فوضى القانون في الإعلام

مقال بقلم: الدكتور أشرف نجيب الدريني

ماذا لو لم يكن القانون نصوصًا محكمة، بل مجرد وجهة نظر؟ ماذا لو صار تفسيره خاضعًا لأهواء المتحدثين على الشاشات، لا لمنهجية المختصين في المحاكم؟ هل يمكن للإعلام أن يكون مصدرًا موثوقًا للمعرفة القانونية، أم أنه أصبح ساحة لتزييف الفهم القانوني؟ وكيف يؤثر هذا الانحراف في وعي المجتمع وثقته في العدالة؟ هذه التساؤلات ليست “افتراضية”، بل تعكس واقعًا متناميًا، حيث باتت البرامج الحوارية والمنصات الإعلامية تقدم القانون لا كما هو، بل كما يريد الإعلاميون تصويره، مما يؤدي إلى نشر مفاهيم قانونية مشوهة في وعي المشاهدين. لم يعد النقاش الإعلامي حول القانون وسيلةً لتثقيف الجمهور، بل أصبح أداة لإعادة تشكيل فهمه بطرق غير دقيقة، فيتحول الإعلام من ناقل للمعلومة إلى صانع لرأي عام مغلوط. فكيف حدث هذا التحول؟ وما أثره على العدالة؟ وهل يمكن ضبط العلاقة بين الإعلام والقانون بحيث لا يُترك تفسير النصوص القانونية لمجرد مهارة الإلقاء والإقناع؟!

عندما يصبح الجهل بالقانون هو القاعدة، يتحول الإعلام من وسيلة لتثقيف الجمهور إلى أداة لتزييف الفهم القانوني، فينقل القانون من كونه علمًا له أصوله ومنهجيته إلى رأي شخصي قابل للأخذ والرد. لم تعد البرامج الحوارية والمنصات الإعلامية تقدم القانون كما هو، بل باتت ساحات لطرح رؤى غير دقيقة، يتحدث فيها الإعلاميون وضيوفهم عن النصوص القانونية دون التزام بالدقة أو المسؤولية، مما يؤدي إلى نشر مفاهيم قانونية مشوهة في وعي المشاهدين.

ما يحدث اليوم ليس مجرد نقاش حول القضايا القانونية، بل إعادة تشكيل لمفاهيم القانون بطريقة سطحية ومضللة. الإعلام ليس جهة تشريعية أو قضائية، لكنه في ممارسته اليومية يصدر “أحكامًا” غير رسمية تؤثر في الرأي العام. حين يناقش مذيع قضية جنائية ويبدأ في تحليل القانون دون سند حقيقي، أو يستضيف ضيفًا يفتقر إلى الخبرة القانونية لكنه يتحدث بثقة عن العقوبات والإجراءات، فإن النتيجة تكون كارثية: انتشار معلومات مغلوطة، وتأثير مباشر على تصور الناس للعدالة. يصبح الإعلام صانعًا لفهم جديد للقانون، قد يكون بعيدًا عن الحقيقة، حين يتبنى المذيعون أدوارًا قانونية لمجرد إجادتهم للحديث والإقناع، فيفسرون النصوص بطريقة مجتزأة تخدم السرد الدرامي للحلقة. أما الضيوف فكثيرًا ما يكونون من غير المختصين، لكنهم يُعاملون كسلطة قانونية، فيطلقون تصريحات قاطعة حول القضايا دون إدراك لتعقيدات النصوص القانونية والاجتهادات القضائية.

هذا العبث لا يبقى داخل الاستوديوهات، بل يمتد إلى الشارع، ليؤثر على فهم الجمهور للقانون والعدالة. يصبح الناس مقتنعين بأن القانون يعمل بطريقة معينة، لا لأنهم قرأوا النصوص أو اطلعوا على الاجتهادات الفقهية، بل لأنهم سمعوا تفسيرًا إعلاميًا مضللًا. وحين تصدر المحاكم أحكامًا لا تتفق مع هذا الفهم الإعلامي المشوه، يثور الرأي العام، متهمًا القضاء بالانحياز أو الظلم، رغم أن المشكلة كانت في الأصل داخل المنظومة الإعلامية، التي قدمت صورة غير صحيحة للقانون.

في بعض الحالات، يكون التأثير الإعلامي على القضاء مباشرًا، حيث تمارس وسائل الإعلام ضغطًا شعبيًا لدفع القضاة نحو اتخاذ قرارات تتماشى مع المزاج العام، لا مع صحيح القانون. وعندما يتحول الإعلام من أداة نقل إلى أداة تأثير على مجريات العدالة، فإننا نكون أمام معضلة أخلاقية خطيرة، تستدعي إعادة النظر في دور الإعلام في تناول القانون.

