فى دوحة الإسلام (84)
نشر بجريدة صوت الأزهر الأربعاء 15/9/2021
دليل العقل إلى قيم التراث
يشترك المتدينون ، عامتهـم وخاصتهم ـ فى أشواق تشدهم إلى الإلمام بمشاهد التراث التى حفظتها مدونات السير وتواريخ الأديان ـ يقبلون عليها فى نهم وشغف وينهلون منها ما يشبع أشواقهـم إلى الصفحات التى سطرها الأقدمون حين تلاقت دعـوة السمـاء بأهـل الأرض ، وينشدون فيها ما يعطيهم عبق معايشة أنفاس الأحداث والصور التى خطها الأسلاف .
يتمثل المطالع للتراث الإسلامى ، فى شوق وإعجاب ، مشهد الصحابى الجليل سلمان الفارسى، وهو وال من قبل الفاروق عمر بن الخطاب على المدائن .. لا يفـارق ـ رغم الولاية ! ـــ ملابسه الخشنة ، ولا يركن لعطائه الذى يغنيه ، وإنما يأبى إلاّ أن يكسب قوته من عمل يده .. يجدل الخوص ليصنع منه أوعية ومكاتل يبيعهـا ويتعيش منهـا .. يقول للناس : « إنى أشترى خوصاً بدرهم ، فأعمله ـ ثم أبيعه بثلاثة دراهم ، فأعيد درهما فيه ، وأنفق درهما على عيالى ، وأتصدق بالثالث .. ولو أن عمر بن الخطاب نهانى عن ذلك ما انتهيت » !
وهذه الصورة الرائعة للصحابى الجليل سعيد ابن عامر الوالى على حمص ، حين تفقده الفاروق عمر فى ولايته ، فما وجده إلاّ فى إهاب بسيط خشن ، لا تصرفه الإمارة عن تواضعه وبساطته وزهده ، ولكن مابال أهل حمص يشكون منه أنه لا يخرج إليهم حتى يتعالى النهار ، ولا يجيب أحداً بليل ، وله فى الشهر يومان لا يخرج فيهما إليهم ولا يرونه إلاّ آخر النهار !! .. يسأله الفاروق مشفقا أن تكون قد خابت فراسته فيه ، إلاّ أن الجواب يسفر عن عظمة لم يتوقعها أحد مـن المتسائلين ! .. إنه لا يخـرج حتى يتعالـى النهار ، لأنه ليس لأهله خادم ، فيعجن لأهله العجين ويدعه حتى يختمر ، ثم يخبز خبزه ، ثم يتوضأ للضحى ويخرج إليهم .. ولا يجيب أحداً بليل لأنه جعل النهار لهم ، والليل لربه يعبده ويتهجد إليه .. ولا يخرج يومين فى الشهر ، لأنه لا ثياب له إلاّ ثوبـه الذى يستره ، فهـو يغسلـه وينتظر حتى يجف ، ثم يخرج إليهم فى آخر النهار !
يجد المطالع فى صفحات التراث الإسلامى ، المشهد الرائع للفاروق عمر ، وهو أمير المؤمنين ـ يجـرى مرهقاً وراء بعير شارد من إبل الصدقة !! .. ومشهد واليه على المدائن ، حذيفة ابن اليمان .. يخرج أهل المدائن أفواجاً تسبقهم أشواقهـم إلى مشارفها انتظاراً لمقدم الوالى الجديد ، فلا يرون إلاّ راكبا آتيا على حمار على ظهره إكاف قديم ، وقد أسدل ساقيه ، بيده كسرة خبز هى كل طعامه .. يستطلعون منه خبر الوالى الذى ينتظرونه ، فيفجأهم أنه هو .. هـذا البسيط العظيم فى بساطته .. يبادرهم فيقول لهـم : « إياكم ومواقف الفتن ! .. فلما سألوه ما هى ؟ ــ قال : أبواب الأمراء .. يدخل أحدكم على الأمير أو الوالى ، فيصدقه بالكذب ويمتدحه بما ليس فيه » !!
طبيعى ، وحاصل ، أن ينبهر القارئ لهذه المواقف ، بما فيها من صور أخاذة ، ومشاهد جاذبة خلابة ، على أن الخطر أن يصرفنا الإعجاب الشديد والانبهار بها ـ عن استخلاص مغزاها والقيم الصادرة عنها .. القيم هى الخالدة الباقية ، أما الصور فمتغيرة .. هذا التغير تابع للزمان والمكان ، ولذلك فإن الانحصار فى « الصورة » قد يفلت القيمة والمغزى والمعنى ، بل وقد يرتد بصاحبه إلى الوراء ويحبسه فى أشكال مهجورة يتخلف بها عن ركب الحياة !
