فـــن الإلقــــاء
بقلم: الدكتور/ إِبْرَاهِيمْ جَادْ اَللَّهْ
أتعرف ما معنى الكلمة مفتاح الجنة في كلمة ودخول النار على كلمة، وقضاء الله هو الكلمة؛ الكلمة نور وبعض الكلمات قبور، الكلمة فرقان بين نبي وبغي، الكلمة نور ودليل تتبعه الأمة، عيسى عليه الصلاة والسلام ما كان سوى كلمة، هذا جزء من حوار سَيِّدُنَا اَلْحُسَيْنْ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُ حِينَ طَلَبَ مِنْهُ اَلْوَلِيدُ اَلْبَيْعَةَ لِيَزِيدَ وَقَالَ لَهُ مَا هِيَ إِلَّا كَلِمَةً.
أيها السادة المحامون إن سلاحكم هو الكلمة ومن أراد أن يجيد صنعة فلابد أن يتعلم فنونها وإلا ذهب يتخبط في غيابات الجهل فلا يهتدي إلى شيء، وإن كانت رسالة المحاماه هي الدفاع عن الحق وإزهاق الباطل فلن يتيسر الوصول لذلك إلا بإمتلاك ناصية البيان، ومن كان دون ذلك فهو كساعٍ للهيجاء بغير سلاح..
فقد يضيع الحق من أهله لَا لِشَيْءٍ إلا لكون من أنيط به الدفاع عنه ورده لأهله وقصر في بيانه وإحاطته بمفردات ودقائق البيان الواجب لإظهار هذا الحق؛ وأهمل في عرض حجته وبراهينه لَا لِشَيْءٍ إلا لكونه لم يتسلح بالبيان والبلاغة والفصاحة التي هى شعرة تفرق بين الحق والباطل.
فها هو سيد البٌلغاء الذي أعطى جوامع الكلم ينبهنا لخطورة هذا السلاح سلاح البيان والبلاغة ودوره الهام في بيان الحق وخاصة ممن وكل إليه بيانه فيقول – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – “إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ، ولَعَلَّ بَعْضَكُمْ أنْ يَكونَ ألْحَنَ بحُجَّتِهِ مِن بَعْضٍ، فأقْضِي علَى نَحْوِ ما سمعت “.
فهذا الحديث يضع الدستور السامي لخطورة الفصاحة والبيان في إظهار الحق وكذلك في قلب الحقائق وإلباس الباطل ثوب الحق بالكلمة حتي لو كان الذي يقضي هو سيد الخلق صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
لذا لما علم سيدنا موسي عليه السلام خطورة الكلمة ودورها في الهداية وفي إقامة الحجة استعان بأخيه هارون حين أمره الله بالذهاب لفرعون لكونه أقدر منه على الجدال بالحجة والبرهان والفصاحه قال تعالى:
(وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) سورة القصص الآية (34).
ويوم امْتَنَّ الله على نَبِيَّهُ سُلَيْمَانْ عَلَيْهِ اَلسَّلَامُ اِمْتَنَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ آتَاهُ مِنْ اَلْحِكْمَةِ وَفَصْلِ اَلْخِطَابِ فَأَمْتَنَ عَلَيْهِ بِمَا أَعْطَاهُ مِنْ بَلَاغَةٍ وَإِيجَازٍ وَفَصَاحَةٍ فِي بَيَانِ اَلْحَقِّ قَالَ تَعَالَى: (وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ)- سورة ص الآية (20).
ولا ريب أن من يملك ناصية البيان فهو يملك أقوى أدوات التأثير والتغير فقد كان للكلمة ولايزال أثرها الكبير ودورها الفعال في كل عمليات التطور الإنساني على مر العصور وتعاقب الأجيال وتنوع الأمور بل إن الكلمة إذا ما ركزت بعناية واستثمرت بفاعلية فليس على وجه الأرض أقوى تاثيراً منها فهى القوة العجيبة المسؤلة عن كل حركات البناء والهدم في التاريخ .
ولو تأملت مليًاً فستجد أن الكتب المنزلة كلمة ورسالة الأنبياء كلمة وخطب القادة كلمة وبيان الشعراء كلمة والحرب كلمة بل إن شهادة التوحيد كلمة، ولخطورة الكلمة وأهميتها فقد لعبت دورها في جميع وقائع العرب قبل الإسلام وكان للشعراء دوراً في المعارك لا يقل عن دور الفرسان الذي يمارسونه بالسيف والسنان .
ويوم سمع الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَر يَنهَى اِبْن رواحه عن قَوْل الشَّعْر وَهُم فِي عُمْرة القضَاء قال لَه دَعْه يَا عُمَر “فوالَّذي نفسي بيدِه لكلامُه أشدُّ عليهم من وقْعِ النَّبلِ”.
وختامًا من أَرَاد أن يُتْقِن فنّ الإلْقاء وَيملِك أَسالِيب البيَان فعليْه بِأمْرَيْنِ:
أَوَّلاً : دِرَاسَة وَفَهْمِ أُصُولِ وَقَوَاعِدِ فُنُونِ اَلْإِلْقَاءِ نَظَرِيًّا.
ثَانِيًا: اَلتَّدْرِيب اَلْجَادِّ وَالْمُسْتَمِرِّ وَالْمُنَظَّمِ لِاحْتِرَافِ أَسَالِيبِ اَلْإِلْقَاءِ وَإِتْقَانِ مَهَارَاتِهِ عَمَلِيًّا.
إذاً فن الإلقاء علم جليل وفن جميل ينير الطريق للراغبين ويوضح السبيل للسالكين ولكنه لايضمن لمن أراد تعلمه أن يتقن مهاراته مالم يتدرب عليها عملياً ويطبقها بالقدرالكافي .
ورحم الله القائل إذ يقول “وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخْذِهِ وتَرْكِهِ … إِلاَّ رِيَاضَةُ امْرِئٍ بِفَكِّهِ”