فن التفسير القانوني (بين التنظير والتطبيق ) (4)
الدكتور محمد عبد الكريم أحمد الحسيني
أستاذ القانون المساعد بكلية الشريعة القانون IUM والمحامي.
مَردُّ سلطة التفسير القانوني إنما هي للمشرع أصالة على أن تكون في صورة تشريع وحينئذٍ فإن تفسيره ملزم ولهذا تفصيل سوف نأتي عليه، ثم مردُّها الثاني يكون قضائيا؛ حيثُ يضطلع القضاءُ بالتفسير -على تفصيل في ذلك بين الإلزام والتقدير- إذ هناك تفسير المحكمة الدستورية وهو تفسير لازم ونافذ في مواجهة الكافة، وهناك تفسير المحاكم غير الدستورية مثل محكمة الموضوع فإنه يكون نافذا إن وافق صحيح القانون وطابق مرادَ الشارع ولم يشبه غموضٌ أو تعسفٌ أو تجوير يؤدِّي به إلى النقض، ثم هناك التفسير الفقهي وهو تفسير تنويري غير ملزم على أهميته وجلالته لأنه يعبِّدُ الطريقَ للقاضي ويكشِّفه بالنسبة للمشرِّع.
ولنتناول في مقالنا هذا “التفسير القضائي للتشريعات وأوراقها” من حيث لزومه ونفاذه وهو ما تمثله المحكمة الدستورية العليا، ثم التفسير المشروط وهو تفسير محاكم الموضوع مع بيان موقف محكمة النقض منه.
الضرب الأول من التفسير: تفسير المحكمة الدستورية العليا
يبين القانون رقم ٤٨ لسنة ١٩٧٩م بإصدار “قانون المحكمة الدستورية العليا” وفقاً لآخر تعديل صادر في ١٥ أغسطس عام ٢٠٢١م. اختصاصات المحكمة في تفسير النصوص، بما أورده المشرع في الباب الثاني “الاختصاصات والإجراءات – الفصل الأول” (مادة ٢٥) وفي هذا يقول: ” تختص المحكمة الدستورية العليا دون غيرها – لا حظ نص دون غيرها – بما يأتي:
أولا: الرقابة القضائية على دستورية القوانين واللوائح.
ثانيا: الفصل في تنازع الاختصاص بتعيين الجهة المختصة من بين جهات القضاء أو الهيئات ذات الاختصاص القضائي، وذلك إذا رفعت الدعوى عن موضوع واحد أمام جهتين منها، ولم تتخل أحدهما عن نظرها أو تخلت كلتاهما عنها.
ثالثا: الفصل في النزاع الذى يقوم بشأن تنفيذ حكمين نهائيين متناقضين صادر أحدهما من أية جهة من جهات القضاء أو هيئة ذات اختصاص قضائي والآخر من جهة أخرى منها.
ثم ذكر المشرع ما هو محل مقالنا ألا وهو “التفسير التشريعي النافذ” فقال في (مادة ٢٦): “تتولى المحكمةُ الدستوريةُ العليا تفسيرَ نصوصِ القوانين الصادرة من السلطة التشريعية والقرارات بقوانين الصادرة من رئيس الجمهورية وفقا لأحكام الدستور، وذلك إذا أثارت خلافا في التطبيق وكان لها من الأهمية ما يقتضى توحيد تفسيرها”.
ثم إن سلطات المحكمة لا تقف عند هذا الحد بل إنها تمارس صلاحيتها منفردة في القضاء بعدم دستورية أي نص تشريعي ” في قانون أو لائحة ” وهذا ما نصت عليه (مادة ٢٧) بقولها :”يجوز للمحكمة فى جميع الحالات أن تقضى بعدم دستورية أي نص في قانون أو لائحة يعرض لها بمناسبة ممارسة اختصاصاتها ويتصل بالنزاع المطروح عليها وذلك بعد اتباع الإجراءات المقررة لتحضير الدعاوى الدستورية”.
وبل إن صلاحيات المحكمة الدستورية تتجاوز نصوص النظام التشريعي الوطني وقراراته ذات الصفة التشريعية إلى رقابة عامة على ما له صفة تشريعية دولية في مقابل الدولة، فتنص المادة (٢٧مكررًا) على أن ” تتولى المحكمة الدستورية العليا الرقابة على دستورية قرارات المنظمات والهيئات الدولية وأحكام المحاكم الأجنبية المطلوب تنفيذها في مواجهة الدولة“.
ولعل النصوص التشريعية السابقة واضحة بذاتها في تبيان الاختصاص التفسيري للمحكمة الدستورية ولزومه في مواجهة الكافة.
الضرب الثاني من التفسير: تفسير قضاء الموضوع (محكمة الموضوع).
تستقل محكمة الموضوع في التصدي للدعاوى تكييفا وفي إسقاط النصوص المناسبة عليها بعد استدعاء النموذج القانوني للجريمة وإحداث المطابقة ولوزمها، ثم الحكم في ضوء ذلك.
