فصل معاوني النيابة العامة بغير الطريق التأديبي
بقلم: أ/ محمد شعبان
طالعتنا الصحفُ في الآونة الأخيرة بصدور العديد من القرارات الجمهورية بفصل معاونين للنيابة العامة بغير الطريق التأديبي.
وإذ نتناول هذه القرارات الصادرة بفصل معاوني النيابة العامة بغير الطريق التأديبي بالدراسة والتحليل، فإننا نحدد نطاق هذه الدراسة بالبحث في مدى دستورية نص المادة (67) من قانون السلطة القضائية فيما نص عليه من أن ” رجال القضاء والنيابة العامة – عدا معاوني النيابة – غير قابلين للعزل ولا يُنقل قضاة محكمة النقض إلى محاكم الاستئناف أو النيابة العامة إلا برضائهم”. وكذا دستورية نص الفقرة الأخيرة من المادة (129) من ذات القانون والمستبدلة بموجب القانون رقم 35 لسنة 1984 فيما نصت عليه من أنه ” ولا تمس أحكام هذا الفصل بالحق في فصل معاون النيابة أو نقله إلى وظيفة غير قضائية بغير الطريق التأديبي وذلك بعد موافقة مجلس القضاء الأعلى“.
وبداية قبل التصدي بالدراسة لهذا الموضوع، فنقدم لهذه الدراسة بما نصت عليه المادة (14) من الدستور القائم من أن ” الوظائف العامة حق للمواطنين على أساس الكفاءة، ودون محاباة أو وساطة، وتكليف للقائمين بها لخدمة الشعب، وتكفل الدولة حقوقهم وحمايتهم، وقيامهم بأداء واجباتهم في رعاية مصالح الشعب، ولا يجوز فصلهم بغير الطريق التأديبي، إلا في الأحوال التي يحددها القانون“.
وكذا ما نصت عليه المادة (186) منه من أن “القضاة مستقلون غير قابلين للعزل، ولا سلطان عليهم في عملهم لغير القانون، وهم متساوون في الحقوق والواجبات، ويحدد القانون شروط وإجراءات تعيينهم، وإعارتهم، وتقاعدهم، وينظم مسائلتهم تأديبياً ……… ويبين القانون الحقوق والواجبات والضمانات المقررة لهم” . وكذا ما نصت عليه المادة (189) منه من أن ” النيابة العامة جزء لا يتجزأ من القضاء، تتولى التحقيق، وتحريك ، ومباشرة الدعوى الجنائية عدا ما يستثنيه القانون، ويحدد القانون اختصاصاتها الأخرى… “.
ومن جماع هذه النصوص، يتضح أن المشرع الدستوري إذ نص على طبيعة الوظائف العامة وما يحيط بها من ضمانات تكفل التزام القائمين بها لخدمة الشعب ورعاية مصالحه، فإنه لم يُجز – كقاعدة عامة- فصلهم بغير الطريق التأديبي إلا في الأحوال التي يحددها القانون. وقد بيَّن القانون رقم 10 لسنة 1972 في شأن الفصل بغير الطريق التأديبي تلك الأحوال التي يجوز اللجوء فيها إلى هذا النوع من أنواع المباعدة بين الموظف العام ووظيفته.
إلا أنه من الملاحظ كذلك أن هذه الأحكام قد قصرت المادة الأولى من هذا القانون تطبيقها على العاملين في الجهاز الإداري للدولة أو الهيئات والمؤسسات العامة ووحداتها الاقتصادية.
أما فيما يتعلق بأعضاء السلطة القضائية، فإن البين من النصوص المتقدم ذكرها أن الدستور قد اختصهم بقواعد وضوابط خاصة تغاير تلك القواعد والضوابط التي تسري على من هم دونهم من بقية موظفي الدولة، وما ذلك إلا انطلاقاً من جلالة وحساسية وظيفة القضاء وبالنظر إلى كونه سلطة من السلطات الدستورية المستقلة، وليس مرفقاً من مرافق الدولة، وفي إطار هذا التنظيم الدستوري للسلطة القضائية، أحاط المشرع الدستوري القضاة – بمن فيهم أعضاء النيابة العامة بوصفها جزءاً لا يتجزأ من القضاء – بضمانات تكفل عدم قابلية عزلهم من وظائفهم بغير الطريق التأديبي، وأحال القانون في تنظيم مسائلتهم تأديبياً إلى القانون.
وقد تناول قانون السلطة القضائية تنظيم مساءلة القضاة تأديبياً في نطاق الفصل التاسع من الباب الثاني من قانون السلطة القضائية الصادر بقرار رئيس جمهورية مصر العربية رقم 47 لسنة 1972 وتعديلاته وذلك في المواد من (93) إلى (115)، وكما نظم مساءلة أعضاء النيابة العامة تأديبياً في نطاق الفصل الثاني من الباب الثالث من القانون المذكور وذلك في المواد من (125) إلى (130).
