في دوحة الإسلام (30)

في دوحة الإسلام (30)
نشر بجريدة صوت الأزهر الأربعاء 19/8/2020
بقلم: أ. رجائي عطية نقيب المحامين

مخافة الله عز وجل، غير الخوف الأرضي الذي يعترينا هنا أو هناك.. مخافة الله وخشيته فرع على التقوى.. على تقواه عز وجل.

في سورة الرحمن، يقول الحق سبحانه وتعالى: «وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ» ( الرحمن 46 ).. تَعد الآية الكريمة بالجنتين من يخاف مقام ربه ويخشاه ويتقيه حق تقاته، وتمضي الآيات الكريمة فتصف الجنتين بأن فيهما ذواتا من الأفنان أي الأغصان النضرة بالثمار، وفيهما عينان من الماء تنبعان وتجريان، وفيهما من كل فاكهة زوجان، وتبسط هذه الآيات الكريمة من أوصاف النعيم الذي وعَد الله تعالى به عباده الذين يخشون مقامه، ويتقونه حق تقاته، فيقبلون على الخيرات، ويعافون المنكرات.

كان الهادي البشير عليه الصلاة والسلام، على نبوّته، أخوف الناس لربه سبحانه، وكان يجاهر صحابته بذلك، فيقول لهم: «أنا أخوفكم لله، وأشدكم لله خشيةً».

وفى الحديث الشريف: «عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس فى سبيل الله».

إن كمال المعرفة بالله تعالى ـ تورث جلال الخوف وخشيته سبحانه، فإن العارفين والعلماء.. وفي مقدمتهم الأنبياء.. هم أكثر الخلق تقىً وخشيةً وخشوعًا لرب العرش العظيم.

قال تعالى: «قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا» (107 ـ 109).

هؤلاء التقاة هم معقد الرجاء، وهم سبيل الاستمساك بالصلاح.. قال جل شأنه: «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ » (المؤمنون 1 ، 2).

وأوصى رسوله المصطفى عليه الصلاة والسلام ـ أن يوجه عنايته للذاكرين والخاشعين، فهم الذين تجدي فيهم البشارة والنذير.

بسم الله الرحمن الرحيم «إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ» ( يس 11 )، المؤمن العارف لا يخشى إلاَّ الله، ولا يهاب سواه.

بذلك أمَره ربه عز وجل، فقال فى كتابه العزيز:
«فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً» (المائدة 44).

«وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ» (النور 52)
صدق الله العظيم
أكرم وأجمل الوعود الربانية، وجهت إلى المتقين، يقول تبارك وتعالى:
« وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ» (ق31 ـ 35). صدق الله العظيم
أبو ذر الغفارى
التقى الزاهد
الصادق اللهجة
تجلت عبقرية الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري في ثلاثة خصال..

عبقرية «الصدق».. الصدق فى النية والتوجه والعمل والفعل والسلوك، فضيلة غابت أو توارت تحت آفات الرياء والمصانعة والمداهنة.

وعبقرية الالتفات إلى مخاطر جموح واكتناز الثروات التي تضخمت واستشرت فـي زماننا استشراء غابت فيه الوظيفة الاجتماعية والاقتصادية للثروات.
وعبقرية المعارضة الصادقـة التي لا تخلط إبداء الرأي والاعتراض الموضوعي الهادف، بالغوغائية أو بالتآمـر أو بالتمرد والعصيان !

