ، ولو أكملوا قراءة الآيتين التاليتين لهذه الآية في سورة الذاريات ، لوجداهما تقولان : « مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ » (الذاريات 57 ، 58 ) .

الآية الأولى تعبر عن « استغناء » الحق سبحانه وتعالى عن عباده ، ومعطوف عليها الآيتان التاليتان تؤكدان هذا المعنى ، ألا وهو أنه سبحانه وتعالى لا يريد منهم رزقًا ولا يريد منهم ـ وحاشاه ـ أن يطعموه ، فإنما هو الرزاق المتين .

العمل بذاته عبادة في الإسلام موصولة بعبادة .

يقول لنا الحق تبارك وتعالى : « إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً »( الكهف 7 ) .. ويقول عز من قائل : « تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ» ( الملك 1 ، 2 ) .

والذين يختزلون العمل المأمور به في العبادة ، ويختزلون العلم المطلوب في الدين والفقه فقط ، إنما يقيدون الآيات القرآنية بلا مقيد ، وهذا خطأ كبير في قواعد التفسير .. ثم هم لا يقرأون الآيتين قراءة صحيحة ، ولا يفهمونهما فهمًا قويمًا ، ولا يرون أن قول الله تعالى في الأولى ، قد ربط بين العمل وبين زينة الأرض ، فقال عز وجل : « إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً » . فالأرض وما عليها مربوط بالعمل ، وهذا معلم بالغ الوضوح فى القرآن الكريم والسنة النبوية .

ونرى في الآية القرآنية أن العمل ذاته عبادة موصولة بعبادة .. يقول تبارك وتعالى : « فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ » ( الجمعة 10 ) .. بل ولا جناح على المسلم إذا ما ابتغى أثناء الحج فضلاً من ربه .. فقد تحرج بعض الصحابة من ممارسة التجارة أثناء فريضة الحج ، فنزل قوله سبحانه وتعالى : « لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ » ( البقرة 198 )

العمل هو مهجة الإسلام وعطاؤه للمسلمين  ، وللعالمين .. كان رسول القرآن إماماً للعاملين ، وقدوة للعزم الأكبر ، ومثالاً للتقديس العميق لقيمة العمل وشرفه .. لازَمَه وصاحَبَه من طفولته وصباه إلى شبابه وكهولته وشيخوخته ، ولم تثنه عنه مهام النبوة ولا أعباء الدعوة .. رعى الغنم ، وباشر التجارة في أمانة وبركة ظلت مضرب الأمثال .. يخصف نعله بيده .. ويشارك المسلمين حفر الخندق حتى يتعفر وجهه الكريم بالتراب ويشفق عليه الصحابة راجين إياه أن يدع ذلك لهم ، مثلما راموا  إعفاءه من المشاركة في إعداد الطعام عندما أخذ يجمع الحطب ، فيقول لهم في كلماته الحانية .. « أعلم أنكم تكفونني ، ولكن الله تعالى يحب العبد المحترف ويكره العبد البطال » !..

لم يكن العمل عنده غاية فقط للمعاش ، وإنما كان أيضاً أسلوب حياة … يقول عليه الصلاة والسلام لأصحابه ونجبائه الأبرار .. « من الذنوب ذنوب لا يكفرها إلاّ الهم فى طلب المعيشة .. « من أمسـى كالاً من عمل يده أمسى مغفورًا له » .. « ما أكل أحد طعاماً قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده ، وإن نبي الله داود  كان يأكل من عمل يده »  .

إن الحياة في سنّة الخالق جل شأنه وسنة نبيه الكريم ، لا تستقيم إلاّ على سنن وأسباب ، ومن هنا كان العمل هو قوام الحياة ومناط الفضل بين الناس .. فالحق تبارك وتعالى قد أخبر فى قرآنه المجيد أنه خلق الموت والحياة ليبلو الناس أيهم أحسن عملاً .. العمل الذى تغياه الإسلام وحرصت على إبرازه السنّة النبوية .. هو العمل الصادق المخلص المتقن .. فكان عليه السلام يقول لنجباء مدرسته الأبرار : « إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه » ..

