في دوحة الإسلام (36)
في دوحة الإسلام (36)
نشر بجريدة صوت الأزهر الأربعاء 30/9/2020
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
في التاريخ العُمرى ، موقفٌ بارز للفاروق عمر بن الخطاب ، يعبر عن فهمه للسنة الكونية القائمة على الأسباب ، والسبب والمسبب ، وكان هذا الموقف في ظروف بالغة الحرج ، ولكنها لم تثن الفاروق عما اعتقد أنه الحق والصواب .
عمر وطاعون عمواس
خرج عمر بن الخطاب وهو أمير المؤمنين في صحبته جمع من المسلمين قاصدًا الشام لتفقد أحواله وتنظيم شئونه ، فلما بلغ سرغ على مقربة من تبوك ، لقيه أمراء أجناد الشام فأخبروه أن الأرض سقيمة ، وأن الطاعون ـ وقد عرف بطاعون عمواس ـ قد تفشى فيها .. هنالك جمع عمر مهاجرة الفتح من قريش فاستشارهم ، فقالوا جميعًا : ارجع بالناس فإنه بلاء وفناء .. فأمر عمر فنادى ابن عباس في الناس ليعدوا رواحلهم متى أصبحوا .. استعدادًا للرحيل إلى المدينة .. فلما علم أبو عبيدة بن الجراح بما قر عليه عمر، توجه إليه فقال له معاتبًا في رفق : أفرارًا من قدر الله يا عمر ؟ .. فنظر إليه الفاروق في دهشة لهذا العتاب الذى ما توقعه من أبى عبيدة على صدق مودتهما وعلى ثاقب بصره وراجح رأيه ـ وقال :« لو غيرك يقول هذا يا أبا عبيدة ! نعم فرار من قدر الله إلى قدر الله » .. وأطرق رضى الله عنه هنيهه ثم أردف : « أرأيت لو أن رجلاً صاحب عدوتين إحداهما خصبة والأخرى جدبة ، أليس يرعى من رعى الجدبة بقدر الله ، ويرعى من رعى الخصبة بقدر الله » !!
لم يكن تناجى عمر بن الخطاب وأبى عبيدة قد فرغ بعد ، إذ أقبل الصحابي الجليل عبد الرحمن ابن عوف ، فعرف من الناس الخبر وما دار ويدور من حوار واضطراب في الرأي ، فبادر إلى عمر ، وقال له عندي من هذا علم : سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول : « إذا سمعتم بهذا الوباء ببلد فلا تقدموا عليه ، وإذا وقع وأنتم به فلا تخرجوا فرارًا منه » .. هنالك قال عمر : « الحمد لله ، انصرفوا أيها الناس .. » وعاد بهم رضى الله عنه إلى المدينة ..
ننظر في هذا الموقف لهذا الرهط من صحابة الرسول عليه السلام ، فنخرج بزاد ثرى مـن العبر والدروس لهؤلاء النجباء في مدرسة النبوة .. نرى كيف أن عمر بن الخطاب لم يتصلـب على رأيه ، واستمع إلى أبى عبيدة ، وتحاور وإياه ، وفتح باب المشاورة التي أتت بخبـر كـان عبد الرحمن بن عوف قد تلقاه من الرسول صلى الله عليه وسلم .. ونجد أيضاً كيف أن هؤلاء الأخيار على بساطة المعارف المتاحة في تلك الأيام قد أخذو بالحجر الصحي طبقاً لمسميات هذه الأيام .. ونجد مع هذه وتلك فهماً واعيا للقدرية لا ينزل بها إلى مستوى التواكل والتقاعس ، وإنما يأخذها على وجهها الصحيح الذى يدركه الفكر الثاقب والبصيرة الواعية التي تقلب الأمور على وجوهها ، وتنظر فيها من كل نواحيها ، ثم تأخذ بالصواب الذى هو أيضاً قدر الله ..
قبل هذا الموقف ليس ببعيد ، وقف رسول القرآن صلى الله عليه وسلم يستشير المسلمين قبل التحرك إلى بدر ، ثم لا يغفل استشارتهم في أنسب الأماكن وأوفقها للغرض ـ للنزول والتمركز فيها .. شاور المسلمين في أحد وأمضى ما رأوه رغم اختلافه معهم .. وشاور في شأن الأحزاب الذين حاصروا المدينة ، وأثمرت الشورى حفر الخندق ، فكان وقاء للمسلمين مع عناية الرحمن ـ من شر محيق … كان صلى الله عليه وسلم لا يفتأ يعلم المسلمين فيقول لهم : « استعينوا على أموركم بالمشاورة .. ما تشاور قوم قط إلاّ هداهم الله لأفضل ما ينصرهم .. وفى رواية إلاّ عزم الله لهم بالرشد أو الذى ينفع » .
