فوضى الفتاوي الدينية ودورها في تهديد الأمن القومي

مقال للدكتور أحمد عبد الظاهر
أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة

   مع بداية العام الميلادي 2022م، حدث أمران يعبران بوضوح عما يمكن أن نطلق عليه «فوضى الفتاوى الدينية». الأمر الأول حدث يوم الثلاثاء الموافق الثامن عشر من يناير 2022م، حيث نشرت دار الإفتاء المصرية توضيحاً بشأن صورة مفبركة راجت على مواقع التواصل الاجتماعي، مزعوم نسبتها إلى الدار، وتحمل عبارة (الساعة اقتربت.. وعلى البشر الاستعداد للقاء الله). ونظراً لأن هذه الصورة بما تضمنته من عبارات لم تصدر فعلاً عن دار الإفتاء، لذا فقد اقتضى الأمر أن تؤكد الدار على أن الصورة مفبركة، وأن العبارة سالفة الذكر لم تصدر عنها. وقد نال التكذيب مئات التعليقات خلال دقائق معدودة، حيث اعتبر أحدهم أن «كثرة الأخبار المكذوبة على لسان الدار والتلفيق لدار الإفتاء المصرية في هذه الأيام، إنما تنبه العقل إلى إدراك الملفقين لأهمية الدار لدى كافة المسلمين، وأخذها بزمام الفتوى على مستوى العالم، كما ينبئ بإدراك الملفقين لثقة المستفتين والمتابعين للدار». وكان حساب دار الإفتاء على فيسبوك قد نشر قبل ذلك بساعات، وتحت عنوان «تصحيح مهم» أنه قد انتشر على بعض المواقع الالكترونية خبر بعنوان «دار الإفتاء المصرية تحرم حفل الخطوبة»، حيث تضمن الخبر تصريحات على لسان أحد الدعاة. وأشار التصحيح إلى أن هذا الخبر لم يصدر عن دار الإفتاء، وأن الداعية الذي تم ذكر اسمه لم يعمل كأمين فتوى في دار الإفتاء المصرية.

   أما الأمر الثاني، فيتعلق بدولة الإمارات العربية المتحدة، حيث صدر بيان عن مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي، يتضمن دعوة موجهة إلى أفراد المجتمع ومؤسساته كافة إلى عدم الخوض في مسائل الفتوى الشرعية دون ترخيص أو تصريح، ويهيب بالجمهور عدم نشر أو إعادة نشر أي فتوى شرعية غير معتمدة من المجلس والجهات الرسمية المخولة بالفتوى في الدولة. ووفقاً لعبارات البيان، فإن السبب الكامن وراء صدوره يكمن فيما لاحظه المجلس من تجاوزات ومخالفات في تصدر بعض رواد مواقع التواصل الاجتماعي للفتوى الشرعية بغير ترخيص أو تصريح، والجرأة على إصدار الأحكام الشرعية في المواضيع الدينية والاجتماعية والأسرية وغيرها وخاصة فيما يتعلق بالتكفير واستغلال نصوص الدين في التعدي على الغير، مما يؤدي إلى انتشار الكراهية والطائفية والتكفير والتشدد والتطرف؛ ويتنافى مع سماحة الدين الإسلامي الحنيف.

   والواقع أن فتاوى غريبة وأخرى متطرفة تظهر بين الحين والآخر، وتنتشر بسرعة بين العامة، وتسهم وسائل التواصل الاجتماعي في تناقلها وإثارة النقاش حولها، بحيث تصل إلى جموع الناس. وقد بدت هذه الفتاوى أكثر تطرفا وغرابة بعد موجة ما أطلق عليه «الربيع العربي»، حيث أُفتي مثلاً بقتل المعارضة في مصر لمخالفتها رئيساً منتخباً، أو بجهاد النكاح في سوريا، وحتى بتحريم جلوس الأب وابنته لوحدهما، وهي الفتاوى التي دفعت بعلماء في دول إسلامية كثيرة إلى التحذير من مخاطرها وعدم الأخذ بها كما فعل مفتي تونس بالنسبة لفتوى جهاد النكاح. ووصل الأمر في بعض الأحيان إلى حد الملاحقة القضائية، كما حدث في الفتوى بقتل زعماء جبهة الإنقاذ المعارضة، خلال الفترة التي وصلت فيها جماعة الإخوان المسلمين إلى سدة الحكم في مصر.

