فى دوحة الإسلام (87)
العمل والغرس والإنبات والتعمير فى الإسلام
نشر بجريدة صوت الأزهر الأربعاء 6 / 10 / 2021
ــــ
بقلم: الأستاذ رجائى عطية نقيب المحامين
روى بإسناده عن الهادى البشير عليه الصلاة والسلام . أنه قال :
« من نَصَبَ شجرة فصبر على حفظها والقيام عليها حتى تثمر ، كان له فى كل شىء يُصاب من ثمرها صدقة عند الله عز وجل » . صدق رسول الله
ينوّه هذا الحديث بواجب المسلم فى الغرس والإنبات ، وفى التعمير بكل عمومه .. ويحببنا فى الاستجابة إلى هذا الواجب ، بأجره وثوابه عند الله عز وجل . وهو ثواب دائم لا يفرغ ولا ينقضى .. صدقته تمتد إلى كل ما يصاب من ثمر الشجرة اليوم وغدًا وبعد غد .. والأشجار تثمر ويتواصل ثمرها ما حُفظت وأُديت لها حقوق الرعاية لتنبت وتثمر وينضج ثمرها ..
هذا الواجب واجب اجتماعى وإنسانى ، لأن أداءه إعمار للحياة فى أمس ما تحتاجه مخلوقات الله عز وجل .. من إنسان أو خير أو حيوان .
روى أنس بن مالك ـ رضى الله عنه ـ أن الرحمة المهداة أوصى عليه الصلاة والسلام فقال :
« ما من مسلم يغرس غرسًا أو يزرع زرعًا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة ـ إلاَّ كان له به صدقة » .
هذا الواجب معطاء للأحياء كافة .. ووفاء بحق الحياة التى منحنا الله تعالى إياها ومنحها لمخلوقاته .. قد تستغنى الكائنات عن إشباع هذه أو تلك من احتياجاتها ولكنها لا تستغنى قط عن الطعام والشراب .. فهما وقود الحياة ، وسبيل المضى فيها على السنن التى أرادها الخالق البارئ جل شأنه ..
وعلى قدر أهمية القيام بهذا الواجب ، كانت دعوة الهادى البشير عليه الصلاة والسلام إلى القيام بزراعة الأرض ، فإن كان مالكها أو حائزها لا يستطيع ذلك ، توجب عليه أن يتيحها للقادر على هذا الغرس والزرع والإنبات .
فى الحديث الشريف ـ فيما رواه جابر بن عبد الله رضى الله عنه ـ أن النبى عليه الصلاة والسلام قال :
« من كانت له أرض فليزرعها ، فإن لم يستطع أن يزرعها وعجز عنها ، فليمنحها أخاه المسلم » .
بل ونهى عليه الصلاة والسلام عن احتجاز الأرض بلا تعمير ، فأوجب عليه الصلاة والسلام حرمان محتجز الأرض منها إن لم يعمرها فى خلال ثلاث سنوات على الأكثر ، فقال:
« ليس لمحتجز حق بعد ثلاث سنين »
تعمير الأرض هو تعميرٌ وعمارة للحياة ، وتهيئة لأسبابها . وبلغ من حرص الهادى البشير على هذا الإعمار ، أن جعل من أحيا مواتًا الحق فيه ، فقال : « من أحيا مواتًا فهو أحق به » .
هذا الواجب فرع على العمل الواجب الذى اتسم به الإسلام ، وصار به دينًا للعمل والعاملين .
العمل لغة الحياة ، ورباط الأحياء .. وهو حجة الإسلام إلى الدنيا التى أراد لأبنائه فيها أن يكونوا بعملهم وسعيهم وبذلهم مكان الريادة فيها تعبيرًا عن قيمه الأصيلة ، وإسهامًا مثمرًا وفاعلاً فى تعمير الدنيا وإثراء الحياة وتجميلها والنفع بها ، بحصاد وعرق العاملين صناع الحياة .
الحياة فى الإسلام حياة جادة هادفة ، لا خاوية ولا عبثية ، لها غاية قوامها هذا المعنى الجاد .
