فى دوحة الإسلام (99).. لا ثأر فى الإسلام
نشر بجريدة صوت الأزهر الأربعاء 5/1/2022
ــــ
بقلم نقيب المحامين الأستاذ : رجائى عطية
آفة الثأر والانتقام ، آفة اجتماعية ، يشجبها الإسلام وينهى عنها ، فهـى موروثات « قبلية » تتملك من لا يتعمقون فى الدين ، ولا يلمّون بروحه وأحكامه .. قدسية الروح فى الإسلام قدسية عامة ، تحظر القتل ابتداءً ، وتحظر القتل ثأرًا وانتقامًا ، بل هى مدت مظلتها للطير والحيوان .. وتقديس الإسلام للروح الإنسانية فرع على تكريمه للإنسان .
يقول الخالق البارئ جل شأنه :
« وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً » ( الإسراء 70 )
هذه الروح التى خلقها الله ، أمرها بيد الله .. روح الفرد هى روح الناس جميعًا ، وقتلها اعتداء على الحياة الإنسانية كلها !
يقول الحق عز وجل فى كتابه المبين :
« أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا » ( المائدة 32 )
إزهاق الروح من أكبر الكبائر فى الإسلام ، وأبشع الجرائم فى شريعة الله . فرض الله تعالى لها قصاصًا يرهب ويثنى الناس عن استباحتها أو الاستهانة بحرمتها .
يقول الحكم العدل :
« يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى » ( البقرة 178 )
القصاص لغةً يعنى المساواة ، أى الجزاء من جنس العمل أو الجرم ، ولكنه الجزاء الذى يوقعه القاضى بعد الدراسة والبحث والتمحيص ، وبناء على الأدلة المؤكدة ، لا قتل الأبرياء كيدًا وانتقامًا .
القصاص لم يفرض للنكاية أو الانتقام ، وإنما عقابًا عادلاً يوقعه القاضى على الجانى الفاعل لا سواه .
والقصاص فى الإسلام ، من أجل الحياة ، لا من أجل إشفاء الغل والثأر .
يقول الحكيم الخبير :
« وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ » ( البقرة 179 )
القاتل إن استطاع أن يتخفى بجريمته من العقاب الدنيوى فلا إفلات له من عقاب السماء .
فى القرآن المجيد :
« وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا » ( النساء 93 )
روى بإسناده عن الهادى البشير عليه الصلاة والسلام :
« ليس من نفسٍ تُقتل ظلماً ـ إلاّ كان على ابن آدم الأول ( قابيل ) كفل من دمها ، لأنه أول من سن القتل » .. فى الحديث الشريف أن كل الآدمى على المسلم حرام : دمه وماله وعرضه ، يقول عليه الصلاة والسلام لأصحابه : « لزوال الدنيا أهون على الله من قتل نفس بغير حق » .. « لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا فى دم مؤمـن لأكبهم الله فـى النار . » .. يحذرهم عليه الصلاة والسلام فيقول لهم : « إن قتل النفس التى حرم الله » ـ من السبع الموبقات !!
نفس الآدمى كما هى عزيزة عليه فإنها عزيزة على سواه .. احترام الآدمى لروحه وحـرصه عليها ، يجب أن يردعه عن المساس بأرواح الآخرين ..
عنى الإسلام بمواجهة ومحاصرة آفة الثأر ، وهى آفة جاهلية ، نابعة عن قبليات جهولة ، لا تعى أن الناس جميعًا ينتمون إلى أصل واحد وشجرة واحدة . يقول الحق سبحانه وتعالى :
« يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ » ( الحجرات 13 )
« يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا » ( النساء 1 )
سبحانه وتعالى القائل :
« وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ » ( الأنعام 98 )
« هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا » ( الأعراف 189 )
لا عصبية ، ولا عنصرية ، ولا تفاضل بالأعراق والأحساب والأنساب .
والثأر فى عماه وضلاله ، لا يلتفت ولا يعنى بالحق والعدل ، ولا يفرق بين البرىء والمذنب ، لأن هدفه الكيد الوجيعة ، والانتقام الأعمى الذى يختار الضحية الموجعة حتى وإن كانت بريئة من أى جرم !
هذا الثأر الأعمى يخالف كل أحكام القرآن المجيد القائمة على مبدأ شخصية المسئولية . فالشخص لا يسأل إلاَّ على ما ارتكبه هو لا ما ارتكبه سواه ، فكل إمرئ بما كسب أو فعل رهين ، وكل إنسان ألزمه الله طائره فى عنقه ، ولا تزر فى الإسلام وازرة وزر أخرى .
« وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ » ( الإسراء 13 )
« كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ » ( الطور 21 )
« وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى » ( الأنعام 164 ، فاطر 18 )
« فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ » ( الزلزلة 7 ، 8 )
جذور هذا الانتقام الأعمى ترجع إلى الجاهليـة العربية ، لم يكن جنون الثأر يتوقف بهم عند معنى العدل ، فلا شأن لهـم به ، يطلبون غير القاتل بالقاتل ، والعدد أو الكثرة بالواحد .
