فن التفسير القانوني بين التنظير والتطبيق (1)
الدكتور محمد عبد الكريم أحمد الحسيني
أستاذ القانون المساعد بكلية الشريعة القانون IUM والمحامي.
للتفسير القانوني مكانته العالية في التنظيم القضائي بخاصة وفي كافة التنظيمات القانونية بعامة، إذ إنه ليس وضعا عابرا أو مجرد عملية انتقائية لدلالات النص التشريعي تقرُّ هذا وترفضُ ذاك.. بل هو صناعة متكاملة (تنظيرية، علمية، فنية) تقوم على أُصول علمية ومبادئ تقويمية وقواعد مستقرة، لا على خبرة ذاتية فحسب.. تسمح بأن يقتحمها كلُّ أحدٍ، أو أن يتصدَّى لها أيُّ قانوني عابر من غير ذوي الـمُكْـنات أو أصحاب الدراية بأصول التفسير وقواعده ..!!
ويحسن بنا قبل مباشرة الحديث عن تنظيرات “فن التفسير القانوني” وتطبيقاته أن نبتدر مقالنا بما أورته محكمة النقض باعتبارها المرجعية القضائية الرئيسة –مع باقي المحاكم العليا حيث المحكمة الدستورية العليا والمحكمة الإدارية العليا- في أحد أقضيتها بقولها :”إذ كانت عبارة النص – وعلى ما جرى به قضاء محكمة النقض – تدل على حكم في واقعة اقتضته ووجدت واقعة أخرى مساوية لها في علة الحكم أو أولى منها ، بحيث يمكن فهم هذه المساواة أو الأولوية بمجرد فهم اللغة من غير حاجة إلى اجتهاد أو رأى، فإنه يفهم من ذلك أن النص يتناول الواقعتين، وأن حكمه يثبت لهما لتوافقهما في العلة، سواء كانت مساويًا أو أولى ، ويسمى “مفهوم الموافقة” أو “المفهوم” من باب أولى” .
[الطعن رقم ٥٠٩٦ لسنة ٧٧ قضائية الصادر بجلسة ٢٠١٨/٠٦/١٠ ]ففي هذا الحكم تتناول محكمة النقض مسألة من مسائل التفسير وبالأحرى “قاعدة أصولية لغوية” من قواعد التفسير ألا وهي “مفهوم الموافقة” أو “دلالة الأَوْلى”، وتسمى أيضا بـــ”قياس الأَوْلى”، وهي تأتي في صميم “فن التفسير القانوني” للنصوص التشريعية ، وهي تؤس قانونيا لترسية هذه “القاعدة الأصولية اللغوية” واعتمادها مبدأً قانونيا مستقرا في تفسير التشريعات القانونية، ومن ثم تسكينه وإقراره في عمليات ومراحل “فن التفسير القانوني” ألا وهو مبدأ:” ثبوت الحكم لواقعة أخرى من باب أولى بناءً على تساويهما في العلّة أو كون الواقعة غير المنصوص عليها أولى من الواقعة المنصوص عليها..”، وهو ما يُجلِّي عناية القضاء بفنون التفسير وينبه الكافَّة من القانونيين على فنية العمليات التفسيرية وخضوعها لقواعد أصولية لغوية وأخرى قانونية.. بما يوجب تزود كل متصدر للنصوص القانونية -فهما وتفسيرا- بها ولزوم مراعاتها ، وأنه لا يصح بحال تجاوزها أو خرقها.
بعد هذا التقديم نقرر أن التفسير القانوني وإن كان فنا قانونيا تطبيقيا يسمح للكافة من المخاطبين بالقانون بالتصدي للنص القانوني -فهما ووعيا- إلا أنه فن محشوم ونسق منظوم من العمليات الفنية الخاصة .. يُبنى بعضها على بعض ويمهد أولها لثانيها، ويُسْلس سابقها للاحقها وصولا إلى استبيان المعنى القانوني واستجلاء المدلول التنظيمي لاستنباط الأحكام من منطوق النصوص ثم من مفهومها وفق مراد المشرع ومقاصده.
