فريضة التفكير والعلم والفن الجميل
فريضة التفكير والعلم والفن الجميل
نشر بجريدة الشروق الخميس 20/5/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
يندر أن يخلو كتاب من إسلاميات الأستاذ العقاد من حديث عن العلم وعن أهميته للإسلام وفي الإسلام، ومن النادر أيضًا على كثرة وتعدد هذه المعالجات، أن يكرر الأستاذ العقاد أسلوبه في تناوله للمسألة وزواياها.
ولا شك أن اهتمام الأستاذ العقاد المتكرر والدءوب بتناول هذه المسألة، إنما يعبر عن إيمانه العميق بأهميتها، فضلاً عن تقديره الخاص لأهمية العلم في بناء الإنسان وفي رقى المجتمعات والأمم، أما تنوع أسلوبه في المعالجة في كل مرة كتب فيها، فإنه تعبير عن قوة عارضته وتمكن وثراء فكره ولغته.
وبديهي أن يتحدث عن العلم في كتاب موضوعه التفكير في فرائض الإسلام، وهو ينوه في البداية بأن العلم مأمور به في القرآن الكريم، وأن العلم الذي أمر به هو جملة المعارف التي يدركها الإنسان بالنظر في ملكوت السماوات والأرض وما خلق من شيء.. وأن الخلق هنا يشمل كل موجود في هذا الكون ذي حياة أو غير ذي حياة.
وكعادته يقرن حديثه بالحجة، وحجته هنا آيات القرآن الحكيم، فيتخير منها:
« أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ » ( الأعراف 185).
« أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ
نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ » ( الغاشية 17 ـ 20).
« إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ » ( البقرة 164 ).
ومن هذه الآيات يبين أن العلم في الإسلام يتناول كل موجود، فكل موجود يجب أن يُعْلم، وهو علمٌ أعم من العلم المطلوب لأداء الفرائض والشعائر، وأنه من ثم مطلوب وواجب لأنه غاية في ذاته، يفهم من عبارات تناولها، أنه عبادة.. ومفهوم العبادة واضح من تنويه الآيات في كل موضع إلى وجوب النظر في هذه الآيات، وتدبر ظواهرها والتأمل في أطوارها وما جُعلت له وسُخرت فيه.
وقد تعددت أحاديث النبي عليه السلام في فضل هذه العبادة، ومن أحاديثه:
« فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد »
« إن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء »
« من خرج في طلب العلم، فهو في سبيل الله حتى يرجع »
وذكر له ـ عليه السلام ـ رجلان: عابد وعالم، فقال « فضل العالم على العابد كفضلى على أدناكم »
هذا غير الأحاديث النبوية العديدة التي وردت في فضل المعرفة والحكمة وفريضة العلم على كل مسلم ومسلمة..
وهذا الموقف الإسلامي من العلم ـ أو من العلوم عامة ـ يبين بجلاء من موقف علمائه المجتهدين في كل حقبة حتى في فترات التأخر والجمود.. وتتلاقى آراء ووصايا هؤلاء على أن كل معرفة صحيحة هي معرفة قرآنية إسلامية يحض عليها الكتاب المجيد.
موقف الإسلام ـ قرآنًا وسنة ـ من العلم واضح ظاهر لا يحتاج إلى بيان، إلاَّ أنه من المهم أن نتفطن كيف أن الدين روح ينبثّ في الأخلاق والتقاليد إلى جوار النصوص والأحكام.. ومن هذه الروح يظهر عمل وأثر الدين.
وروح الإسلام في العصور الأخيرة ظاهرة ـ فيما يقول ـ في موقف المسلمين من العلوم
الحديثة، مثلما هي ظاهرة في موقف الأئمة المجتهدين.
ومن الحق أن نعلم أن القرآن يأمرنا بالبحث والنظر والتعلم والإحاطة بكل معلوم يصدر عن المعقول، إلاَّ أنه ليس من الحق أن نزعم أو نتصور أن علينا أن نقابل بين كل ما تستنبطه العقول وبين القرآن، أو أنه مطابق للكتاب المبين مندرج في ألفاظه ومعانيه، فالقرآن الكريم كتاب دعوة وليس كتاب علم، كما أن الدين ثابت وحصاد العلوم متغير متطور، ولا تصح المقابلة بين الثابت والمتغير !
كان قد خطر لأصحاب التأويل في العصر الحديث أن الكواكب السيارة السبعة في المنظومة الشمسية هي المقصودة في القرآن بالسماوات السبع، بينما خطأ هذا التأويل ظاهر، لأن الفلكيين الذين ذكروا السيارات السبعة أدخلوا الكرة الأرضية بينها، ولم يجعلوا الأرض مقابلة للسماء..
كما أن الفلكيين المتأخرين قد كشفوا عن سيارات أخرى لم تكن معروفة عند الأقدمين..
وقد توقف بعض المفسرين عند قوله تعالى: « وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ » ( الأنعام 38 )، فقال البعض كابن كثير ـ إن الكتاب هنا هو اللوح المحفوظ، بمعنى أن علم الجميع عند الله، ولا ينسى تدبير رزق أحد ولكن بعض المفسرين ومنهم الرازي ـ يفسرون الكتاب هنا بالقرآن الكريم.
وأيًّا كان الوجه في هذه المسألة، فإن القسطاس المستقيم فيها بين واضح، وكل علم يُؤْمر به المسلم هو علم صراح، يهتدى إليه كل مأمور بالنظر، وقادر عليه.
الفن الجميل
لا يقاس نصيب الفنون الجميلة من أى دين، بكثرة أو قلة الأنصاب والتماثيل في المعابد والبيع، فقد اتسعت المعابد الوثنية لأنصاب وتماثيل ليست بالنموذج الصالح للأديان في الهداية إلى معاني الجمال أو الحض على الفنون الجميلة.
إنما يقاس نصيب الفن الجميل من الدين بنظرة الدين إلى الحياة، فلا مجال للفن الجميل في أي دين إذا كان يزدرى الحياة وينظر إلى مطالب النوع كأنها رجس مرذول وانحراف بالإنسان عن عالم الروح والكمال.
والإسلام بين الأديان قد انفرد بقبول نعمة الحياة وتزكيتها وحسبانها من نعمة الله التي لا تحرم على المسلم ويُؤمر بشكرها.
وغير الإسلام من الأديان بين اثنتين: إما السكوت عن التحريم والحل معًا، أو التصريح القاطع بالتحريم والتأثيم.
أما الإسلام فإنه أحل الزينة وزَجَر من يحرمها، ويصف الله تعالى بالجمال ويحسب الجمال من آيات قدرته وسوابغ نعمته على عباده.
ففي خلق الأرض زينة وفي خلق السماء زينة: « إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ».
« وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ ».
وفي خلائق الله جمال يطلبه الإنسان كما يطلب البأس والمنفعة: « وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ».
وكل من حرّم هذه الزينة على الناس فهو آثم لا يقضى في تحريمه بأمر الدين: « قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ».
والزينة والعبادة تتفقان ولا تفترقان، بل تجب الزينة في محراب العبادة كأنها قربان إلى الله حيث لا قربان في الإسلام: « يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ ».
وتردد في السنة النبوية، كل معاني الآيات القرآنية في تزكية النعمة وإباحة الزينة والنهى عن تحريم الأخذ بنصيب من الحياة، والتعبد لله بتعظيم محاسن خلقه ومحبة آيات الجمال في أرضه وسمائه.
وقال فيما ورد من تفسير قوله تعالى: « يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء »: إنه هو الوجه الحسن والصوت الحسن والشعر الحسن.
الدين الذي ينظر إلى الحياة والجمال هذه النظرة القويمة السوية، لا يسوغ لأحدٍ الظن بأنه يحرم الفن الجميل، أو ينهى عن شيء يجمل الحياة.
وينقطع أي خلاف في هذه القضية بنص القرآن الكريم، الذي بَيَّنَ من نعم الله تعالى على نبيه سليمان عليه السلام ما يستوجب الشكر عليها من القوم جميعًا:
« يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ».
والقاعدة العامة في الإسلام أنه لا تحريم حيث لا ضرر ولا خشية من الضرر، وأنه لا تحريم مع المنفعة المحققة.