فى حرص على قداسة الروح الإنسانية وتحريم القتل ، لم يفرّق الإسلام فى جزائه وعقابه بين من يقتل ابتداء ، وبين من يقتل ثأرًا يمتد العقاب إلى كل إزهاق للروح التى حرم الله قتلها إلاّ بالحق ـ مهما بلغ اعتقاد الآخذ بالثأر بأنه ينزل ثأره على ” شخص ” من يستحقه . فهيهات أن يكون لآحاد الناس إمكانية تحديد الجانى المطلوب الاستيفاء منه تحديدا يبتعد عن الهوى ويتوسد الدليل والبينة.
والقضاء ليس متروكًا لعموم الناس ، ولا لطلاب الثأر والانتقام ، وإنما هو وظيفة جليلة ، ينهض به القاضى العالم الخبير العادل .
ومع ذلك يرعاه الإسلام بوصاياه حتى لا يقع فى الخطأ ..
يقول له القرآن المجيد ـ محذرًا إياه من الأخذ بالظن :
« يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ » ( الحجرات / 12) .. ومحذرًا أيضًا من الاندفاع : « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ » ( الحجرات /6 ) .. ومأمورًا بتوخى تحقق العدالـة فـى شهـوده .. « وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ » (الطلاق /2) .. ومنبهًا إلى وجوب الاتقاء والاحتراس باستبعاد ذوى الشبهة من الشهادة عملاً بحديث رسول القرآن : « لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين فى ولاء ولا قرابة ولا ذى إحنة ( عداوة ) » . فالشبهة مسقطة للعدالة وبالتالى للشهادة .
والقاضى مأمور فوق ذلك بمراعاة العدل والمساواة حتى فى مجلسه ، ضماناً لسعى ووصول الدليل إليه فى سهولة بلا مشقة من رهبة أو خوف أو مظنة غياب أو قلة العدل ، ففى الحديث النبوى : « إذا ابتلى أحدكم بقضاء فلا يجلس أحد الخصمين مجلسا لا يجلسه صاحبه ، وليبق الله فى مجلسه وفى لحظه وفى إشاراته » .. وفى وصية الفاروق عمر إلى أحد ولاته ـ وكان له القضاء فى الولاية : « آس بين الناس فى مجلسك حتى لا يطمع شريف فى حيفك ، ولا ييأس ضعيف في عدلك » . ثم على القاضى بعد ذلك وقبله ، أن يتسلح بالإخلاص وبالعلم ، فالعلم هو سبيل دراسة القضية ، ومعرفة وجـه الصواب ، والحكم فيها بالعدل . قال رسول القرآن : « القضاة ثلاثة ، قاض فى الجنة ، وقاضيان فى النار . فأما الذى فى الجنة فرجل عرف الحق فقضى به ، وأما الذى فى النار فرجل عرف الحق فجار فى الحكم ، ورجل قضى على جهل . قالوا : فما ذنب الذى يجهل ؟ قال : ذنبه ألا يكون قاضيًا حتى يعلم » !! .
لا يحيط طالب الثأثر والانتقام بشىء من ذلك ، ولا يعنيه ، ولا تعنيه الحقيقة ، وإنما هو يجرى وراء غله وهواه .
الثأر ليس بطولة ولا شجاعة ترفع عارًا ، بل هو العار بعينه ، بمخالفته لحكم الله وأوامره ، ولتواريه ـ بلا شجاعة ـ وراء الاغتيال غدرًا !
حرص الإسلام فى محاربته لآفة الثأر على أن يلفت نظر الآدمى إلى الأخوة الإنسانية التى تسمو على ما عداها ، ولا محل إزاءها للتمسك بقبليات لأنها على ضوء « الأسرة الواحدة » التى تنتمى إليها البشرية ـ لا تعدو أن تكون قرابات وقتية عارضة فى زمن ما ، تنحسر لتصب فى النهاية فى الأسرة الإنسانية الكبرى التى تضم الناس جميعًا بلا عصبيات ولا قبليات ولا أعراق .. هذه الأخوة الإنسانية تشكل معلمًا أساسيًا من معالم احترام الإسلام للروح الإنسانية ورعايته لها .
مفازات الدنيا تقطع بالأقدام ؛ ومفازات الآخرة تقطع بالقلوب !!!!!!!!!
من دلائل عقل المرء ؛ أن يترك الدنيا قبل أن تتركه ؛ وأن يهئ قبره قبل أن يدخله ؛ وآن يرضى خالقه قبل أن يلقاه .
لا نوم أثقل من الغفلة ؛ ولا رق آملك من الشهوة ؛ ولولا ثقل الغفلة عليك لما ظفرت بك الشهوة !!!!!!!!!!!!!!!!