في بلاط الأسد ! (2)
من تراب الطريق (1154)
في بلاط الأسد ! (2)
نشر بجريدة المال الإثنين 9/8/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
وقفنا عند حيرة « دمنة » وصديقه « كليلة » في شأن ما يحيط بدمنة من أخطار نتيجة انخراطه في بلاط السلطان..
كان من سوء حظ « كليلة » و « دمنة »، أنه كان بالقرب منهما حال حديثهما بالسجن، فهد محبوس، أيقظه الحديث من نومه، فسمع معاتبة « كليلة » لدمنة على سوء فعله، وإقرار دمنة بإثمه، فحفظ الفهد ما سمعه وكتمه فلم يذكره لأحد.
تلاحقت الأحداث، فلم تأل أم الملك جهدا لتحريض ابنها الأسد على وجوب الخلاص من « دمنة » فإن استبقاء الفجّار بمثابة قتلٍ للأبرار، بل إن استبقاء الفاجر مشاركة في فجوره !
ضاق صدر الأسد، فاستجاب لإلحاح أمه، وأمر بتعجيل النظر في أمر دمنة، ووكل أمره إلى القاضي والنمر، على أن يرفعا الأمر إليه ليبت فيه بنفسه.
في مجلس القضاء الذي جمع بين القاضي والنمر، على ما بينهما من تناقض في التكوين والمشارب والغايات، هب النمر محرضاً الجند في خطبة عصماء، أنهاها بأنه واجب عليهم ألاّ يكتموا الملك سراً ولا يدخروه نصحاً، أو يخفوا عنه ما جرى. وليقل كلٌّ منهم على رءوس الأشهاد بما يعلم من أمر دمنة !
التقط القاضي كلام النمر، فبدأ بالثناء على تحريضه على المتهم في مجلس القضاء، ثم زاد القاضي عليه أن من خصال ما دعاهم النمر إليه ثلاثا: إحداهن الصدق فيما يستشهدون عليه، والثانية معاقبة المذنب بعقاب مقمع لأهل الريبة ( فلا محل لافتراض البراءة ! )، والثالثة أن الأشرار إذا نفوا من الأرض، زاد ذلك من تواصل الرعية وسرور الصالحين !
ولكن الحاضرين لزموا الصمت.. فلم ينطق منهم أحد بكلمة، لأنهم لم يعلموا من أمر دمنة علماً واضحاً يتكلمون به، وكرهوا القول بالظنون خوفاً من أن يؤدى قولهم إلى الحكم بقتله !
تشجع دمنة، فقال للجمع الذين رأى سكوتهم:« إنني لو كنت مجرماً لسررت بسكوتكم عن القول في أمرى، إذ لم تعلموا لي جرماً، لأن كل من يُعْلم له جرم فلا سبيل عليه، فهو البريء المعذور، فمن عرضني للطب بغير علم، أو قال في أمرى بالشبهة والظن، أصابه من عاقبة قوله ما أصاب « المتطبب » الذي ادعى علم ما لا علم له به ! »
انتفض القاضي كما انتفض قاضى قصة رجل المال لتوفيق الحكيم.. الذي فاجأه سؤال المتهمة بغسيل ملابسها في الترعة: « أُمّال أغسلها فين يا بيه » ؟!
انتفض قاضى بيدبا الفيلسوف ليسأل دمنة دون أن يفلح في إخفاء فضوله وشغفه:
« وكيف كان ذلك ؟! ».
طفق دمنة يروى للقاضي قصة متطبب (طبيب) ذاع خبره لنجابته وانتفاع الناس من طبه وأدويته، وما في كتبه، فلما مات، ادعى أحد السفهاء علم الأدوية وأشاع ذلك بين الناس، وانتحل مكانة « المتطبب ».. وتصادف أن مرضت ابنة الملك بداء ثقيل، فبعث يطلب لها الأطباء، فأشارت عليه الحاشية « بمتطبب » على بعد فراسخ يوصف بعلم الطب، فلما أتوا به ووصفوا له علّة الفتاة أشار بدواء لعلّتها يقال له « زمهران ». ولكنه اعتذر عن عدم إمكانه عمل « خلطة » الدواء لذهاب بصره، فلم تجد الحاشية أمامها سوى صاحبنا السفيه الذي ادعى علم الأدوية بعد وفاة « المتطبب » ذائع الصيت، فلما أحضروه ادعى لهم في جرأة أنه عارف بذلك الدواء « الزمهران »، وعالم بالأخلاط والعقاقير، بصير بطبائع الأدوية المفردة والمركبة. سارعت به الحاشية إلى خزانة أخلاط الأدوية، فلم يجد أمامه بداً من الاستمرار في ادعاء المعرفة، فجعل يأخذ ويمزج بين أخلاط لا يعرفها، كان من سوء طالعه أن أحدها سم زعاف قاتل، فلما سقى به الفتاة، لم تلبث إلاّ ساعة حتى ماتت. عند ذلك أخذه الملك فسقاه من دوائه الذي خلطه فمات لوقته !
أضاف دمنة: « إنما ضربت لكم هذا المثل لتعرفوا ما يدخل من الإثم على القاتل بالجهالة والعامل بالشبهة ! »
ولكن سيد الخنازير، صاحب مائدة الملك، أبى إلاّ أن يمالئ هوى أم الأسد، فقال متزلفاً: « إن الأحق لهذا الشقي الذي لم تسأل عنه العامة ولا يشكل أمره على الخاصة، أن العلماء قد عرفوا ما حكم ما ظهر عليه من علامات الشر وسمات الفجور » !
فسأله رأس القضاة وهو يشير إلى دمنة: « وما تلك العلامات والسمات ؟ أطلعنا على ما ترى في صورة هذا الشقي !! »
فقال سيد الخنازير: « إن العلماء قد قالوا: إن من صغرت عينه اليسرى وهى لا تزال تختلج، ومال أنفه بعض الميل إلى شقه الأيمن، وبعد ما بين حاجبيه، وكانت منابت شعر جسده ثلاث شعرات، وإذا مشى كان أكثر نظره إلى الأرض ويلتفت تارة بعد تارة ـ فإن ذلك، دال على اجتماع صفات الغدر وطباع الآثام والبغي على الصالحين. ثم استأنف سيد الخنازير في ثقة وهو يشير إلى دمنة: « وهذه العلامات كلها في دمنة ».
لم يستسلم دمنة لهذه المغالطة المفضوحة، فانطلق يقول: « لو كانت هذه العلامات التي ذكرتها وأشباهها يُناب بها عن العدل والمعرفة بالحق، لما تكلف الناس الحجج، ولما كان جزاء أهل الإحسان أو أهل الفجور إلاّ على هذه العلامات. وهذا لا يوجب شيئا لأن هذه العلامات تخلق مع صاحبها حين يخلق وتولد معه حين يولد. وإن كنت تزعم أن الخير والشر إنما يكونان بالعلامات، فإن معنى ذلك أنه لا حمد للمحسن ولا ذم على المسيء، ولا أجدني في هذا أيضاً إلاّ معذوراً، ولا أراك تنطق إلاّ بعذري وتذكر براءتي وأنت لا تدرى » !!
بهت سيد الخنازير، ولكن دمنة عاجل يقول: « إنما أنت في هذا ـ يا سيد الخنازير ! ـ كرجل قال لامرأته: أبصري عيبك يا سفيهة ثم عيّبي غيرك ».
كيف كان ذلك، سألوا دمنة، فكان جوابه: هذا مثل الرجل والمرأتين ! ولذلك حكاية أخرى !