والبين من مطالعة نص المادة (67) من قانون السلطة القضائية أنه إذ أكد على أن رجال القضاء والنيابة العامة غير قابلين للعزل، فإنه قد استثنى معاوني النيابة العامة من هذه الطائفة بغير مسوغ دستوري!!. وبناء على ذلك جرى التأكيد في الفقرة الأخيرة من نص المادة (129) من قانون السلطة القضائية المشار إليه على أن أحكام الفصل الثاني من الباب الثالث من القانون – وهو الفصل المنظم للمساءلة التأديبية – لا تمس بالحق في فصل معاون النيابة أو نقله إلى وظيفة غير قضائية بغير الطريق التأديبي وذلك بعد موافقة مجلس القضاء الأعلى.
وفكرة فصل أعضاء النيابة بغير الطريق التأديبي استحدثها نظام 23 يوليو 1952 بموجب القانون رقم 188 لسنة 1952 الصادر بتاريخ 14 سبتمبر سنة 1952 والمنشور بالوقائع المصرية بالعدد (132) مكرر ( غير اعتيادي) حيث أجازت الفقرة الأخيرة من المادة (84) من القانون والتي جرى تعديلها بموجب القانون رقم 221 لسنة 1955 على “عدم مساس أحكام الفصل الخاص بتأديب أعضاء النيابة بما للحكومة من الحق في فصل أي عضو من أعضاء النيابة العامة دون وساطة مجلس التأديب ولكن بعد أخذ رأي المجلس الاستشاري الأعلى للنيابة بالنسبة لأعضاء النيابة حتى وظيفة وكيل النائب العام وبعد أخذ رأي مجلس القضاء الأعلى بالنسبة إلى رجال النيابة ابتداء من وظيفة وكيل النائب العام من الفئة الممتازة حتى وظيفة المحامي العام“.
وقد تواترت النصوص المنظمة للفصل بغير الطريق التأديبي لأعضاء النيابة، في القوانين المنظمة للسلطة القضائية التي صدرت بعد هذا القانون، إلى أن صدر القانون رقم 47 لسنة 1972 والذي نصت الفقرة الأخيرة من المادة (129) منه على أن ” أحكام هذا الفصل لا تمس الحق في فصل أي عضو من أعضاء النيابة العامة أو نقله إلى وظيفة أخرى غير قضائية بغير الطريق التأديبي بعد موافقة المجلس الأعلى للهيئات القضائية“. وقد ظل هذا الحكم قائماً إلى أن صدر القانون رقم 35 لسنة 1984 وجرى النص فيه على قصر الحق في اللجوء إلى الفصل بغير الطريق غير التأديبي على معاوني النيابة العامة وهو الحكم الساري حتى هذا تاريخ كتابة هذه السطور.
ومسلك المشرع المصري الأخير بخصوص تقرير حكم قابلية فصل أو عزل معاوني النيابة العامة بغير الطريق التأديبي، وإن كان مستحسناً في مجمله لكون أتى بضمانة لأعضاء النيابة بعد أن كان من الجائز فصلهم بغير الطريق التأديبي. فإنه مثير للاستغراب بخصوص إجازة اللجوء إلى طريق الفصل بغير الطريق التأديبي للمباعدة بين معاون النيابة العامة ( وهو عضو من أعضاء السلطة القضائية) وبين وظيفته القضائية. وما يزيد من هذا الاستغراب لجوء المشرع لتقرير هذا الحكم مع وجود نص المادة (22) من القانون المقررة منذ صدور القانون والتي نصت على ” جواز تكليف معاون النيابة العامة عند الضرورة بتحقيق قضية بأكملها ” !!.
والسؤال الذي يطرح نفسه على بساط البحث هنا يتعلق بمعيار التمييز بين معاون النيابة العامة وغيره من أعضاء السلطة القضائية، سيما مع تماثل المركز القانوني لمعاون النيابة مع المركز القانوني لبقية أعضاء النيابة العامة من حيث وحدة إجراءات التعيين وأداته ومن حيث الضمانات الأخرى المقررة لأعضاء السلطة القضائية وعلى الأخص تمتع معاون النيابة بالحصانة القضائية كغيره من رجال القضاء والنيابة العامة، هذا بخلاف ما يؤكده الواقع العملي من قيام معاوني النيابة بشتى وظائف النيابة العامة القضائية من تحقيق وتصرف ومباشرة للدعوى الجنائية؟ !!
فإذا كان معاون النيابة العامة هو في حقيقة الأمر عضو من أعضائها، وكانت النيابة العامة وفقاً للدستور جزءاً لا يتجزأ من القضاء، وكان القضاة وفقاً للدستور كذلك غير قابلين للعزل خارج إطار التنظيم القانوني للمسائلة التأديبية، فكيف يتسنى بعد ذلك قبول فكرة إقرار فصل معاون النيابة بغير الطريق التأديبي؟!