لقد كان العمل دستور الصادق المصدوق فى حياته ، لم يدعه أو يترفع عنه يومًا وإليه ندب أصحابه حتى وعووا الدرس جيدًا ، تشرفوا بالعمل ودعوا الناس إلى التشرف به .. لا تجد واحداً من كبار الصحابة لم يعطر العرق جبينه .. عبد الله ابن مسعود الراعى ، وسعـد بن أبى وقاص صانع النبال .. وخباب ابن الأرت الحداد .. وسلمان الفارسى الحلاق الذى لم تمنعه ولاية المدائن من جدل المكاتل .. وعلى بن أبى طالب الذى كان يسقى بالدلاء على تمرات .. لم يستثن النبى من ذلك أهل بيته ، ولا الزهراء الحبيبة الأثيرة لديه .. يقول لها ولهم .. يا آل محمد اعملوا فإنى لن أغنى عنكم شيئًا .. ويا فاطمة بنت محمد اعملى فإنى لن أغنى عنك شيئا .. !! ..

عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه قال لنفر من الناس .. « لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق ويقول اللهم ارزقنى ؛ فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهبُا ولا فضة ».. وكان يقول أيضًا :« ما من موضع يأتينى الموت فيه أحَبّ إلىّ من موطن أتسوق فيه لأهلى أبيع وأشترى» .. ويجمع الصحابى الجليل عبد الله بن مسعود الأمر كله فى كلمات قصار فيقول : « إنى لأكره من الرجل أن أراه فارغًا ليس فى عمل للدنيا أو الآخرة » .

قل خيرًا أو اصمت

على هذه القاعدة الحكيمة ، جاء الحديث النبوى ، وتواترت مأثورات الحكماء والصالحين . فإن الكلمة إذا خرجت من صاحبها ملكته ، وهو يملكها ما بقيت فى صدره . إخراج الكلمة مسئولية ، ولكن آفة معظم الناس شهوة الكلام والرغبة فيه ، بينما الصمت والإنصات وقار واتزان وحكمة  .

والحكيم من يقاوم الشهوات والغرائز ، ويؤثِر التأمل والتدبر والتفكير .. وهذه الصفات ضيوف أعزاء على الإنسان ، لا يطرقون الباب الموصد ، ولا الباب المشغول بشهوة الكلام ، ويهربون من هذا وذاك إلى من يمتلك زمامه ويقاوم شهوته ويجعل الحقيقة والمعرفة والكلمة الطيبة قبلته وغايته !

جاء بإسناده عن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه قال : « من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت … »

إن الإنسان إذا قال ، فقد يحسن وقد يسىء ، وقد يصيب وقد يخطئ ، وقد يأتى بحديثه خيرًا وقد يأتى أو يتسبب فى منكر .. لذلك كان ترْك فضول الكلام حكمة ، ومن لا يستطيع أن يأتى بحديثه خيرًا فإن الصمت أولى به وألزم .. وقد أخرج الطبرانى من حديث معاذ بن جبل عن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال : « إنك لا تزال سالمًا ما سكت . فإذا تكلمت كتب الله لك أو عليك » .

ومن صواب وجمال ما نلقاه فى حديث الرحمة المهداة عليه أكرم الصلوات : « إن الرجل ليتكلم بالكلمة ـ من رضوان الله ـ لا يلقى لها بالاً يرفعه الله بها درجات ، وإنه ليتكلم بالكلمة ـ من سخط الله ـ لا يلقى لها بالاً يهوى بها فى جهنم » .

ترك فضول الكلام إلى خير العمل سجيّة إسلامية عاصمة للمؤمن ما فهمها والتزم بها .

*  *  *

  • من عرف الله تعالى ؛ صفا له العيش ، وطابت له الحياة ، وهابه كل شىء ، وذهب عنه الخوف من المخلوقين ، وأنس بالله تعالى.
  • قد لا يأتى الزلل من إرادة المعصية ؛ ولكن من غلبه الطبع وتزيين النفس الأمَّارة وإغراء الشيطان وقهر الهوى !
  • من رأى الله بقلبه لا يحجبه عنه حجاب !
  • من هداه الله تعالى ، أبصر طريقه وميّز بين الحق والباطل عيانًا بقلبه .
  • من تجرّد من الطمع والفزع ؛ سهل عليه الاتجاه الخالص إلى ربه ..

 

زر الذهاب إلى الأعلى