فن المحاماة

فن المحاماة

نشر بجريدة الأهرام الاثنين 17/8/2020

بقلم: أ. رجائي عطية نقيب المحامين

القانون علم، ولكن المحاماة فن.. فن تطبيق وعرض القانون، وفن جدله بالحجج والبراهين، وفن عرضه منسوجًا بالعلوم والمعارف، وفن إنزاله على الوقائع.. فنون الإلقاء.

والإلقاء فن، أيًا كانت مناسبته أو طريقته أو وجهته، وفيه كتب الفنان الكبير عبد الوارث عسر؛ كتابًا ضافيًا بعنوان «فن الإلقاء»، جمع فيه ما كان قد كتبه الجاحظ من ألف عام في «البيان والتبيين»، وأضاف إليه ما استحدثته العلوم، وما دان له من خبرة عريضة إبان تدريسه في المعهد العالي للفنون المسرحية، وفي معهد السينما، ومن خلال ما كان يلقيه من دروس على كبار فنانينا الذين تتلمذوا في فن الإلقاء على يديه.

والإلقاء قاسم حاضر في كل الفنون التي تصافح الأذن، فن ترتيل وتلاوة وتجويد القرآن الذي بزغ فيه بمصر عباقرة كالشيخ رفعت والشيخ مصطفى إسماعيل والشيخ عبد الباسط عبد الصمد وغيرهم من نجوم القراء، ملأوا الدنيا وهزوا أوتار القلوب بتوصيل معاني القرآن منغومة بروائح الأصوات التي بدا وكأنها آتية من السماء، وفن الغناء الذي يجسد الكلمات إلى لحن منطوق بحناجر ذهبية تعي المعنى وتحس النغم، مثلما رأينا ولا نزال في محمد عبد الوهاب وأم كلثوم وغيرهما من نجوم الطرب والغناء.. كل هؤلاء يستقبلهم السامعون بالإنصات والترحاب.

وهذا هو حال الداعية أو الواعظ الديني، يتلقاه المحبون المقبلون الراغبون في الانصات إليه، لا يقاطعونه، ولا يناهضونه، بل كلهم آذان وقلوب مصغية إليه مقبلة على ما يقوله ويبديه.

وتجسيد الحوار في المسرح وفى السينما وفى التمثيليات المسموعة والمرئية فن، تتجلى فيه موهبة وقدرة المؤدى على تجسيد المعنى بالإلقاء الذي يناسبه وينزله منزلة المقصود في لغة الحوار وغايته.

والإلقاء فن حاضر في الخطب، وفى المحاضرات، وبداهة أيضًا في مرافعات المحاماة.

بيد أن المحاماة تنفرد بصعوبات لا تلاقى المقرئ والمطرب والفنان والممثل والمسرحي والخطيب والمحاضر.

دور المحامي في المرافعات الشفوية، وهي الأغلب، يعتمد على الإلقاء مجدولاً بالحجة والبرهان، ولكن إلقاءه لا يصادف ما يلقاه إلقاء المقرئ أو الداعية أو الواعظ أو المطرب أو الممثل أو المسرحي أو الخطيب أو المحاضر.

كل هؤلاء يلقون إلى متعطشين لسماعهم، راغبين في بث الهدوء للإنصات إليهم، لا تضيق صدورهم بهم بل يسألونهم المزيد، ولا يناهضونهم أو يقاطعونهم إلاَّ مع القفلات تعبيرًا عن الإعجاب.

فأين هذا مما يصادفه إلقاء المحامي؟!

فقد يضيق القاضي بسماعه، وقد يظن أنه لن يضيف إليه جديدًا، وأن ما يلقيه اقتطاع من وقته، أو أنه ليس بحاجة لأن يسمع منه ما قد يظن أن هدفه المجادلة في الحقيقة.. وعلى عكس ما يلاقيه من سلف بيانهم من ترحيب، قد يخاطب المحامي محكمة قد تكون فكرتها قد سبقت إلى نقيض ما يسعى المحامي للاقتناع به.

ثم إن المحامي مناوأ بالنيابة العامة للإقناع من ناحية، وبطرف الخصومة الآخر الذي يناهضه من ناحية أخرى.

وسط هذه المقاومات، يلفى المحامي نفسه مطلوبًا منه أن يحافظ على هدوئه، وعلى ثبات وصفاء تفكيره، وعلى امتلاكه لنواصي اللغة والحجة والبرهان، ومفروضًا عليه أن يحسن «الإلقاء» المجدول بكل ذلك، في سلاسة غير منفرة، وأدب طيع، وعبارات مسبوكة كحبات العقد.. فهو مطالب وسط هذه الظروف البالغة العسر أن يصل بإلقائه المجدول بحجته وببيانه إلى وجدان وعقيدة القاضي، وأن يشكل لدى قاضيه أو قضاته رؤية جديدة تزيل ما عساه يكون من رؤية سبقت بحكم طبائع الأشياء لكل من يقرأ أوراقًا صماء.

الكلمة المنطوقة هي جسر المحامي إلى القاضي أو القضاة في محراب العدالة، وكونها كلمة يستوجب أن يكون لها معنى، وأن توظف في عبارة تحمل وتعطى مضمونا، وأن تأتي في سياق يجعل لها غاية.. أما كونها منطوقة فإنه يستوجب أن يكون لها معمار، وأن تكون لها موسيقيتها الذاتية وموسيقاها في سياق عبارتها المتجاوبة مع المعنى الذي تنشد بيانه وجلاءه.. قد قيض لي أن أنتبه إلى منابع هذا كله قبل أن تتاح لي فرصة الاطلاع والدراسة.. كان أبى رحمه الله محاميا من الجيل الذهبي، وعيت من الطفولة اهتمامه بالقرآن الكريم، يرتله ويختمه في كل رمضان خمس أو ست مرات، ويرتب مقرئاً يتلو شيئا منه كل صباح في المكتب وفى السكن حتى صـار فرداً من الأسرة.. على أن الذي أدهشني، أنني عثرت فـي غرفة المتروكات بالمكتب على “عود” قديم علاه التراب، فأبيت إلاّ أن أبحث عن تفسير يحل ما رأيته آنذاك تناقضا بين قراءة القرآن وترتيله، وبين أهازيج العود وموسيقاه.. لم يشف غليلي إلا كلمات الأب الأستاذ أن للقرآن الكريم موسيقى ومعماراً ، وأن فنون القراءة والترتيل والتجويد قائمة على الإمساك بقواعد تجد بغيتها في الموسيقى، وأن عالمها عالم واسع، وأن الأغاني للأصفهاني محيط زاخر في البحور والأوزان والطبقات الصوتية، وبفنون الشعر والنثر وأن هـذه وتلك لازمة مـن لوازم فنون الالقاء في المحاماة، وأن المحامي ليس حسبه أن يلم بالقانون ويبحر في عوالم الثقافة والمعرفة ليمتلئ رأسه ويتفتح عقله ويربو حصاده، وإنما عليه أن يمسك زمام وسائل الإقناع وأن يدرك أن فرصة الكـلام والحجـة في بلوغ الغاية تتفاوت صعودًا وهبوطـاً ، أو إيجابا وسلبا ـ على قدر ما يستطيع المحامي أن يجدل المعاني في عبارة محبوكة، وأن يلقى بها بفن يحفظ له جسرا حيًّا وواجبا بينه وبين منصة القضاء.

زر الذهاب إلى الأعلى