عوامل ازدهار لغة القوانين الوضعية ولغة جهازها القضائي واستقرارها [فصول في “اللُّغة القانونية”(الفصل 4)]
بقلم/ الدكتور محمد عبد الكريم أحمد الحسيني
المحامي، وأستاذ القانون المساعد بكلية الشريعة والقانون – الجامعة الإسلامية بمينسوتا
كان عصرا ذهبيًا للغة القانونية، تظافر عليها الأصوليون والمبتعثون والقضاةُ الشرعيون والوضعيون وفقهاءُ القانون والمحامون … فأنتجوا هذا النسيجَ اللغويَّ القانونيَّ العظيم ، فلم نرعَه حق رعايته ..فما أبقينا على أساليبهم وطرائقهم في التعبير ، ولا ابتدعنا نظاما لغويا جديدا ، فضاعت اللغة القانونية وسقط اعتبارها وحل اللحن وعمَّ التقليد ولله الأمر …!!
بحلول سنة 1937م ثم دخلت اللغة القانونية طورا جديدا من السيادة بإلغاء المحاكم المختلطة ، ثم بصدور قانون العقوبات الحديث 1937م ، الذي يسري على المصريين والأجانب محل قانون العقوبات الأهلي الصادر في 1904م ،وفي سنة 1950م صدر قانون الإجراءات الجنائية الحالي [ انظر د. محمود نجيب حسني : شرح قانون العقوبات ص 33، 34، القسم العام ط دار النهضة العربية 1962م]
ثم إنه تلا المرحلة الأولى للغة القانونية عهدٌ جديدٌ نسبيا كثرت فيه البعثات العلمية للخارج وتنوعت فيه التخصصات ، وبدأت فيه أيضا المؤسسات العلمية والإدارية تتوسع على أشدها ، بما يشبه نهضة شاملة علمية وثقافية وتنظيمية ، وقد عمَّت هذه النهضة اللغةَ العربيةَ في عمومها وخاصة مع ظهور الصحف وانتشار المجلات باعتبارها لغة الفكر والثقافة ، كما كانت لغة الدولة المصرية الرسمية بحسبانها لغة النظام الإداري للدولة ، وبحسبانها اللغة البنائية والدلالية للقانون وتنظيماته الجديدة ونظامه القضائي المحدث .
وفي هذه المرحلة أيضا قامت القواعد الأصولية اللغوية صحبةَ القواعد العامة للغة العربية مع مهارات وخبرات المبتعثين وخبرتهم في الترجمات عامة وفي التعريب القانوني خاصة قامت بدور فاعل في بناء لغة هذا النظام القانوني الوضعي وفي رفد جهازه القضائي بكافة احتياجاته اللغوية ، إضافة إلى عوامل أخرى منها:
العامل الأول : نشاط حركة الترجمة والتعريب القانوني
انتشطت مع البعثات العلمية حركة الترجمة عموما ، الترجمة القانونية أو “التعريب القانوني” خصوصا وكانت ترتكز ابتداء على تعريب قوانين النظام اللاتيني ممثلا في فرنسا، ثم توسع إلى الترجمات الإنجليزية والإيطالية …. وجدير الإشارة إلى جهود مدرسة الألسن 1836 والتي قادها رفاعة الطهطاوي وكان من آثاره ترجمة الدستور الفرنسي ، والنشيد الوطني الفرنسي وغير ذلك. وكانت غاية مدرسة الألسن هو تعريب المعارف الحديثة بيد خريجيها المصريين [انظر د. رءوف عباس : تاريخ جامعة القاهرة 20 ، 21 ] ، وكان رفاعة الطهطاوي رئيس قلم الترجمة ، وقد نشطت حركة الترجمة وبشدة في عصره وبعده. وكان لهذه الجهود التعريبية والترجمات دور فاعل مع القواعد الأصولية اللغوية في تأسس النظام القضائي الوضعي الحديث كاملا في مصر وفي جل العالم العربي ، وقد ارتكز على أساس النظام اللاتيني ممثلا في فرنسا بفعل البعثات العلمية والترجمات القانونية .
