عناصر عملية التكوين اللغوي والتمكين المهاري للقانونيين (٦)
بقلم: محمد عبد الكريم الحسيني المحامي
تعد عملية التكوين اللغوي والتمكين المهاري للقانونيين (وللمحامين على وجه الخصوص) عملية تربوية سلوكية تتكامل مجالاتها الثلاثة: المعرفية والوجدانية والمهارية، كما تتكامل مضامينها من معارف ومهارات علوم اللغة الخمسة وهي: علم الأصوات، وعلم الرسم، وعلما الدلالة والصرف ، وعلم النحو، وعلم البلاغة ، بما يعنى وجوب التكامل ما بين هذه المجالات وبين معارف ومهارات علوم اللغة مع العناية الخاصة بالمجال المهاري فهو مجال الغاية بالنسبة لهذه العملية.
وهذه التكاملية سابقة الإشارة تقتضي نظرة جديدة ووعيا خاصا لمهمة التكوين اللغوي للمحامين، إذ لها استحقاقات لابد من الوفاء بها ، فلا يكفي لتحقيق هذه المهمة التكوينية وجود أو تفعيل ظواهر حسنة ومحمودة – ولكنها غير كافية بالمرة لتحقيق الغاية المرجوة في التكوين اللغوي والتمكين المهاري للسادة القانونيين- مثل النصائح المتتابعات أو التوصيات المتفرقات أو المقالات المتناثرات أو أي عدد محدود من الدورات لتقوية اللغة العربية في عمومها تعقد هنا وهناك .
بل “التكوين اللغوي” عملية تربوية تمهيرية متكاملة تستصحب كل الظواهر الحسنة السابقة وغيرها ، غير أنها تستلزم وضع خطة نوعية وبرنامج محدد ذي رسالة معينة ورؤية واضحة لتحقيق الهدف العظيم وهو هدف “التكوين اللغوي والتمكين المهاري” الحقيقي والفعلي للسادة المحامين وجعله جزءا بنائيا من تكوينهم ، وعادة ملازمة لهم، وسيما من سيماهم ومعلما من معالمهم بحيث إنه ما أن يقال فلان المحامي …تثب إلى الذهن صورته الذهنية الوضيئة فتدركه المخيلة : متكلما لبقا بليغا منطيقا فارسا للكلمة ، مالكا لناصيتها ، متمكنا من علومه القانونية،متمهرا متشبعا بمهارات وعلوم اللغة العربية .
وهذا هو المأمول من كافة القانونيين وبالأخص أولئك القانونيين الجدد الوالجين إلى مِحراب العدالة وسلطاتها ومؤسساتها وكياناتها الواسعة،فهم الأكثر قدرة على الانخراط في هذا التكوين وعلى تحقيق ذلك التمكين ، وهم أولَى القانونيين بالعناية وأجدرهم بالمساعدة لتكوينهم قانونيا وتمكينهم لغويا .
أضف إلى ما سبق أن عملية التكوين اللغوي للسادة المحامين هي جزء من أهم أجزاء مشروع “التكوين اللغوي والتمكين المهاري للقانونيين” والذي يستهدف جميع العاملين في الحقل القانوني وذوي العلاقة بالقانون وسائر المعنيين به ، وإن جرى تخصيصه في معظم السياقات بالسادة المحامين نظرا لعلاقته المباشرة برسالتهم وبأداء مهمتهم الدفاعية وتنفيذ أعمالهم الكتابية والشفاهية على الوجه الأكمل ، وسيكون لنا مجال آخر لطرح معالم هذا المشروع التنموي وإن شئت فقل “المشروع القومي لتنمية وتمهير السادة القانونيين” على المستوىات : اللغوية والمنطقية والمنهجية إلى غير ذلك من مهارات علوم الآلة الأخرى .
***
يمكن التعرف أكثر على طبيعة عملية “التكوين اللغوي للمحامين ” وبرامج هذه العملية من خلال تعرف مراحلها ومجالاتها ، فابتداء هناك أهداف سلوكية لابد من الاعتداد بها والقيام عليها لإتمام عملية التمهير والتمكين بطريقة علمية تربوية تطبيقية تحقيقا للغاية المتوخاة في النهوض بالمحامين والمحاماة وإعادتها لسيرتها الأولى .
ومجالات هذه الأهداف السلوكية هي المجالات المعرفية والوجدانية والمهارية، وهي تتكامل معا في تحقيق مرامها مع ملاحظة أن الهدفين المعرفي والوجداني غير مقصودين بذاتهما وإنما بالقدر الذي يخدم الهدف المهاري فهو المقصود والمستهدف وهذه نبذة عن الأهداف السلوكية الثلاثة .
أولا: التكوين المعرفي اللغوي للمحامي :
ويقصد به تحصيل واكتساب المعارف اللغوية بوعي وفهم وتحليل، وهو مهم بالقدر الذي يخدم تكوين المهارة اللغوية والتمكن منها، مع العلم أنه يمكن تحصيل المعرفة اللغوية الذاتية من خلال أوعية معرفية ومصادر كثيرة متعددة ومتنوعة في المكتبات وعلى الشبكة المعلوماتية الدولية ” الانترنت” ،غير أنه مع تخصص هذه الكتب واستطالتها واهتمامها بالجانب النظري التأصيلي للعلوم اللغوية، فهي تدفع جموع المحامين دفعا للإعراض عنها والصد عن مطالعتها .
ولتحقيق التكوين المعرفي الذي يحقق الغاية في التكوين اللغوي العملي للسادة القانونيين ينبغي مراعاة الآتي :
1- ترشيح بعض من صفوة الكتب اللغوية الموجزة والتي تناسب المحامين وخاصة المبتدئين في التحصيل اللغوي مع وجوب
أ-وضع قوائم بها. ب- سرد ميزاتها. ج- وتعليل أسباب اختيارها .د- وضع خطة موجزة بكيفية الاستفادة منها.