الحل لا يكمن في منع الحديث عن القانون في الإعلام، بل في تنظيمه وفق معايير واضحة. يجب أن يكون أي نقاش قانوني خاضعًا لمراجعة مختصين قبل بثه، بحيث لا يتم تقديم أي تحليل قانوني دون التأكد من دقته. كما يجب أن يكون الحديث القانوني في الإعلام مقصورًا على الخبراء المؤهلين، لا على الشخصيات العامة أو الإعلاميين الذين يتحدثون بصفة قانونية دون امتلاك المعرفة الحقيقية. في بعض الدول، لا يُسمح لأي شخص بمناقشة القضايا القانونية على الهواء دون تصريح أو إشراف قانوني مسبق، تمامًا كما لا يُسمح لأي شخص غير طبيب بتقديم استشارات طبية في الإعلام. فلماذا لا يُطبق هذا المبدأ على القانون أيضًا؟ لماذا لا يكون هناك التزام قانوني يفرض مراجعة أي محتوى قانوني قبل بثه، بحيث يتم التأكد من خلوه من الأخطاء التي قد تؤدي إلى تضليل الجمهور؟

الإعلام ليس مجرد مرآة تعكس الواقع، بل هو قوة قادرة على تشكيل المفاهيم والتأثير في الإدراك العام، خاصة عندما يتعلق الأمر بالقانون. فإذا كانت العدالة تستند إلى نصوص دقيقة وإجراءات واضحة، فإن تشويه هذه النصوص من خلال التفسيرات الإعلامية العشوائية لا يؤدي فقط إلى تضليل الجمهور، بل يُضعف الثقة في القانون نفسه. وحين يفقد القانون هيبته في الوعي الجمعي، يصبح تطبيقه محل جدل، ويجد القضاة أنفسهم أمام تحدٍ مزدوج: الحكم وفقًا للقانون، ومواجهة رأي عام تم تشكيله على أسس مغلوطة.

ولعل أخطر ما في هذه الفوضى الإعلامية أنها تُسهم في خلق “عدالة افتراضية” قائمة على الانطباعات العاطفية لا على القواعد القانونية. فالمتهم يُدان في الأستوديوهات قبل أن يمثل أمام القضاء، والعقوبات تُحدد بناءً على ميول المشاهدين لا وفقًا للنصوص والتفسيرات الفقهية المستقرة. وهكذا، يتحول القانون من منظومة تهدف إلى تحقيق العدالة إلى موضوع للنقاش الإعلامي غير المنضبط، مما يجعل الرأي العام شريكًا غير مؤهل في رسم ملامح العدالة.

لا يمكن القبول بأن يصبح القانون مادة للجدل العشوائي، حيث يُطرح كأنه مجرد رأي شخصي يمكن تأويله وفق الأهواء، دون أي التزام بالمنهجية القانونية. فكما أن الحديث عن القضايا الطبية يتطلب مختصين، وكما أن التحليل الاقتصادي يحتاج إلى خبراء، فإن القانون لا يجوز أن يكون ميدانًا مفتوحًا لمن يجهل قواعده. وإذا كان الإعلام يريد أن يلعب دورًا مسؤولًا، فعليه أن يُخضع محتواه القانوني لمراجعة المختصين قبل بثه، بحيث لا يُترك الأمر للاجتهادات العشوائية التي تُضعف ثقة الناس في النظام القانوني برمته.

ربما يكون الحل الأمثل هو وضع تشريعات تُلزم وسائل الإعلام بعدم بث أي محتوى قانوني إلا بعد مراجعته من قبل متخصصين، تمامًا كما لا يُسمح لأي شخص بممارسة الطب دون ترخيص. فالفارق بين القانون والطب، أو أي علم آخر، هو أن القانون لا يحكم الأفراد فقط، بل ينظم المجتمع بأسره. وإن أي خطأ في تفسيره لا يؤدي فقط إلى تشويش فكري، بل قد يُفضي إلى اضطراب اجتماعي وإلى تضليل المواطنين حول حقوقهم وواجباتهم.

إعادة ضبط العلاقة بين الإعلام والقانون لم تعد خيارًا، بل أصبحت ضرورة. فإما أن يتم التعامل مع القانون بوصفه علمًا يُحترم، له رجاله ومنهجيته، أو أن نستمر في دوامة الفوضى الإعلامية التي تجعل من القانون وجهة نظر، ومن العدالة قضية رأي عام. قد يكون من الضروري إنشاء لجنة متخصصة تُشرف على المحتوى القانوني الذي يُطرح في وسائل الإعلام، بل وحتى في الأعمال الدرامية، لضمان تقديم القانون بصورة صحيحة بعيدًا عن الإثارة والتشويه، لأن استمرار هذه الفوضى الإعلامية لا يضر فقط بمصداقية القانون، بل بمفهوم العدالة ذاته. “القانون علمٌ دقيق، لكنه في ساحة الإعلام يتحول إلى رأي، وحين يصبح الرأي أقوى من القاعدة، تضيع العدالة بين التأويل والانطباع.” والله من وراء القصد.

زر الذهاب إلى الأعلى