** *وبالنسبة للعلم الفكري الكبير رفاعة رافع الطهطاوي ( 1801- 1873م) فهو أحد أكابر رجالات النهضة في عصر محمد علي وما بعده ، عالم أزهري شرعي ولغوي ومترجم ومفكر وقانوني وتربوي ومخطط … زكاه شيخ الأزهر الشيخ حسن العطار إماما للبعثة التعليمية في فرنسا …ثم ضم إلى أعضاء البعثة فدرس التاريخ والجغرافيا والأدب والقانون …
وتقلب في وظائف الترجمة حتى صار أحد أكابرها حيث عهد إليه بترجمة العلوم الهندسية والفنون الحربية حتى عهد إليه برياسة مدرسة الألسن وكانت :”بذرة لكليتي الحقوق ودار العلوم ” على ما سنأتي عليه ، كما أسند إليه نظارة مكتبة المدرسة التجهيزية وكانت تحوي خمسة عشر ألف كتاب بالإيطالية والفرنسية ، ثم نفي إلى السودان.
وبعد تولي سعيد خلفا لعباس أعيد لمصر وحاول إعادة مدرسة الألسن ولكن بلا جدوى ومن خلال نظارته للمدرسة الحربية ألحق بها قلما للترجمة عين فيه تلميذه صالح مجدي … ثم اختير ناظرا لقلم الترجمة … وظل بها حتى وفاته رحمة الله عليه[ انظر د.أحمد هيكل : تاريخ الأدب الحديث في مصر ص 34 وانظر هامش 2 ] .
ولرفاعة الطهطاوي فضل كبير ، وعطاء عريض على القانونيين العرب أجمع بلا مدافع وسنأتي بإذن الله على ذكر جهوده من خلال سلسلة مقالات مستقلة ، وخاصة عن أدواره في التأسيس للغة القانونية وكيف نرجم الدستور الفرنسي وحده …؟ ! وإبداعاته في الترجمات القانونية …. إضافة إلى كم والرسائل والكتابات النوعية في الحرية وفي الحقوق ….إلى غير ذلك ،
وأنا أعده قانونيا عظيما ومؤسسا لركائز المشروعية القانونية وأصول الحرية في مصر والعالم العربي؛ إذ قد درس القانون في فرنسا وعني بترجمة الدستور الفرنسي أشد عناية ، وهي أول ترجمة عربية مطلقا …إضافة إلى عنايته بالكتابة في القانون وفي الحقوق وفي الدفاع عن المظالم ومهاجمة الاستبداد بما أدى إلى تعطيل مدرسة الألسن ونفي الخديوي عباس له إلى السودان بسبب كتاباته وآرائه … وأنا أعدُّه قانوني مصقع ذو فضل كبير على القانونين وهو فضل مغفول عنه …!!]
ثانيا: انتعاش اللغة العربية ، وظهور التيارات الأدبية الحديثة ، حيث برز البارودي وتلاه شوقي وحافظ إبراهيم وغيره بمدرسة الإحياء والبعث أو المدرسة الكلاسيكية …وهو ما مهد لظهور المدارس الأدبية الأخرى …ولهذا تفاصيله في كتب الأدب والتأريخ الأدبي وكان من آثار انتعاش اللغة وازدهارها أن نشطت اللغة القانونية ونشطت المرافعات والخطب القانونية سواء الخطب أمام القضاء أو تلك الخطب الوطنية والسياسية والحزبية والتي كانت تقوم على تعزيز التحرر وتناهض الاحتلال وتدعو للاستقلال ، وقد تبارى القانونيون السياسيون فيها في كل المحافل والمناسبات ، وقد استرفدت اللغة كثيرا من ألفاظها واصطلاحاتها وتراكيبها من أعمال الترجمة القانونية والعلمية ومن تزاوج الثقافات اللغوية ، فاستخرج المفكرون والأدباء أجمل ما في اللغة العربية من مهارات وإمكانات وأساليب .