ومن ثم يعدُّ “فن التفسير القانوني” فنا متخصصا عميقا -بل وصناعة متكاملة- يقومُ على ركائز محددة تعبِّر عن ماهيته وتكشف عن جوهره، بما يمكن أن نجليها بإيجاز في التالي:
الركيزة الأولى: التأصيلية القانونية للتفسير
ونقصد بالتأصيلية القانونية للتفسير، مجموعة المعارف العلمية المتعلقة بالتفسير -تأصيلا وتنظيرا وتقعيدا- وهذا قائم في كل الفنون العملية ذات الشأن، إذ جميعها يبنى على أصول وتقعيدات علمية تمثل نظريتها وتمثل علمها، وهذا يقتضي بالضرورة قيام “فن التفسير القانوني” على عنصرين أساسين:
العنصر الأول: النظرية العامة للتفسير القانوني
وهي بالضرورة تمثل الجانب التأصيلي التنظيري لهذا الفن العلمي المهيب “فن التفسير القانوني”، إذ إنها تُعنى بدراسة المقومات والأصول العامة ، كما وتقتضي -هذه التنظيرية القانونية للتفسير- أيضا تكوين رؤية كلية واصطناع مشهد عام يبين عن أسس التفسير القانوني الأولى وعلاقاته ومتعلقاته العامة مع ربط ذلك بنتائجه وغايته التي توخاها المشرع -” مُصْدِر النص”- من وراء تشريعه، ولا يخفى أن النظرية أيضا إنما هي بنيان عقلي مركب جامع يربط ما سبق ذكره من المبادئ بالنتائج والغايات لينهض بدوره في التصدي للإجابة عن التساؤلات النظرية -البيانية والاستشكالية- حول التقنينيات (التشريعات القانونية، أو بالقانون المكتوب الصادر عن سلطة مختصة بشروط معينة) .
العنصر الثاني: علم التفسير القانوني
وهو مجموعة المعارف المنظمة التي تأسست بناء على “النظرية العامة للتفسير” – سابقة الذكر- إذ من مهمات النظريات العلمية بعامة والنظريات القانونية بخاصة أن تؤسس للممارسة العملية التطبيقية من خلال علم قانوني مختص هو هنا “علم التفسير القانوني” أو “علم تفسير النصوص القانونية”.
وهو علم معتبر يقوم على الآتي:
أولا: مبادئ علمية للتفسير القانوني
سواء أكانت مبادئ مباشرة أو مبادئ غير مباشرة –شريطة اتصالها بموضوع التفسير ومتعلقاته- وهذه المبادئ هي ناتج المعالجة النظرية سابقة الإشارة وتعد بمثابة المنطلقات العامة للتفسير ويمكن اعتبارها المرجعية العامة التي يرتد إليها ويعول عليها كلُّ مفسر يتصدى لتفسير النصوص التشريعية.
ثانيا: قواعد عامة تفسيرية
وهذه القواعد تمثل الأدوات العلمية التي يقوم عليها فن التفسير، وهي التي تضمن للمفسر أن يسير في درب منهجي صحيح محوطا بقواعد معيارية تدله على مسالك تناول النص القانوني (التقنين –التشريع) تناولا منهجيا، وآليات المضي في تحصيل مدلولاته واستخراج مكنوناته.
ثالثا: القواعد الجزئية للتفسير القانوني
وهي مجموعة القواعد المستخلصة من سابقتها والمبنية عليها، وكونها جزئية، أي: إنها تجمع بين جانب التنظير العلمي مع جانبه الوظيفي التطبيقي، بما يؤهل المفسر المتصدي للنص معرفةَ كيفيات البدء وآلياته السير في درب التفسير سيرا قويما مزودا بالأصول النظرية وبأدوات التفسير التطبيقية جنبا إلى جنب.
العنصر الثالث: فن التفسير العملي لنصوص التشريعات القانونية وأوراقها
بعد استكمال المفسر القانوني لذخيرته التنظيرية حيث مقومات التفسير القانوني وأصوله، وبعد استتباعها بزاده العلمي من المبادئ والقواعد العامة والقواعد الجزئية يكون حينئذٍ مؤهلا لولوج مرحلة جديدة يمثل فيها “فن التفسير القانوني” بداية المرحلة القانونية العملية إثر مفترضاته السابقة عليه حيث:
أ-انتهاء عمليات التنظير والتأصيل القانوني والتي تمثل “الأساس التأصيلي للتفسير”.
ب- وبعد انتهاء إجراءات وضع النصوص القانونية، حيث صياغتها وبناؤها وإخراجها الفني، انتهاء بمرحلة الإصدار القانوني الرسمي.
وهنا يأتي عمل المفسر سواء أكان قاضيا أم أستاذ قانون أم محاميا أم غير ذلك من المشمولات القانونية التي تعبر عن جماعة القانونيين المعنين بالتفسير.
وبما سبق ذكره يتبين لنا جليا:
1- الأساس الأول العريض في فن التفسير القانوني وأنه “فن عميق يقوم على نظرية علمية وعلى علم قانوني راسخ مستقر”.
2- أن المتصدي للتفسير ينبغي له أن يأخذ عدته العلمية وأهبته التدريبية قبل الولوج إلى أخطر مراحل التطبيق القانوني، وإنفاذ القوانين ألا وهي مرحلة التصدي للتقنينات بالفهم والتفسير واستنباط الأحكام من نصوصها.
ونكمل في المقال التالي بإذن الله مقتضيات فن التفسير القانوني ومتعلقاته ومتعلقاته.