ولقضاء النقض حديث مطول عن ذلك منه قولها:” المقرر أن لمحكمة الموضوع السلطة التامة في تحصيل فهم الواقع في الدعوى وإعطائها وصفها الحق وتكييفها القانوني الصحيح ، وتفسير العقود والإقرارات وسائر المحررات والشروط المختلف عليها واستظهار نية طرفيها بما تراه أوفى بمقصودهما ما دامت قد أقامت قضاءها على أسباب سائغة” .
[الطعن رقم ٧١٩٨ لسنة ٦٤ قضائية الصادر بجلسة ٢٠٠٧/٠١/١١ ]
وقد رتبت محكمة النقض على ذلك صحت الحكم بناء على ممارسة محكمة الموضوع الصحيحة لصلاحياتها فقالت: “لما كان ذلك ، وكان الحكم المطعون فيه قد خلص إلى أن الشركة موضوع النزاع قامت بين طرفيها بتاريخ ٩ / ٣ / ١٩٨٥ باسم شركة ” …………… ” ولم تباشر أعمالها في الفترة من تكوينها إلى طلب البطلان – ولم تبدأ مدتها لعدم قيدها في السجل التجاري ، ولم تباشر نشاطاً ولم تكتسب حقوقاً أو تلتزم بتعهدات إذ إن الطاعنين لم يقوما بالتجهيزات اللازمة لاستغلال المحل كما أن نصيبهما في رأس المال لم يسدد وبالتالي فإن حل الشركة وتصفية أموالها لا يستلزم تعيين مصفًّ لها إذ أن كل أموال الشركة وتصفية أموالها إنما تنحصر في المحل المطالب باسترداده – ويكون طلب استرداد المحل له سند من الواقع والقانون .
وإذ كان ما استخلصه الحكم من شأنه أن يؤدى إلى النتيجة التي انتهى إليها ، فإن ما يثيره الطاعنان لا يعدو أن يكون جدلاً في تقدير محكمة الموضوع للأدلة ابتغاء الوصول إلى نتيجة أخرى غير التي أخذ بها الحكم بعد أن اطمأن إليها وأورد دليلها – وهو ما لا تجوز إثارته أمام محكمة النقض ، ويكون النعي بهذين السببين على غير أساس”
وقد سلكت هذا المسلك أيضا حكمها في [ الطعن رقم ٥٢ لسنة ٦٠ قضائية -الصادر بجلسة ١٩٩٤/٠٢/٢٧ مكتب فنى ( سنة ٤٥ – قاعدة ٩٢ – صفحة ٤٤٥ ] فقالت:” لمحكمة الموضوع السلطة التامة في تحصيل فهم الواقع في الدعوى وإعطائها وصفها الحق وتكييفها القانوني الصحيح، وتفسير العقود والاقرارات وسائر المحررات والشروط المختلف عليها واستظهار نية طرفيها بما تراه أوفى بمقصودهما ما دامت قد قامت قضاءها على أسباب سائغة وطالما لم تخرج في تفسيرها عن المعنى الظاهر لعبارتها“.
ثم إنها بنت حكمها أيضا على ذلك فقالت :” لما كان ذلك وكان البين من الحكم الابتدائي – المؤيد بالحكم المطعون فيه أنه خلص وفى نطاق ما لمحكمة الموضوع من سلطة تقديرية – إلى أن المديونية الثابتة بالمحرر المؤرخ ١٩٧٨ / ١٠ / ٢٢ ناشئة عن عقد المقاولة المؤرخ ١٩٧٤ / ٧ / ٣١ المبرم بين الطرفين والذى تضمن البند ٢٤ منه تنظيم وسيلة التحكيم في جميع المنازعات والخلافات التي تثور بينهما عند تنفيذ هذا العقد أو تفسيره أو التي تنشأ بسببه أو في حالة وقفه أو إنهائه مطرحا دفاع الطاعنة بأن المطالبة محل الدعوى سندها إقرار بالمديونية مستقل بذاته عن العقد.
ورتبت على ذلك قضاءها بقبول الدفع المبدى من المطعون عليها بعدم اختصاصها بنظر الدعوى واختصاص هيئة التحكيم بجنيف بالفصل فيها طبقا لشروط التحكيم المتفق علية بالعقد سالف الإشارة وكان هذا الاستخلاص سائغا وله سنده من أوراق الدعوى ويكفى لحمل قضاء الحكم المطعون فيه والرد على دفاع الطاعن الذى تمسك به فإن النعي على الحكم يكون على غير أساس .”
وفيما سبق يستبين حدود تفسير قضاء الموضوع ووفائه بشروط هذا التفسير ومن ثم كان موافقا لصحيح القانون وكان الطعن على الحكم على غير أساس بلا سند قانوني… نستكمل بإذن الله تعالى في المقال الخامس .