وكانت محصلة ذلك عامة شملت كافة الجوانب القانونية والعلمية وغيرها بفعل :” انتعاش اللغة العربية بعض الانتعاش ، وتجددها بعض التجدد ، وذلك لأنها أصبحت لغة العلوم الحديثة ولغة الصحافة الجديدة ووسيلة الأفكار والنظم الوافدة ، فاتسعت للمصطلحات العلمية والفنية ، ومالت أكثر إلى الموضوعية ، وتخلصت نوعا من الركاكة والتكلف ، وربما كانت تلك بداية اللغة العربية الحديثة المتطورة ” [د. أحمد هيكل تاريخ الأدب الحديث ص 29 ]
ثالثا: تأسيس مدرسة الحقوق[1]
أنشئت في عهد إسماعيل 1868م باسم مدرسة الإدارة والألسن ” ثم انفصلت عن مدرسة الألسن عام 1882م. وقد استقلت بمدرستين: أولهما مدرسة دار العلوم 1872م ، بعد تولي علي باشا مبارك ديوان المدارس سنة 1868م . وثانيتهما مدرسة الحقوق منذ 1886م[ الدكتور رءوف عباس : تاريخ جامعة القاهرة ص 29 .]، وتم إنشاء أول قسم فيها باللغة الإنجليزية عام 1899م تدرس فيه المواد باللغة الإنجليزية وظل ينمو هذا القسم على حساب القسم الفرنسي ، كما نشطت البعثات إلى بريطانيا على حساب فرنسا[ السابق ص 29 .]، وبالنسبة للغة العربية والشريعة الإسلامية فيلاحظ :
أولا: أن للغة العربية تلازمت مع اللغة الإنجليزية وغيرها من اللغات في مناهج مدرسة الحقوق وبعد تحولها إلى كلية الحقوق وضمها إلى جامعة القاهرة سنة1925 م، و كانت مواد الدراسة باللغة اللغة العربية ، والفرنسية والإيطالية ، وكان يحاضر فيها بعض أساتذة القانون من فرنسا وغيرها ….. وذلك في مستوييها الأول والثاني وهما :
أ- الأول ابتدائي ، ومدته سنتان( السنة الأولى والثانية ) ، وكان الغرض منه تخريج المحضرين وموظفي أقلام الكتاب المحاكم ومواد الدراسة هي اللغة الفرنسية والترجمة والتاريخ والجغرافيا والخط العربي والخط الفرنسي وإمساك الدفاتر والنظام القضائي ومبادئ المرافعات والإجراءات القضائية
ب- القسم العالي وهو يتكون من 3 سنيين دراسية ويهدف إلى تخريج أقلام الكتاب وأعضاء النيابة وغيرهم من الموظفين الذين تتطلب وظائفهم ثقافة قانونية
ثانيا: حضور القواعد الأصولية اللغوية في كلية الحقوق من خلال تلازم دراسة الشريعة الإسلامية مع المواد القانونية الوضعية في كل المستويات ، وبعد تحولها إلى كلية 1868م، وقبل أن تنضم إلى الجامعة المصرية سنة1925 م [كانت مدرسة تسمى مدرسة الإدارة والألسن، ثم انفصلت مدرسة الإدارة عن مدرسة الألسن، وظلت مدرسة الإدارة معروفة بهذا الاسم حتى صدر قرار بتسميتها مدرسة الحقوق. وتحولت مدرسة الحقوق إلى كلية الحقوق سنة 1925 ، وكان طلاب الكلية عند ضمها إلى جامعة القاهرة 980 طالباً.] وقد طالبت الحركة الوطنية بتعريب العلوم وحققت في ذلك نجاحا فبدأ التعريب بشدة 1907م ، وبدأ التعريب في مدرسة الحقوق سنة 1910م . [انظر الدكتور رءوف عباس: تاريخ جامعة القاهرة ص 40 ]
ثم تطورت كلية الحقوق فيما بعد ومرت بأطوار كثيرة …. حتى كان استحداث قسمين للدراسة فيها باللغة الإنجليزية واللغة الفرنسية بعد عهد كان السيادة فيه لهما ، ثم انقطعت ثم عادت بتنظيم جديد ، ففي العام الجامعي 1995-1996 تم استحداث قسم الدراسات القانونية باللغة الإنجليزية،. تم أيضاً في العام 1996 استحداث قسم الدراسة باللغة الفرنسية
وتضم الكلية بعد تطورات كثيرة أحد عشر قسما وسبعة مراكز بحثية وتدريبية وليس بها – للأسف الأسيف – قسم للغة القانونية ولا مركز ولا حتى وحدة تعنى باللغة القانونية أو باللغة الأصولية لدراستها أو التمهير عليها ، على الرغم من وجود مراكز عظيمة مثل مركز بحوث دراسات مكافحة الجريمة، ومركز البحوث والدراسات القانونية….!!!!!!!!