صناعة الوالى للمكاتل ليتكسب منها ، وركوبه الأتان بدلا من الخيول المطهمة ، وغسلـه ثوبه الوحيد وانتظاره حتى يجف ، ومشاركة أهل الدار فى الخبيز ، والجرى وراء بعير شارد من إبل الصدقة ، هى صور رائعة ، ستبقى جليلة مبهرة ، لأنها قد وافقت زمانها من ناحية ، ثم هى مردودة إلى« قيم » رفيعة سامية .. هذه القيم هى الخالدة الباقية . القيمة الخالدة هى التعفف عن المال العام والحرص عليه ، والإحجام عن الإفراط فيه ، والتزام حفظه ورعايته وصيانته والترفق فى التعامل معه .. هذه القيم تلزم زماننا وما يأتى بعد زماننا ، مثلما لزمت زمن أسلافنا .. تلزم الكبير والصغير، وتلزم الوزير إلى الغفير ، والمكلف بخدمة عامة تكليفا مستمرا ، أو المنتدب لها انتدابا مؤقتا ، والنائب فى البرلمان ، وعضو المجالس الشعبية والمحلية ، وأعضاء النقابات والجمعيات والنوادى التى جعل القانون ـ والواقع ـ أموالها فى حكم الأموال العامة .
الالتفات للقيم المستمدة من التأمل فى هذه الأمثلة من التراث ، يوجب الاكتفـاء بما يلزم للعمل العام دون إسراف ولا إفـراط . إذا كانت العربة الصغيرة مؤدية للمطلـوب ، فلا محل للعربات الفارهة ، وإذا كانت الحجرة المتوسطة وأثاثها المعقول كافية لمكتب المسئول ومستلزمات الحركة والأداء فيه ، فإسراف وتفريط فى المال العام ـ شغل المكاتب لمساحات هائلة ، وفرشها بالأثاثات الفاخرة .. الالتفات إلى التعفف عن المـال العـام ، يلـزم المسئول ومن يراقبه ، بألا يحصل إلا على المعقـول الذى يكفيه ويقابل ما يؤديه دون توليد « مسميـات» و« لجـان » و« انتدابات » و« عضويات » و« إضافات » و« بدلات » وغيرها ـ تؤدى فـى النهايـة إلـى الارتفاع بالأجر إلى أرقام فلكية لا تتفق مع وجوب الترفق بالمال العام والقصد والاعتدال فى التعامل معه ، والقناعة والترفـع عن التغول عليه والاغتراف منه !
الانحصار فى « الصورة » دون « القيمة » رغـم امتداد الزمن ، وتغاير الظروف ـ تخلف يؤدى إلـى نتائج معكوسـة !. ويقلب « القيمة » إلى« إخـلال » و« خيبة » و« تفريط ». الحاكم أو الوالى أو المسئول فى الزمن الغابر ، كان يستطيع مع سلاسة الحياة ، وقلة المشاكل والمعضلات ، واتساع الوقت وسهولة تسيير حاجات الناس ـ أن يبلغ بتعففه حد أن يجدل المكاتـل ليتعيش منهـا مستغنيـا عـن الراتب أو الأجـر ، وأن يزهـد فيكتفـى بثوب واحد لا يرى بأسـا مـن أن يغسله بنفسـه ويجلس فى انتظار أن يجف مـا دامت ظـروف العمـل وضغـوط واجباتـه لا تتأثر بهذا الانقطاع ، إلاّ أن تعقيدات الحياة فى زماننا ، وتزايد الأعباء العامة ، وتنامى المهام والمشاكل والمعضلات ، يحتاج من الرجل العام إلى صرف وقته واهتمامه إليها بحيث يغدو تفريطـاً معيباً وضاراً بالعمل الذى يتولاه ، وبمصالح الناس ، أن ينقطع عنه ليكسب قوته من عمل يده ، أو يقوم بالخبيز فى بيته ، أو ينحبس فيه إلى أن يجف ثوبه الذى زهد فلم يعد له سواه .. أيسر وأجدى وأنفع للعمل فى عصرنا أن يكفل للعامل راتبه والمعقول من احتياجاته ، ليصرف كل وقته وجهده لأداء ما عليه رعاية لمصالح الناس ، وإلاّ توقف دولاب الحياة !!
الإسلام يمنع التعسف
فى استعمال الحق
لا يسمح الإسلام بأن يُهدَرَ حقٌّ لحساب حق الآخر . حدود حق المرء تقف عند منفعته ، ولا تمتد إلى الإضرار بسواه .
فكل حقًّ أيًّا كان ، يلازمه واجب ، تجمع هذه الواجبات قاعدة أصولية :
« لا ضرر ولا ضرار » ، وأن درء الضرر مقدم على جلب المنفعة .
روى الإمام البخارى بسنده ، عن الهادى البشير عليه الصلاة والسلام ، أنه قال :
« إنَّ قومًا ركبوا سفينة فاقتسموا فصار لكل منهم موضع ، فنقر رجلٌ منهم موضعه بفأسه ، فقالوا له : ماذا تصنع ؟! قال هذا مكانى أصنع فيه ما أشاء ، فإن أخذوا على يده ـ كما قال الرسول ـ نجا ونجوا ، وإن تركوه هلك وهلكوا ! » .
هذا الحديث الشريف سبق نظريات القوانين فى درء التعسف فى استعمال الحق ، وأعطى صورة بسيطة ، ولكنها عميقة المعنى فى التوفيق الواجب بين الحقـوق ، بحيـث لا يجور صاحب حق على حق سواه ، وإلاَّ تماحت كل الحقوق ، ولم تعد هناك حماية لأى حق .
هذا هو الإسلام .