وإذا كان اللجوء للفصل بغير الطريق التأديبي تمليها اعتبارات الصالح العام التي قد تظهر أن معاون النيابة فاقد للصلاحية للعمل القضائي، فلماذا لا يُعرض أمره على مجلس الصلاحية المختص بفحص حالة عضو السلطة القضائية ومدى توافر الأهلية له لولاية القضاء، بما يضمن كفالة الضمانات التي يقررها القانون في هذا الشأن، حتى يتحقق الإنصاف لمعاون النيابة كما يتحقق لمن هم سابقين عليه في الدرجة بكفالة حقه في الدفاع عن نفسه؟
كل هذه التساؤلات تؤكد أن النصوص التي تجيز عزل معاوني النيابة بغير الطريق التأديبي هي نصوص فاقدة للمشروعية الدستورية، لكونها مبنية على التمييز غير المبرر بين أعضاء السلطة القضائية أصحاب المراكز القانونية المتساوية في الحقوق والواجبات وفقاً للدستور، بخلاف مساسها بالإستقلال المكفول للسلطة القضائية والذي لا يجيز اللجوء إلى نظام الفصل بغير الطريق التأديبي المقرر بحسب الأصل لموظفي الجهاز الإداري للدولة أو الهيئات والمؤسسات العامة ووحداتها الاقتصادية وفقاً لنص المادة (1) من القانون قم 10 لسنة 1972 في شأن الفصل بغير الطريق التأديبي .
ولا يقدح في ذلك تقييد القانون لحق الفصل بغير الطريق التأديبي بوجوب موافقة مجلس القضاء الأعلى. فإذا كان حقيقة مجلس القضاء الأعلى أنه هو المجلس المهيمن على شئون القضاء وأعضاء النيابة العامة، وأنه يعمل على كفالة استقلالهم، إلا أن القانون لم يجعل له اختصاصاً بالنظر في حالة أعضاء السلطة القضائية التي تستوجب عزلهم، إذ أن توافر مثل هذه الحالة مما يثير المسئولية التأديبية بحقهم، وهذه المسئولية لا سبيل إلى إقرارها إلا عن طريق القضاء، ولذلك فقد رسم القانون طريقاً خاصاً لإقرار هذه المسئولية، حيث جعل الاختصاص بالفصل فى دعوى الصلاحية موكول إلى مجلسين أحدهما ابتدائي والآخر استئنافي وكليهما مكون من رجال القضاء هم بطبيعة مراكزهم وأقدمياتهم على القمة من مدارج التنظيم القضائى.
وهذه المجالس – وفقاً لما استقر عليه قضاء المحكمة الدستورية العليا- أكثر خبرة ودراية بأوضاع السلطة القضائية وشئون القائمين عليها، وأعمق فهماً للمقاييس الصارمة التى يتعين أن يؤدى العمل القضائى فى إطارها، وأنفذ إلى الضوابط الكامنة فى طبيعة الوظيفة القضائية وما يرتبط بها من القيم الرفيعة التى ترد عنها كل تحرض أو شبهة تنال منها، ومن ثم يكون مجلس الصلاحية – وعلى ضوء تلك الحقائق – مهيأ أكثر من غيره للفصل فى نزاع قد يؤول إلى إبعاد القاضى عن تولى مهام الوظيفة القضائية، وهو نزاع يتصل مباشرة بالشروط التى يتطلبها القانون فيمن يتولى القضاء، والمعتبرة من الشئون المتصلة بجوهر الوظيفة القضائية لارتباطها بالقائمين عليها، وكيفية النهوض بمتطلباتها ( يراجع في ذلك : حكم المحكمة الدستورية العليا، في الدعوى رقم 2 لسنة 9 ق دستورية جلسة أول فبراير سنة 1992) .
وعلاوة على ماسبق، فإن القانون إذ جعل الاختصاص لمجلس القضاء الأعلى بالموافقة على فصل معاون النيابة بغير الطريق التأديبي، فإنه لم يضع لمعاون النيابة الضمانات التي تحميه من أي عسف قد يتعرض له، إذ لم يقرر النص حق معاون النيابة في الاستماع إلى أقواله وإبداء دفاعه سواء بالأصالة أو بالوكالة، وهو ما يهدر حق معاون النيابة العامة في الدفاع عن نفسه ويهدر حقه في المساواة وتكافؤ الفرص مع أقرانه من أعضاء السلطة القضائية، المتساوون في سائر الحقوق والواجبات وفي طرق التعيين والندب والنقل وغير ذلك من الحقوق المنظمة وفقاً للقانون، ولا يميزهم عنه سوى الأقدمية الوظيفية فقط.
وخلاصة ما سبق فإن ما نصت عليه كلاً من المادة (67) والفقرة الأخيرة من المادة (129) من قانون السلطة القضائية المستبدلة بالقانون رقم 35 لسنة 1984 من جواز اللجوء إلى طريق الفصل بغير الطريق التأديبي لمعاوني النيابة مشوب بعدم الدستورية لمخالفته لنصوص المواد (9) و (53) و (94) و(96) و(98) و (184) و (186) و (189) من الدستور.