فى دوحة الإسلام (97)

التكافل والتساند فى الإسلام

نشر بجريدة صوت الأزهر الأربعاء 15/12/2021

ــــ

بقلم: الأستاذ رجائي عطية نقيب المحامين

 

التكافل والتساند قوام المجتمع الرشيد ، سواء فى أوقات السعة والرخاء ، وفى أوقات العسر والشدة ..

وهذه القيم أوضح ما تكون فى الإسلام الذى حقق هذه المعانى وزيادة .

روى بإسناده عن نبى البر والرحمة ، عليه الصلاة والسلام ، أنه قال :

« إن الأشعريين كانوا إذا أرملوا فى غزو، أو قل فى أيديهم الطعام ، جمعوا ما عندهم فى ثوب واحد ثم اقتسموه فيما بينهم . فهم منى وأنا منهم » .

هذا الإحساس المتبادل بأوجاع واحتياجات الجماعة ، والتساند والتكافل فيما بينهـا ، هو أحد أهم سمات ومقومات المجتمع الإسلامى الذى ينهض على سلامة الاعتقاد وعلى العدالة والحب والتوحد ووحدة الشعور ، وعلى التعاون والتكافل والتساند .. هذا التضافر الذى فيه يقول حديث الهادى البشير ـ صلى الله عليه وسلم ـ : « مثل المؤمنين فى توادهم وتراحمهم وتعاطفهم ، كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى  » ..

إحساس المسلم بالآخرين ، ينبع من فيض المعانى الإنسانية والقيم الأخلاقية التى طفق الإسلام يبثها فى نفوس المسلمين .. وحدة الشعور فى الجماعة تدعو للتعاطف والتساند مع الضعف والمرض والحاجة .. الضعيف فى الحديث النبوى أمير الركـب ، يتلقى من الركب كله ما يجبر ضعفه ويقيله من وهنه .. والمؤمن للمؤمن ـ فيما قال عليه السلام ـ كالبنيان يشد بعضه بعضا .. يتحاب المؤمنون جميعًا فى الله ، ويتكاتفـون فـى الضوائق والملمـات .. خير النـاس فـى الإسـلام هو أنفعهم وأرحمهم بالناس .. يقول لهم الهادى البشير ـ صلى الله عليه وسلم ـ : « الراحمون يرحمهـم الرحمـن » .. « ارحمـوا مـن فـى الأرض يرحمكـم من فى السماء .. » .

لا يرضى المسلم أن يشبع بينما جاره جوعان ، أو أن يتدثر وهناك عرايا يلتحفون السماء !! ، أو أن لا يبالى بما يصيب الآخرين مـن كربات .. يسمع من وصايا الرحمة المهـداة ـ عليه السلام ـ : « أيما أهل عَرَصَة ـ وهى البقعة بين الدور ـ أصبح فيهم امرؤ جائعًا ، فقد برئت منهم ذمة الله تبارك وتعالـى » .

يعرف المسلم من الهدى النبوى أن عيادة المريض واجب ، ويعلمه الحديث القدسى أن من عاد مريضًا فى مرضه فكأنما عاد الله .. يتنادى المسلمون بأحاديث صفى السماء عليه السـلام : « مَنْ كـان فى حاجة أخيه كان الله فى حاجته » .. « مَنْ نفّس عن مسلم كربة من كرب الدنيا ، نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومـن يسّر على معسر فى الدنيا يسّر الله عليه فى الدنيا والآخرة ، ومن ستر علـى مسلـم فـى الدنيا ستر الله عليه فـى الدنيا والآخرة ، والله فى عون العبد ما دام العبد فى عون أخيه »

عن نبى البر والمرحمة أنه كان عليه السلام يقول  : « لا يؤمن أحدكم  حتى يحـب لأخيـه مـا يحب لنفسه » … « أيما مسلم كسا مسلمًا ثوبًا على عرى ، كساه الله من خضر الجنة ، وأيما مسلم أطعم مسلمًا على جوع أطعمــه الله من ثمـار الجنة ، وأيمـا مسلـم سقى مسلمًا على ظمإٍ سقاه الله عز وجل من الرحيق المختوم » .. ينصت المسلـم لقول الله عز وجل : « إِنَّ الأبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَـى حُبِّـهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا  » ( الإنسان 5 ـ 8 )

روى بإسناده عن الهادى البشير عليه الصلاة والسلام ـ قوله  :

« أفضل الصدقة أن يتعلم المسلم علما ، ثم يعلمه أخاه المسلم » .. الساعى مأجور فى طلبه العلم ، ومثاب فى بذله إياه .. هذا التكافل تعضيد للمجتمع بتعليم وإنارة عقول وأفهام وبصائر أفراده .. شيوع العلم والعمل به فى المجتمع ثمرة تكافل ، يدرك به الفرد أن عطاءه للمجموع مردود إليه فيما يتلقاه من ارتقاء مستوى العطاء العام ارتقاءً  ينعكس على المجموع فى جميع المجالات ..

يقول الوهاب الرزاق ـ سبحانه ـ فى كتابه العزيز :

« إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ » ( البقرة 271 ) .. لذلك كان العطاء أو الصدقة فى السر ، أفضل وأكرم وأثوب أنواع العطاء ، لأنه بعيد عن الاصطناع والاستعراض وطلب السمعة من ناحية ، وحافظ لشعور وكرامة المتلقى من ناحية أخرى ..