فى القرآن المجيد :
« تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ » (الملك 1 ، 2)
الآدمى معلق مصيره بعمله ، والحياة كلها ابتلاء وامتحان ، ميزانه ماذا عمل الإنسان وماذا قدم ؟
لذلك أوصى القرآن الهادى البشير عليه الصلوات فقال له :
« وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ » (التوبة 105)
عمل المسلم مراقب مرئى ومشهود من الله تعالى ومن رسوله ومن المؤمنين ، به يُنال الثواب ، وتُنال المنزلة والمكانة .
يدلنا القرآن الحكيم على أن المنزلة عند الحق سبحانه وتعالى هى بالعمل ، « وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ » ( المطففين 26 ) … « وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ » ( الأحقاف 19 ) .. غير مقبول من المسلم السوى أن يكون عاجزاً أو عالة .. عليه أن يجد ويسعى ويكسـب بعرقه وكده .. والكون أمامه مفتوح ، ميسر لما يريده كل عامل بضربات سواعده وحبات عرقه .. يقـول لـه القرآن الحكيم : « هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِـهِ وَإِلَيْـهِ النُّشُـورُ » ( الملك 15 ) .. « إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً » ( الكهف 7 ) .. العمل ذاته عبادة موصولة بعبادة .. « فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ » ( الجمعة 10 ) .. بل ولا جناح على المسلم إذا ما ابتغى أثناء الحج فضلاً من ربه .. فقد تحرج بعض الصحابة من ممارسة التجارة أثناء فريضة الحج ، فنزل قوله سبحانه وتعالى : « لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ » ( البقرة 198 )
العمل هو مهجة الإسلام وعطاؤه للمسلمين ، وللعالمين .. كان رسول القرآن إمامًا للعاملين ، وقدوة للعزم الأكبر ، ومثالاً للتقديس العميق لقيمة العمل وشرفه .. لازَمَه وصاحَبَه من طفولته وصباه إلى شبابه وكهولته وشيخوخته ، ولم تثنه عنه مهام النبوة ولا أعباء الدعوة .. رعى الغنم ، وباشر التجارة فى أمانة وبركة ظلت مضرب الأمثال .. يخصف نعله بيده .. ويشارك المسلمين حفر الخندق حتى يتعفر وجهه الكريم بالتراب ويشفق عليه الصحابة راجين إياه أن يدع ذلك لهم ، مثلما راموا إعفاءه من المشاركة فى إعداد الطعام عندما أخذ يجمع الحطب ، فيقول لهم فى كلماته الحانية .. « أعلم أنكم تكفوننى ، ولكن الله تعالى يحب العبد المحترف ويكره العبد البطال » ! ..
يقول عليه السلام لأصحابه الأبرار .. « من الذنوب ذنوب لا يكفرها إلاّ الهم فى طلب المعيشة .. « من أمسـى كالاً من عمل يده أمسى مغفورًا له » .. « ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده ، العمل هو مهجة الإسلام وعطاؤه للحياة .
إن الحياة فى سنة الخالق جل شأنه ، لا تستقيم إلاّ على سنن وأسباب ، ومن هنا كان العمل هو قوام الحياة ومناط الفضل بين الناس .. فالحق تبارك وتعالى قد أخبر فى قرآنه المجيد أنه خلق الموت والحياة ليبلو الناس أيهم أحسن عملاً .. العمل الذى تغياه الإسلام وحرصت على إبرازه السنة المحمدية .. هو العمل الصادق المخلص المتقن .. فكان عليه السلام يقول لصحابته الأبرار : « إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه » .. لقد كان العمل دستور مدرسة النبوة ، لا تجد واحدًا من كبار الصحابة لم يعطر العرق جبينه .. عبد الله ابن مسعود الراعى ، وسعـد بن أبى وقاص صانع النبال .. وخباب ابن الأرت الحداد .. وسلمان الفارسى الحلاق الذى لم تمنعه ولاية المدائن من جدل المكاتل .. وعلى بن أبى طالب الذى كان يسقى بالدلاء على تمرات .. لم يستثن النبى من ذلك أهل بيته ، ولا الزهراء الحبيبة الأثيرة لديه .. يقول لها ولهم .. يا آل محمد اعملوا فإنى لن أغنى عنكم شيئًا .. ويا فاطمة بنت محمد اعملى فإنى لن أغنى عنك شيئًا .. !!