   وقد اشتهرت بعض الفتاوى أكثر من أصحابها، مثل فتوى الدعاء على ضحايا «إعصار ساندي» الذي ضرب الساحل الشرقي للولايات المتحدة، والتي أدت إلى تدخل مفتي السعودية الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ للتحذير من الدعاء عليهم، قائلاً إن هذا الدعاء «غير مشروع، ولا تظهر فيه وجاهة». وكذلك فتوى تحريم تهنئة المسيحيين بأعيادهم، والتي تتردد في مصر مع بداية كل عام ميلادي وفي المناسبات الدينية القبطية، والتي استدعت تدخل الجهات المختصة بالفتوى أكثر من مرة للتأكيد على أن مثل هذه الفتاوى تنبئ عن عدم الفهم الصحيح لأحكام الدين وقلة الاطلاع لدى الشباب الذين يقبلون عليها.

   ويبدو أن الحديث عن «فوضى الفتاوى الدينية» هو من القديم المتجدد، وأن الأمة الإسلامية قد ابتليت بهذا الداء منذ عدة عقود. بل إن التأريخ لهذا الموضوع قد يصل إلى قرون عدة مضت. ففي برنامجه التليفزيوني «مع هيكل»، وفي الحلقة الثانية من سلسلة حلقات عن «الأمن القومي»، وتحت عنوان «بيض في سلة واحدة»، يحكي الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل أنه، وفي فترة شبابه، وأثناء عمله في جريدة آخر ساعة في سنوات الأربعينات، ظهرت بعض الفتاوى الدينية الغريبة، والتي نشأت على إثر دخول المشروبات الغازية، وعلى رأسها الكوكاكولا والبيبسي، إلى مصر، حيث بدأت الشركات المنافسة تستعين بالفتاوى الدينية والمشايخ. وهكذا، نشرت الصحف الوطنية الكبرى آنذاك في صدر صفحتها الأولى أن «لجنة الفتوى بالجامع الأزهر تفتي بعدم تحريم البيبسي والكوكاكولا». وفي الإطار ذاته، كتب فضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف، عضو هيئة كبار العلماء ومفتي الديار المصرية سابقاً، مقالاً بعنوان «البيبسي شراب حلال». وإزاء ظهور مثل هذه الفتاوى، ارتأى الأستاذ محمد التابعي، والذي كان يرأس جريدة آخر ساعة وكان مالكاً لها في الوقت ذاته، أن يقترح على الكاتب الصحفي الشاب آنذاك محمد حسنين هيكل أن يعمل على تحقيق صحفي عن «الفتاوى الغريبة التي صدرت من جهات الفتوى في عصور معينة». وقد حدث هذا الاقتراح بحضور الأستاذ مأمون الشناوي، والذي كانت تربطه علاقة قرابة بالشيخ محمد مأمون الشناوي، والذي تولى مشيخة الأزهر بعد ذلك. وهذه العلاقة هي السبب وراء تسمية الأستاذ مأمون الشناوي بهذا الاسم، تيمناً باسم عمه الشيخ محمد مأمون الشناوي. ومن خلال هذه العلاقة، كان الأستاذ مأمون الشناوي يعرف عن طريق عمه بعض الفتاوى الغريبة، فقال إن ثمة فتوى غريبة تتعلق بقضية غير ذات أهمية كبرى، وشغل بها الأزهر فترة طويلة لمدة 30 سنة قبل الحملة الفرنسية وقبل مجيء الشيخ العطار شيخاً للأزهر. إذ انهمك شيوخ الأزهر في الإجابة عن سؤال غريب، حيث توجه أحد الرجال بسؤال إلى أحد المشايخ، قائلاً: ما رأيكم دام فضلكم في امرأة نطقت باسم الجلالة في موضع اللذة. ورداً على هذا السؤال، قال بعض المشايخ إن هذه السيدة قد كفرت، وبالتالي فهي في حالة زنا، ويحل بالتالي أن يتم رجمها، ثم طلقت. وانهالت الفتاوى في هذه الشأن، ولمدة ثلاثين سنة كان الأزهر منشغلاً بهذا الموضوع وشيوخه منهمكين في محاولة الإجابة عن هذا السؤال. وعندما نجد سؤالاً كهذا، ثم تتم الإجابة عنه، فمن الطبيعي أن نجد خللاً ما في هذا الأمر. وعندما ذهب الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل إلى فضيلة الشيخ محمد مصطفى المراغي، شيخ الأزهر آنذاك، والذي يعتبر أحد أعظم من تولوا مشيخة الأزهر عبر تاريخها، وبعد أن سمع منه الموضوع بهدوء، قال له: «لن تجد هذه الفتوى، لأنني أمرت بأن تخرج من مكتبات الأزهر إلى مخازنه». وإزاء حماس الكاتب الصحفي الشاب آنذاك وإصراره على الوصول إلى هذه الفتوى، قال له الشيخ المراغي: «لابد أن نرفع بصمة التخلف من فوق صفحة الشريعة».

