فى دوحة الإسلام (90)

الأمانة السجية المانحة

نشر بجريدة صوت الأزهر الأربعاء 27/10/2021
ــــ
بقلم: الأستاذ/ رجائى عطية نقيب المحامين

تعددت المرويات في الصحاح وكتب السيرة عن صفة الأمانة في أبي عبيدة بن الجراح , وعن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي أسبغ عليه فيها أنه « أمين الأمة » ، وأقوال الصحابة الذين أجمعوا على وصفه بالأمانة , وتلقيبه بأنه « أمين الأمة » , وأورد ابن عساكر فى تاريخ دمشق , أن أبا بكر الصديق ولاه بيت المال ثقة في أمانته , وتكررت الإشارة والإشادة بهذه الأمانة في كتب الحديث والسير وأعلام الصحابة , حتى لا تجد مصدرًا أو مرجعًا إلا ويشير إلى « أمانة » هذا الصحابى الجليل , ويورد اللقب الذي طار فى الآفاق أنه « أمين الأمة » .
والأمانة تأتي في مقدمة الشمائل الأخلاقية المانحة , فقوامها الإخلاص , والصدق مع النفس , ومع الغير .. فالأمانة فيما أورد القرآن الحكيم ـ هي التي عُرضت على الجبال فأبينها وأشفقن منها وحملها الإنسان , فهو أجدر المخلوقات بحمل الأمانة ـ وبها أمر الإنسان فجاء بالكتاب المجيد « إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ » ( النساء 58 ) .. وجمع القرآن الحكيم بين الأمانة ورعاية العهد فجعلها صفة للمؤمنين : « وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ » ( المؤمنون 8 ) .. وأمر المؤمنين بأداء الأمانة وحذرهم من الخيانة فيها , حتى جمع بين خيانة الأمانة وبين خيانة الله ورسوله ، فقال عز من قائل : « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ » ( الأنفال 27) .. وأمر بالوفاء بالعهد ، وهو فرع على الصدق فى حمل الأمانة وأدائها ، فقال سبحانه : « وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً » ( الإسراء 34 ) .. وقال : « وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ » ( النحل 91 ) ..
وقال سبحانه وتعالى فى وصف المؤمنين إنهم : « الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ » ( الرعد 20 ) .. « وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ » ( البقرة 177 ) .. ومن احترام الإسلام للأمانة ووجوب أدائها فى الولاية وفى الحكم وفى العهود والعقود ، جعل القرآن الحكيم هذا الوفاء مقدمًا فى الإسلام حتى على حق الدين ، فجاء به : « وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُـونَ بَصِيرٌ » ( الأنفال 72 )
قدم القرآن بصريح لفظه ، احترام ورعاية العهد والوعد والميثاق على نصرة من يستنصر المسلمين فى الدين .. وفى الحديث النبوى : « إن حسن العهد من الإيمان » .. ودل القرآن الحكيم على أن الوفاء بالوعد هو خلق الأنبياء والرسل والصالحين : « وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيًّا » ( مريم 54 ) .. وفى وصف وثواب المؤمنين بمراعاتهم الأمانة والعهد ، جاء بالكتاب المجيد : « وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ » ( المؤمنون 8 ـ 11 )
ومن يتابع مناقب أبى عبيدة ، وهى عديدة وثرية ، يجدها نابعة من سجية الأمانة متفرعة عنها ، تصدر عنها وتعود إليها ، فكان ناصحًا أمينًا ، زاهدًا عفيفًا ، مخلصًا صادقًا ، متواضعًا متسامحًا ، عادلاً منصفًا ، يؤثر على نفسه ، وينكر ذاته إنكارًا لم يفارقه قط فى أى موقف منذ أسلم وهاجر بإسلامه إلى الله ، لا يبغى من أحد جزاءً ولا شكورًا ، ولا يغنيه أن يمجده أو يطريه أحد ، يتوارى تعففًا وحياءً أمام عبارات المديح والثناء .
هذه هى الأمانة ، وهؤلاء هم المؤمنون حقًّا .