يعلمنا المصطفى عليه الصلوات ويعلمنا نجباء مدرسته أن المولى تبارك وتعالى إذ جعل النهار معاشاً وخلق الدنيا وجعل لنا فيها معايش وسبلاً ، فـإنه قد أمرنا بأن نضرب فى الأرض وننتشر فى ربوعها ونبتغى من فضله .. وأنه سبحانه إنما يريدنا على أن نعطى الحياة كى تعطينا وعلى أن نطلب رزقنا بالحلال .. بكدنا وعرقنا .. نتوسل إلى غايتنا بالكد وبالجهد والعمل .. يظل الإنسان معلقًا بهذا العمل للحياة ، لا يمنعه منه مانع ولو كان قيام الساعة .. يقول رسول القرآن : « إن قامت الساعة وفى يد أحدكم فسيلة ـ أى الشتلة الصغيرة ـ فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليغرسها » .. « ما من مسلم يغرس غرسًا أو يزرع زرعًا فيأكل منه طير أو إنسان إلاّ كان له به صدقة » .. لذلك نهانا المصطفى عليه أفضل الصلوات ـ فيما نهانا ـ عن مذلة السؤال وحذرنا من ذلك فقال فيما روى عنه بإسناد صحيح » من فتح على نفسه بابًا من السؤال فتـح الله عليه سبعين بابـا مـن الفقر » . « لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير له من أن يسأل أحدًا فيعطيه أو يمنعه » .
لم يدع النبى عليه الصلاة والسلام أحدًا يعتقد أو يظن أن الاستعانة بالله توقف واجب العمل أو تبطل سنة الأسباب ، فكان صلوات الله وسلامه عليه يقول : « المؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفى كل خير . احرص على ما ينفعك واستعن بالله ، ولا تعجز » .
فعزة المؤمن وقوته بإيمانه وعمله ، وبتحليه بالهمة والعزيمة ، وباجتهاده المستمر فيما ينفعه وينفع الناس به ، لذلك كان من دعائه عليه السلام : « اللهم إنى أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والبخل » .. العمل والعرق هما سبيل الحياة الشريفة الكريمة ، وملجأ كل صاحب نفس عزيزة .. أما السؤال فإنه مذلة وهوان ، به يشقى صاحبه بالمهانة فى حياته ، ويشقى بالحساب عند ربه بعد مماته .. يقول صاحب العزم الأكبر عليه الصلاة والسلام : « المسألة كلوح فى وجه صاحبها يوم القيامة .. إياك والمسألة .. فإنما هى رضف من النار ملهبة » ..
لقد كان إمام مدرسة النبوة وأصحابه ، يعملون ولا يكلون .. وعلى هذه السنة التى أُشربها هؤلاء قال أبو قلابة لرجل : « لأن أراك تطلب معاشك أحب إلىّ من أن أراك فى زاوية المسجد » .
كما لقى الأوزاعى إبراهيم بن أدهم يومًا وعلى عنقه حزمة فقال له : يا أبا إسحق إلى متى هذا ؟ إخوانك يكفونك ! فقال : دعنى من هذا يا أبا عمرو .. فإنه بلغنى أنه من وقف موقف مذلة فى طلب الحلال ـ وجبت له الجنة .. هؤلاء المسلمون النجباء ، وعوا ما قاله رسول القرآن : « ليس الإيمان بالتمنى ، ولكن ما وقر فى القلب وصدقه العمل . وإن قومًا غرتهم الأمانى حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم ، وقالوا : نحن نحسن الظن بالله . وكذبوا ، لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل ».