غسل الأموال

مقال بقلم الدكتور أشرف نجيب الدريني

 

هل يمكن للمال المتولد من جريمة أن يتحول إلى مال مشروع؟ وهل يستطيع الاقتصاد أن يبتلع هذا المال، ويهضمه، ثم يُخرجه في صورة استثمارات تبدو قانونية في ظاهرها؟ هذه الأسئلة تقودنا إلى منطقة رمادية يتقاطع فيها القانون مع الاقتصاد، وتُطرح فيها إشكاليات تتجاوز مجرد الفعل المجرَّم لتلامس جوهر العدالة ذاتها. هكذا تنشأ جريمة غسل الأموال، لا بوصفها مجرد حيلة مالية، بل باعتبارها أحد أخطر التحولات التي تمر بها الجريمة وهي تتسلل من عوالم الظل إلى النسيج الرسمي للاقتصاد.

 

تبدأ هذه الجريمة دومًا بفعل سابق، غالبًا ما يكون جزءًا من نشاط إجرامي منظم، كالاتجار في المخدرات، أو الفساد، أو الاتجار بالبشر، أو حتى تمويل الإرهاب. تُنتج هذه الأفعال أرباحًا طائلة لا يمكن إنفاقها أو إدخالها إلى النظام المالي بشكل مباشر، لأنها ببساطة نابعة من أنشطة محرّمة ومجرّمة. من هنا تنشأ الحاجة إلى غسلها، أي تمويه حقيقتها وتحويلها إلى أموال “نظيفة” تبدو وكأنها جاءت من مصادر مشروعة. المجرم لا يكتفي بالفرار من العقوبة، بل يسعى إلى الاستمتاع بثمرة جرمه دون أن يُسأل عن مصدرها. في هذه اللحظة، تتحول الجريمة إلى واقع اقتصادي ملموس، وتنتقل من الهامش إلى المركز، ومن الخفاء إلى الواجهة، لتتغلغل في البنية الاقتصادية وتشوّهها.

 

تتم عملية الغسل عبر ثلاث مراحل متداخلة. تبدأ بالإيداع، حيث يُدخل المال القذر إلى المؤسسات المالية أو يُحوَّل إلى أدوات قابلة للتداول. يلي ذلك “التمويه”، وهو القلب النابض لعملية الغسل، حيث يتم تفكيك المال وفصله عن مصدره من خلال شبكة معقدة من العمليات، تتنوع بين تحويلات مصرفية واستثمارات وهمية وشركات واجهة. ثم تأتي مرحلة “الدمج”، التي تعيد المال إلى الاقتصاد الرسمي في صورة أنشطة تبدو مشروعة، كشراء العقارات أو تمويل شركات ناشئة أو الدخول في مزادات علنية. هكذا يكتمل التحول: من مال “مجرم” إلى استثمار يبدو مشروعًا، من جريمة إلى واجهة قانونية، ومن خطر كامن إلى تهديد ظاهر.

 

ما يُثير القلق أن غسل الأموال لا يقتصر أثره على الجريمة الأصلية، بل يتجاوزها في أحيان كثيرة. فبينما تظل الجريمة الأصلية محصورة في نطاقها، فإن المال “المغسول” يتحول إلى أداة لإعادة إنتاج الجريمة، بل ولتمويل جرائم جديدة. إنه فعل توليدي، يخلق بيئة غير عادلة، ويفسد التنافس المشروع، ويمنح المجرم قدرة على شراء النفوذ والتأثير في دوائر صنع القرار، حتى داخل الدول ذات السيادة القانونية.

 

ولفهم دلالة المصطلح، لا بد من العودة إلى التاريخ. في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، واجهت عصابات المافيا في الولايات المتحدة، بقيادة “آل كابوني”، مشكلة في تبرير أرباحها غير المشروعة. فكان الحل هو شراء مغاسل ملابس وإدخال الأرباح ضمن حساباتها. هذه المغاسل لم تكن تُدر أرباحًا فعلية، لكنها قدمت غطاءً يُقنع السلطات بأن الأموال جاءت من نشاط مشروع. ومن هنا جاء التعبير “غسل الأموال”، وانتقل تدريجيًا إلى الأدبيات القانونية.

 

غسل الأموال لا يعرف الحدود. هو جريمة عابرة بطبيعتها، يتحرك فيها المال بين الدول بسرعة البرق، وتتنقل فيها الأدوار بين جناة في قارة، ومصارف في قارة أخرى، وجرائم أصلية وقعت في مكان ثالث. لذا، لا يمكن مواجهته بالأدوات التقليدية أو المنظور المحلي. ولعل القانون المصري رقم 80 لسنة 2002 أدرك هذه الحقيقة، حين أقر بأن غسل الأموال ليس فعلًا مستقلًا فحسب، بل هو امتداد لجريمة أصلية، وجزء من منظومة تتطلب تضافرًا دوليًا في مكافحتها. لكن هذا الفهم لم يَسلم من التحديات، خاصة حين يتعلق الأمر بتتبع المال حين يذوب في استثمارات كبرى أو يدخل في دورة اقتصادية معقّدة تديرها كيانات عابرة للجنسيات.

 

ورغم التقاطع الظاهري بين غسل الأموال والكسب غير المشروع، إلا أن الفارق بينهما جوهري. فغسل الأموال يفترض دائمًا وجود جريمة أصلية يُراد التغطية على عائدها، أما الكسب غير المشروع فيكفي لتحققه أن يحقق الموظف العام ثراءً لا يتناسب مع دخله المشروع دون قدرة على التبرير. وفي حين يهدد غسل الأموال النظام المالي ويعوق كشف الجريمة الأصلية، فإن الكسب غير المشروع يهز ثقة الناس في الوظيفة العامة ويقوّض مبدأ تكافؤ الفرص. فالعلاقة بين الجريمتين ليست تطابقًا، بل تقاطعًا دقيقًا يقتضي فهمًا قانونيًا لسلوك الجاني.

 

ولا تتوقف خطورة غسل الأموال عند البعد القانوني، بل تمتد لتنال من جوهر الاقتصاد والمجتمع والدولة. فاقتصاديًا، تُحدث الأموال المغسولة تشوهات في السوق، وتخلق فقاعات وهمية ومضاربات غير حقيقية، وتُضعف الحصيلة الضريبية، وتغذي اقتصاد الظل. أما مصرفيًا، فهي تُفقد النظام المالي نزاهته وتجعله عرضة للعقوبات الدولية، وقد يتعرض بلد بأكمله لعزلة اقتصادية لمجرد الاشتباه في كونه ملاذًا آمنا لتبييض الأموال. على الصعيد الاجتماعي، تعيد هذه الجريمة توزيع الثروة على نحو غير مشروع، فتتآكل العدالة الاجتماعية، ويترسخ الانطباع لدى الأجيال الجديدة بأن طريق الثراء يمر عبر الجريمة، لا الجهد والكفاءة. والأسوأ أن الأموال المغسولة تُستخدم لبناء شبكات نفوذ خارجة عن القانون، تُعيد تشكيل الحياة العامة على أسس زائفة، وتنتج ما يُشبه الدولة داخل الدولة، حيث يُدار القرار العام وفق المصالح، لا المصلحة العامة.

 

في العلاقات الدولية، تترك هذه الجريمة أثرًا بالغًا في صورة الدولة ومكانتها. يكفي أن تُدرج دولة ما ضمن “القائمة الرمادية” أو تُصنّف كوجهة آمنة لغسل الأموال حتى تنهار ثقة المستثمرين، وتتراجع مؤشرات التنمية، ويُنظر إليها كمصدر تهديد لا كشريك اقتصادي. وحين تفقد الدولة قدرتها على حماية نظامها المالي من الاختراق، فإنها لا تفقد فقط مصداقيتها، بل جزءًا من سيادتها.

 

غسل الأموال، إذًا، ليس مجرد جريمة مالية، بل اختبار حقيقي لقدرة الدولة على صيانة العدالة، وحماية نسيجها الاقتصادي والاجتماعي، والحفاظ على شفافيتها أمام المجتمع الدولي. مكافحتها ليست مسؤولية جهة واحدة، بل معركة متعددة الجبهات، قانونية واقتصادية وأخلاقية في آنٍ واحد. فحين يُغسل المال، لا يُمحى أثر الجريمة فقط، بل يُمحى معه أثر العدالة، ويُعاد تشكيل الواقع على أسس غير مشروعة. والله من وراء القصد.

زر الذهاب إلى الأعلى