الغوث
فى عام الرَّمادة

كان عام الرَّمادة محنة أصابت شبه الجزيرة العربية فى عام 18هـ ( 639م ) ، كما كانت هذه المحنة امتحانا عسيرًا للقادر فيما يبذل لسواه ، وفى غير القادر فى جلده وتحمله وصبره ، وللحاكم فيما يجب عليه أن ينهض به .
بدأت نُذُر المجاعة الشديدة فى أواخر العام السابع عشر للهجرة ، بعد أن أمسك المطر فى شبه الجزيرة كلها تسعة أشهر كاملة ، حتى أجدبت المراعى وعم القحط وأصاب الناس مجاعة هائلة !
صارت الأرض سوداء من جفاف النبت ، مجدبة كثيرة التراب ، فإذا تحركت الريح سفَّت « رمادًا » لذا سمى العام عام الرَّمادة ..
فكانت المجاعة ابتلاء عامًا ، فى ذلك العام هلك الزرع والضرع ، وعم جوعٌ شديد أهلك الناس والأغنام ، وخرجت الوحوش من أرباضها باحثة عن الطعام ، وقيل إن الناس كانت من شدة الجوع تحفر أنفاق اليرابيع والجرذان ليخرجوا ما فيها !!
بدأ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بنفسه ، وبأهل بيته ، فحرم اللحم والسمن والزيت على نفسه وأهله ، وجاع عمر حتى اصفر لونه ، وجعل يقول لو لم أجد للناس ما يسعهم إلاَّ أن أدخل على أهل كل بيت عدتهم ــ أى عددهم ــ فيقاسموهم أنصاف بطونهم فعلت ، فإنهم لن يهلكوا على أنصاف بطونهم » .. وأقام مراكز حول المدينة مزودة بما يتيسر من الطعام لأهل البادية .
كتب عمر بن الخطاب إلى أمراء الأمصار ــ التى لم يصبها البلاء ، يستنجدهم ويستغيث بهم ، وكتب فيمن كتب إليهم إلى عمرو بن العاص الوالى على فلسطين :
[ فى الصدى ] عمر « سلام عليك ! أما بعد ، أفترانى هالكًا ومن قِبَلى ، وتعيش أنت ومن قِبَلك ؟! فيا غوثاه ! يا غوثاه ! يا غوثاه ! » .
أجاب عمرو بن العاص لفوره :
[ فى الصدى ] « أما بعد ، فلبّثْ . لأبعثن إليك بعيٍر أولها عندك وآخرها عندى »
وبعث عمر إلى أبى عبيدة بن الجراح ومعاوية بالشام ، وإلى سعد بن أبى وقاص فى العراق ، فأجابوه جميعًا بنحو ما أجابه عمرو بن العاص ، وكان أبو عبيدة بن الجراح أمين الأمة أسرع الأمراء استجابةً لنداء عمر وغوثًا لأهل الجزيرة العربية ، فقدم بنفسه إلى المدينة فى أربعة آلاف راحلة محملة بالطعام ، فولاه عمر قسمتها فيمن حول المدينة بالبادية ، فسارع بتوزيعها عليهم ..
روى الحوارىّ الزبير بن العوام ما كان قد كلفه به الفاروق رضى الله عنه وأرضاه .. قال : « قال حَمَّل عمر. فى عام الرَّمادة قافلةً من الإبل بالدقيق والشحم والزيت ، لنجدة أهل البادية ، وقال له :
[ فى الصدى ] عمر : « أخرج فى أول هذه العير ، فاستقبلْ بها نجدًا » ؛ فاحملْ إلى أهل كل بيت قَدَرت أن تحملهم إلىَّ !
« ومن لم تستطع حمله ، فَمُرْ لكل أهل بيت ببعير بما عليه ..
« ومُرْهم فليلبسوا كساءين ؛ واحدًا للشتاء ، وآخر للصيف ..
« ولينحروا البعير ، وليحفظوا شحمه ، وليقدّدوا لحمه ، وليحتزوا جلده !.
« ثم ليأخذوا كَبّةً من قديدٍ ، وكَبّةً من شحم ، وحَفْنَةً من دقيق ، فليخلطوا ويأكلوا حتى يأتيهم الله برزقه ! »
طفق عمر ــ رضى الله عنه وأرضاه ــ طفق يحتاط لمثل عام الرَّمادة ، فكتب إلى عمرو بن العاص حين تولى مصر ــ كتب إليه يقول :

[ فى الصدى ] عمر « أما بعد ؛ فعليك أن تحفر خليجًا بين النيل وبحر القلزم .. وهو البحر الأحمر ، لتذهب وتجىء فيه السفن محملة ما بين الفسطاط والحجاز ، ولا يزال موضع الخليج يعرف حتى الآن فى القاهرة بشارع الخليج » .
يقول الله تبارك وتعالى فى كتابه العزيز
« لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ » ( يونس 26) صدق الله العظيم
من قول الفاروق عمر بن الخطاب فى إحدى خطبه :
« إن الله جعل ما أخطأتْ أيديكم رحمةً لفقرائكم ، فلا تعودوا ـ أى لا ترجعوا ـ فى هباتكم !
وقال : ما أنعم الله على عبدٍ نعمةً إلاَّ وجد له من الناس حاسدًا ..
ولو أن إمرؤًا أقوم من الرمح ـ أى أكثر استقامة من الرمح ـ لوجد من الناس غامزًا عليه !
فمن حفظ لسانه ستر الله عليه عورته . »

لا يزداد تعلق القلب إلا بمن يهواه ؛ ولا يذكر اللسان إلا ما يجيش فى الصدر من نجاح المسعى أو خيبة الآمل !
• فرغ قلبك إلى الله لتستطيع ذكره حق ذكره ؛ ولذكر الله أكبر!
• آفة العلماء الهوى٠٠إذا آثروا واتبعوا الرياسات والشهوات !!!

زر الذهاب إلى الأعلى