   ولا نغالي إذا قلنا إن فوضى الفتاوى الدينية تهدد النسيج المجتمعي وتقوض الوحدة الوطنية وتسهم في نشر التخلف وتعوق التنمية المجتمعية. ومن أجل ذلك، كان من الطبيعي أن يتدخل المشرع الجنائي في بعض الدول العربية بتجريم بعض السلوكيات ذات الصلة. ففي دولة الإمارات العربية المتحدة، على سبيل المثال، وبموجب المرسوم بقانون اتحادي رقم (7) لسنة 2016م، أضاف المشرع مادة جديدة إلى قانون العقوبات، تنص على أن «يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنة وبالغرامة كل من أفتى بفتوى من شأنها الإخلال بالنظام العام أو تعريض حياة إنسان أو سلامته أو أمنه أو حريته للخطر، وتكون العقوبة السجن المؤقت إذا ترتب على الفتوى حدوث ضرر أياً كان». وورد النص على الحكم ذاته في المادة 219 من قانون الجرائم والعقوبات الجديد في دولة الإمارات العربية المتحدة، الصادر بالمرسوم بقانون اتحادي رقم (31) لسنة 2021م. ولكن، لا يوجد نظير لهذا النص في الدول العربية الأخرى، ومنها القانون المصري.

   وبهذا الصدد، تجدر الإشارة أيضاً إلى أن دولة الإمارات العربية المتحدة عمدت إلى ضبط الفتوى الشرعية وتنظيمها، وتوفير المحتوى الافتائي الآمن والمعتدل. بيان ذلك أن قرار مجلس الوزراء رقم (31) لسنة 2017م بشأن إنشاء مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي ينيط بالمجلس دون غيره مكنة إصدار الفتاوى الشرعية العامة، ولا يحق لأي جهة أو فرد إبداء رأيه في هذه المسائل، ومن اختصاصاته الأصيلة الترخيص والتصريح بممارسة الإفتاء الشرعي في الدولة. ونص القرار على أن «تلتزم الجهات والمؤسسات الإعلامية المختلفة والمواقع الالكترونية على الشبكة المعلوماتية (الإنترنت) ومستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي في الدولة بالحصول على تصريح من المجلس قبل نشر الفتاوى الشرعية أو استضافة أشخاص للإفتاء الشرعي أو تنظيم برامج للفتوى الشرعية». كما نص القرار على أن «لا يجوز لأي شخص طبيعي أو اعتباري غير حاصل على ترخيص أو تصريح رسمي من المجلس القيام بإصدار أو نشر الفتاوى الشرعية في الدولة» (المادة الرابعة من قرار مجلس الوزراء رقم 31 لسنة 2017م بشأن إنشاء مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي).

   وفي الإطار ذاته، وفي المملكة العربية السعودية، صدر الأمر الملكي رقم (13876/ب) بتاريخ 2/9/1431هـ بشأن قصر الفتوى على هيئة كبار العلماء، كما صدر تعميم المجلس الأعلى للقضاء رقم (110 / ت) بتاريخ 18/9/1431هـ بشأن قصر الفتوى على أعضاء هيئة كبار العلماء.

   وفي جمهورية مصر العربية، ثمة مشروع قانون تنظيم الفتوى وقصرها على الهيئات المعنية بالفتوى في الأزهر الشريف أو دار الإفتاء المصرية أو من يرخص له بذلك من أي منهما. وتنص المادة الرابعة من هذا المشروع على أن «يعاقب على مخالفة أحكام هذا القانون بالحبس مدة لا تزيد على ستة أشهر وبغرامة لا تقل عن خمسة آلاف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين. وفى حالة العود تكون العقوبة هي الحبس والغرامة التي لا تزيد عن عشرة آلاف جنيه».

زر الذهاب إلى الأعلى