كان بالفعل أصدق الناس لهجةً، طويت نفسه على الصدق، والتزم قلبه وضميره بالصدق، ولـم ينطق لسانه إلاّ صدقًا.. بلغ من صدقه مع نفسه ومع الله ومع الناس، أن شهد له إمام مدرسة النبوة بأنه أصدق الناس لهجة، فقال عليه السلام: «ما أقلت الغبراء، ولا أظلت الخضـراء، أصدق لهجة من أبى ذر» .. أمضى مع سيرته مدهوشـًا كيف لـم تفلح الثروات التي أقبلت، ولا مصانعات السياسة التي شاعت، فذ أن تحيد به عما يعتقده شعرة.. شهد بصدقه مع نفسه سعيه إلى الله قبل أن يقيض له لقاء الرسول والاهتداء منه بنور الإسلام.. هو رجل فطـر على الصدق، فاحتمل ضريبته راضيا حتى النهاية.. لم يضق بما يدفعه ثمنا لصدقه، ولم يجزع لغضب الولاة عليه، ولا خشى فقدان الرزق، ولا جفل مما كلفه الصدق من شظف، ولا ضاق بجحود الناس.. وهب حياته للصدق فى رضى وتسليم، مدركاً أن هذا هو نصيبه وقدره الذى عليه أن ينهض به وله.. ضاق به الولاة ـ فلم يبال، وجافاه الأصدقـاء، فلـم يجزع، وضاقت عليه الدنيا بما رحبت، فلم يتململ.. هو هو.. صادق اللهجة الذي شهد بصدقه الصادق المصدوق صاحب العزم الأكبر.. وكأنه قـد علـم من أمر الرجل ما أتى به حديث المستقبل بعد سنوات وسنوات من رحيل صاحب الدعوة نفسه.. كأنه بفراسته، ونبوته، قـد أدرك صدق الرجل مع نفسه حين ترك مضارب غفـار على ما جبلت عليه غفار من النهب وقطع الطريق، وأتـاه عبر الفيافي طالباً الهداية على يديه.. مثل هذا لا يداهـن، ولا يقبل أن يداهـن، وكيف يداهـن أو يقبل المداهنــة ـ وهـو هـو الذي يرفض الرخصة التي منحه إياها رسول الله حين قال له الرسول بعد أن أسلم: «أكتم هـذا الأمر، وارجع إلى قومك حتى يبلغك أمرى.. فإذا بلغك ظهورنـا فأقبل» ؟! .. بيد أن أبا ذر لا يصبر بصدقه على الكتمان، ولا يبالي بصدقه ماذا سوف تحمله المجاهرة بالإسلام وسط طواغيت قريش وعتاتها.. يقول للنبى المشفق ـ برحمته ـ عليه : «تخاف علىّ يا رسول الله !!.. فو الذى بعثك بالحق لأصرخن بها بين ظهرانيهم» !!

خرج الصادق أبو ذر ـ ليجاهر قريشاً بإسلامه فى صحن الكعبة.. لم يتهيب مما تهيب منه من لهم بمكة وقريش سند ومنعة ـ وهو الغريب الذي لا أحد يجيره وسط هؤلاء الطواغيت.. فلا ظهر ولا منعة له في مكة.. ومع ذلك يقتحم على طواغيت قريش وكبرائها مجلسهم بالبيت العتيق.. يصيح فيهم ثابت الجأش بلا وجل.. «أنا جندب بن جناده.. من غفار.. جئت أقول لكم إني قد أسلمت، وإننى أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأن محمدًا رسول الله».

ما يكاد أبو ذر ينطق بالشهادة، حتى ينقض عليه كبراء قريش وغلمانها.. يوسعونه ضربًا حتى صرعوه، وكادوا يجهزون عليه، لولا ظهور العباس وتحذيره لهم من انتقام غفار التى تمر تجارتهم على مضاربها !!
هدأ الناس عنه، ولكن صدق أبى ذر لا يهدأ، وصدق إيمانه بما آمن به يملك عليه نفسه، ويأخذ عليه حواسه، تحثه قـوة كامنة جياشـة تتفجر من داخله فيعاود الكرة فى يومه التالي.. لا يكاد يدخل صحن الكعبة ويلمح امرأتين تتعبدان إلى إساف ونائلة، حتى يضيق صدقه بهذا الهراء الذي يراه، وبعبادتهما للصنمين وتوقيرهما لأحجار لا تحس ولا ترى ولا تعقل ولا تنطق !! فكيف لنفسه الصادقة أن ترى هـذا المروق وتسكت.. لم يدر إلاّ ويداه تمتدان صفعًا إلى الصنمين، لا يثنيه ولولة المرأتين اللتين ملأتا صحن الكعبة صراخاً وعويلاً.. ولا تخيفه تدفقات قريش وغلمانها وتكالبهم عليه.. ولا الضربات التي كالوها له حتى أغشى عليه !!!

إنه هو هو.. أبو ذر.. أبي أن يفارق مكة إلاّ وقد جاهر بين طواغيتها بإسلامه، حتى إذا ما لحق بمضارب قبيلته غفار ـ لم يهدأ ولم يستنم، وإنما مضى بين قومه غفار، وقبيلة أسلم.. داعيا إلى دين الله ونبوة رسوله المصطفى.. مدفوعًا بهذه الشحنة الهائلة التي تفاعلت مع صدق لهجته فأخرجته من تيه الضلال إلى نور اليقين قوة باذلة صادقة معطاءة.

زر الذهاب إلى الأعلى