فكرة المجتمع حاضرة فى التكافل الإسلامى مع نجدة ومعاونة الفرد .. نجدة الفرد ومساندته والتكافل معه تصب فى المجتمع الذى هو مجموع أفراده  بصلاتهم وعلاقاتهم وأواصرهم .. قوانين السوق ورعاية الآخرين فى الأسواق فرع على اهتمـام الفرد بالجماعة .. لا يبيع حاضر لبادٍ ، ولا يطفف البائع أو يغش فى الميزان ، ولا يقبل المؤمن أن يكتنز الذهب والفضة ويحرم المجتمع من تداول  وحركة المال التى تعود على المجتمع بالنماء ، أو أن يحتكر الطعام ويخفيه ليعلو بثمنه على الناس .. يتأسى المسلمون بوصية الرحمة المهداة ـ صلى الله عليه وسلم ـ : « الناس شركاء فى ثلاثة : الكلأ والماء والنار » .. حق الجماعة يوجب ألاّ يشذ أحد بنفسه جاريا وراء أطماعه غير مبالٍ  بأحوال واحتياجات الناس .. فى الحديث الشريف فيما رواه الإمام أحمد والحاكم  بإسناد جيد : « من احتكر الطعام أربعين  يوما فقد برئ من الله وبرئ الله منه » .. وقيل : « وكأنما قتل الناس جميعا » .. عن الإمام علىّ رضى الله عنه أن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : « إن الله فرض على أغنياء المسلمين فى أموالهم بقدر الذى يسع فقراءهم ، ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا وعروا إلاّ بما يصنع أغنياؤهم . ألا وإن الله يحاسبهم حسابًا شديدًا ، ويعذبهم عذابًا أليمًا » .

واجب الطريق فى الإسلام فرع على شجرة التكافل والاهتمام بالمجتمع ومرافقه من قبل صياغة تعبير « المرفق العام ».. للطريق حق يجب على الكل كفالته ، بغض البصر وكف الأذى ورد السـلام والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وتطهير الطريق وإماطـة الأذى عنـه واجـب .

روى بإسناده عن الهادى البشير ، عليه الصلاة والسلام ، أنه قال :

« الإيمان بضع وستون شعبة ، فأفضلهـا قول لا إله إلاّ الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق » .. كان عليه السلام يوصى فيما روى عنه بإسناد صحيح ، بعـزل الأذى عـن الطريق ، بينما نـراه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوصى بالزرع والغرس والإنبات رعاية لحق المجتمع وأفراده وتوفير ما ينفع الناس بل وكافة الكائنات .. ويقول : « ما من مسلم يغرس غرسًا ، أو يزرع زرعًا ، فيأكل منه طير أو إنسان ، إلاّ كان له به صدقة  » ..

هذه المعانى التى تلقاها نجباء مدرسة النبوة الأبرار ، عاشت فى حناياهم واستقرت فى أخلادهم وضمائرهم ، فصدروا عنها وعبروا عن قيمها الإنسانية والاجتماعية فى كثير من المشاهد والمواقف التى حفظتها أسفار السير والأخبار .. عرف هؤلاء النجباء ، وتعلموا مما أوصاهم به رسول القرآن ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، أنه لا قيمة للفرد مفصوما عن المجموع ، وأنه لا معنى ولا قيمة لعلم ينفرد به صاحبه يوكئ عليه ويحرم المجتمع والناس منه ! ، وأدركوا أنه لا معنى للغنى والثراء إذا احتجزه صاحبـه واكتنزه وحـرم الحياة الاقتصادية منه وضن به على احتياجات المحتاجـين !

نقل الرواة أن الفاروق عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ كان يقتر على نفسه وأهل بيته فى عام المجاعة أو الرمادة ، ويقول  : « لو لم أجد للناس ما يسعهم إلاّ أن أدخل على أهل كل بيت عدتهم فيقاسموهم أنصاف بطونهم حتى يأتى الله بالحيا فعلت ، فإنهم لن يهلكوا على أنصاف بطونهم » .

بين حديث الرحمة المهداة عليه الصلاة والسلام فى التنويه بصنيع الأشعريين وقت الشدة ، وبين قالة الفاروق عمر فى عـام الرمادة ، ما يناهز عشرين عاما ، ولكن المنهج العمرى دل على أن رسالة الإسلام تغلغلت فى النفوس والضمائر ، وعلم منها هؤلاء الأتقياء الأصفياء الأنقياء أن مظلة التعاون والتكافل هى مرفأ المسلمين ، والحافظ لأواصرهم ، والغيث الحانى الرحيم لضعيفهم ومريضهم ومكروبهم وعاريهم وظامئهم ومعوزهم .

فى هذا التكافل روح الإسلام الحقيقية السامية التى دعا وأرشد إليها الهادى البشير عليه الصلاة والسلام ،  وتلقاها وأشربها صحابته الأبرار ، فتواصلوا معها وعبروا عنه وأثبتوا أنه لا خوف على المجتمع الإسلامى ما بقى مرعيا بالمحبة والتواد والتعاطف والتراحم والتكافل .. تأتلف وتلتقى فيه القلوب على نبض واحد ، وتتوحد سواعد العاملين صناع الحياة على نسق واحد ، ويتضافر المجتمع متأسيًا بالهدى النبوى : « المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا » .. هذا الهدى هو الذى حفظ على الدوام كيان المجتمع الإسلامى وكفل للمسلمين ارتفاع أعمالهم إلى مستوى آمالهم وعمق إيمانهم الصادق فى دوحة الإسلام  .

من الحكم العطائية :

« لا تستبطئ منه النوال ـ ولكن استبطئ من نفسك وجود الإقبال » !

فرغ خاطرك للهمّ بما أمرت ، ولا تشغله بما ضُمن لك ، فإن الرزق والأجل قرينان مضمونان ، فما دام الأجل باقيا كان الرزق آتيا ، والله عز وجل إذا سد عليك بحكمته طريقا من طرقه ـ فتح لك برحمته طريقا أنفع لك منه . ونعم بالله

زر الذهاب إلى الأعلى