أما عن أقسام الكلية المعاصرة فهي:
1 -قسم الشريعة الإٍسلامية : ويشمل تخصصات الأحكام الشرعية , وأصول الفقه ، وقد ظلت القواعد الأصولية اللغوية تدرس فيه حتى الآن مع ميل واضح للتخفيف منها وتخفيف تكليف الطلاب بها .
2 -قسم القانون المدني : ويشمل تخصصات القانون المدني
3 -قسم القانون التجاري : ويشمل تخصصات القانون التجاري , القانون البحري , القانون الجوي , التشريعات التجارية لتنظيم المنافسة وحماية المستهلك
4 -قسم قانون المرافعات : ويشمل تخصصات قانون المرافعات المدنية والتجارية
5 -قسم القانون الجنائي : ويشمل قانون العقوبات بقسميه العام والخاص وقانون الإجراءات الجنائية وعلم الإجرام وعلم العقاب
6 -قسم القانون العام : ويشمل تخصصات القانون الدستوري , النظم السياسية , القانون الإداري والعقود الإدارية
7 -قسم القانون الدولي العام : يشمل تخصصات القانون الدولي العام و التنظيم الدولي
8 -قسم القانون الدولي الخاص : يشمل تخصصات الجنسية , مركز الأجانب وتنازع القوانين وتنازع الاختصاص القضائي
9 -قسم فلسفة القانون وتاريخه : يشمل تخصصات فلسفة القانون , تاريخ القانون , علم الاجتماع القانوني والقانون الروماني
10-قسم القانون الاجتماعي : يشمل تخصصات قانون العمل والتأمينات الاجتماعية , القانون النقابي وتشريعات التعاون
11-قسم المالية العامة والقانون المالي والتشريعات الاقتصادية : ويشمل تخصصات المالية العامة , القانون المالي والضريبي , التشريعات الاقتصادية و الاقتصاد.
ويلاحظ فيما سبق ذكره :
1-حضور كبار القضاة الشرعيين والفقهاء في كلية الحقوق وتدريسهم لأجيال متعددة الفقه وأصوله – وعلوم اللغة العربية في المرحل الأولى – ومن جملتها القواعد الأصولية القانونية من أمثال الشيخ علي حسب الله والشيخ أبو زهرة وغيرهم -رحمة الله على الجميع – وقد درَّس الشيخ أبو زهرة كتابه الخطابة وعلم الجدل وغيرها من الكتب اللغوية ذات العلاقة باللغة القانونية .
2- استقرار اللغة العربية في عهد مدرسة الحقوق وفي أوائل كلية الحقوق حتى 1980 تقريبا ، فلم تُثر بجلاء أو خفاء أي مشكلات علمية بخصوص لغة القانون على المستوى البنائي في ألفاظ اللغة القانونية أو تركيباتها أو صياغة جملها ونظم نصوصها بنائية أو دلالية بخصوص فهم نصوصه واستخلاص الأحكام منها وهي ضمن مباحث القواعد الأصولية اللغوية ، وذلك بسبب الكفاية اللغوية وما آلت إليه اللغو العربية من ازدهار في هذه الحقبة .
3- قوة الروابط العلمية وتلك الروابط اللغوية والقانونية والشرعية بين كليتي الحقوق ودار العلوم وبين الأزهر ( ممثلا في قطاعه التعليمي) ، من خلال تدريس عدد غير قليل من القضاة الشرعيين والأصوليين الكبار في كلية دار العلوم وفي قسم الشريعة بكلية الحقوق على وجه الخصوص وجلهم من خريجي الأزهر ، وعليه فلم يكن ثم حديث ولا إثارة ، بل ولا حاجة إلى قواعد بنائية تحكم صياغة القواعد القانونية وتضبط نظم نصوصها لاضطلاع هؤلاء العلماء بذلك .
[1] مادة هذه النقطة من خلال موقع كلية الحقوق على الشبكة الدولية للمعلومات ومن كتاب تاريخ جامعة القاهرة للدكتور رءوف ، أعداد دار النشر الإلكتروني د.ت