وها نحن نرى هذا الرهط من صحابة الرسول عليه السلام ينظرون فيتأسون به ويتبعون سنته فيأخذون بالمشورة ويتحرجون من الانفراد بالرأي ، ويدركون أن الصواب رهين باتساع دائرة البحث والتشاور والحوار .. نرى كيف أن عمر بن الخطاب أمير المؤمنين جمع من حضره من المسلمين ليشاورهم ويقضى في الأمر معهم … ونرى ابن عوف يأتي لهم بحديث سمعه من الهادي البشير ، يوصيهم فيه بالتزام أحكم ما توصل إليه الطب في أصول الحجر الصحي أمام مثل هذا المرض الذى يستشرى ـ بالعدوى ـ كاستشراء النار في الهشيم .. فما يكادون يسمعون للهدى الشريف ، حتى تطمئن إليه قلوبهم ، ويرتاح يقين إمامهم ابن الخطاب وأميرهم ..
ونجد مع هذا كله رؤية ثاقبة للفاروق في أمر القدر والقدرية هي قمة في فهمها ووعيها ، وصدى حي لسنة الهادي البشير عليه الصلوات وسيرته .. كان صلى الله عليه وسلم يوصـى فيقول : « إحرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز ».. ويقول : « إن قامت الساعة وفى يد أحدكم فسيلة ـ أي الشتلة الصغيرة ـ فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليغرسها » ..
على هذه السنة المحمدية فهم ابن الخطاب رضى الله تعالى عنه معنى القدر والقدرية ، وأدرك أن النظر في الأمور وقدرها هو شرعة الإسلام وأسلوبه لحسن التصرف فيها ، وأن ما يهدى إليه العقل والعلم وحسن التقليد إنما هو أيضًا من قدر الله … وليس أحكم من المثل الذى ضربه الفاروق لبيان لب هذه القضية ، فمن يختار الأرض الجدبة ليزرعها إنما يختارها بقدر الله . ومن يختار الأرض الخصبة فإنما يختارها أيضاً بقدر الله .. ولكن يبقى أن هذا الأخير قد دبر أمره وأعمل فكره فكانت هدايته إلى القدر الذى تثرى به صوالحه ، وكذلك فعل الفاروق عليه الرضوان ، فكان رجوعه بالمسلمين عن الأرض الطاعون فرارًا من قدر الله إلى قدر الله .
* * *
من سنن الله تعالى في كونه أن جعل الخير في النهاية ، وجعل الآخرة خيرًا من الأولى ، والنهايات أكمل من البدايات . وقال لرسول الله المصطفى عليه الصلاة والسلام :
« وَللآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى » ( الضحى 4 )
قال رب العزة لنبيه موسى عليه السلام ، فيما ترويه لنا آيات القرآن الكريم :
« وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي » ( طه 39 )
وعن هذه الآية الكريمة قال بعض العارفين، إنها نفحة ربانية لا يقف بشرٌ على عمقها ، ولا يبلغ كنهها ، فهي أعمق غورًا وأرق لسانًا ، وألطف بيانًا مما لا يستوعبه بشر !
الجهلُ مرضٌ شفاؤُه العلمُ والهُدى .
والغىُّ مرضٌ شفاؤه الرشد .
من هذين الداءين ، نَزَّه القرآن المجيد النبي المصطفى عليه الصلاة والسلام ، فقال عنه سبحانه وتعالى :
« وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى » . ( النجم 1 ـ 5 )
* * *
- قال أحد العارفين : للخلق في يوسف عليه السلام آيات , وليوسف في نفسه آية , وهي من أعظم الآيات . قيل ما هي ؟ قال : معرفته بمكر النفس وخداعها حين قال :
« وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ » ( يوسف 53 )
- مفتاح كل بركة : الصبر فى مواضع سلوكك ، إلى أن تصح لك إرادة ، فإن صحت لك الإرادة ، فقد ظهرت عليك أوائل البركة .
- أخْرج بالعزم من هذا الفناء الضيق المحشو بالآفات إلى ذلك الفناء الرحب الذى فيه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر .. فهناك لا يتعذر مطلوب ولا يفقد محبوب .