2- وضع مصنفات مخصوصة (مؤلفات توضع باسم النقابة العامة وبإشرافها العام ) لاستخراج وانتقاء المعارف اللغوية من مفهومات وتعريفات ..ومعان تأصيلية… محكومة بقربها من القانونيين وبمدى حاجة المحامين إليها .. وهي خطوة متقدمة ولازمة في سبيل تعزيز تلك المعارف اللغوية (وهذا الاختيار هو الأولى والأهم من سابقه إن تيسر).
3-والأفضل من كل ما سبق هو وضع تلك التكوينات المعرفية بالقدر المناسب في صدور مناهج متخصصة وموجهة للسادة المحامين، بمعنى أن تقوم النقابة (إشرافا وتمويلا) على إعداد مناهج لغوية مهارية متكاملة خاصة بالسادة المحامين ومفصلة لهم، تتغيا إكسابهم أهم مهارات اللغة العربية ذات الصلة بأعمالهم الشفاهية والكتابية ، ونظرا لأهمية هذا الاقتراح فقد تم تخصصه بالكتابة ووضع خطة مفصلة به جاري عرضها على النقابة العامة.
ثانيا: -التكوين الوجداني اللغوي للمحامين
ونعني به التكوين الشعوري والعاطفي لاتجاهات وقيم المحامين إزاء مهارات اللغة العربية ومعارفها بداية من الاستجابة النفسية لمعايشتها والاستقبال العاطفي لتحصيلها والتمكن منها ؛ وصولا إلى تكوين القيم والميول الإيجابية إزاءها ، وهذا الجانب الوجداني مغفول عنه للأسف ؛ إذ هناك صورة نمطية عامة للغة العربية وأنها لغة النحو المعقد والتراكيب الصعبة غير منتظمة وهذا غير صحيح بالمرة .
وهذا الجانب الوجداني هو الذي يمكننا من تفسير ضعف الإقبال على تعلم اللغة العربية والعزوف عن اكتساب مهاراتها ،، وبه أيضا يمكننا تغيير تلك الصورة النمطية عن اللغة العربية وتصحيحها ، أضف إلى ذلك أنه من خلال التكوين الوجداني وبأدواته الخاصة يمكن :
أ- غرس محبة اللغة العربية وعلومها في نفوس المحامين .
ب- بناء المسوغات والعلل الوجدانية نحو تقدير اللغة العربية والتحفيز الوجداني على الإلمام بمعارفها وتعظيمها ، إذ إنها لغة القرآن الكريم ولغة الحضارتين العربية والإسلامية والوعاء اللغوي الجامع للأمة العربية العظيمة.
ج- تكوين القناعة الكبرى -وهي غاية من أهم غايات المجال الوجداني- لدى المحامين بأهمية مهارات اللغة العربية في تحقيق رسالتهم السامية في نصرة العدالة والدفاع عن الحقوق والحريات ومن ثم الإقبال على اكتساب مهاراتها .
ويمكن المساعدة على تحقيق ذلك من خلال :
1- رسالة إعلامية تحفيزية تقوم عليها النقابة لتحصيل معارف اللغة العربية وللتمكين من مهاراتها.
3-وضع مسابقات وإعداد فعاليات معينة تشجع على استخدام اللغة العربية وتوظيف مهاراتها فانونيا.
2-طرح نماذج ومُثُل من :
أ-الأعلام النابهين الذين تميزوا في اللغة وكانوا أعلاما في المحاماة .
ب-تيسير الحصول على نماذج من المرافعات المميزة والتي تمثل مهارات الأداء الصحيح والنطق الفصيح أساسا فيها .
ج-تقديم نماذج للمذكرات والكتابات القانوية ذات ضياغة لغوية محكمة وناصعة يمكن أن يحاكيها المحامون ويطورونها لمساعدتهم في أداء مهامه الكتابية والشفاهية على أن يبدعوا هم من بنات أفكارهم ما يضاهيها بل ويفوقها.
ثالثا: التمكين المهاري اللغوي للمحامين
وهو غاية ما يرجَّى من برنامج التكوين اللغوي للمحامين وخطته ، وفي هذه المرحلة يتم تحول المعرفة إلى مهارة والموقف الوجداني إلى اعتقاد إيجابي بأهمية ونفع اللغة لتصبح عادة وأسلوبا في الحياة …وفيها تلامس المهارة وجدان وحركة المتدرب عليها ، ويقوم بتحصيل نماذجها والتدرب عليها والقيام بتطبيقها وتطويرها بما يلائم حاجته ، إضافة إلى القدرة على استدعائها في كل مواقفه وأعماله القانونية، بحيث تتحول من حاجة إلى أن تصبح عادة قانونية لغوية دائمة وراسخة .
وهذا بالطبع يتحقق إثر الوفاء بمتطلبات المنهجية العلمية في اكتساب المهارات بداية من الإدراك الحسي للمهارة و والتهيؤ الفعلي لاكتسابها والاستجابة التطبيقية لها …والتكرارا المستدام لها في المواقف المختلفة.
ولتحقيق هذا التكوين المهاري على النحو السابق ينبغي :
1-انتقاء المهارات اللصيقة بعمل المحامين وطرحها مع :
أ- تيسير المراجع والمصادر التي تشمل هذه المهارات.
ب-وضع مصنفات خاصة لهذه المهارات تجمع شتاتها من مراجعها ومصادرها.
ج- إسناد القيام بهذه المهمة إلى فريق لغوي وفريق قانوني أكفاء وتشرف عليها النقابة من خلال لجنة تشكل بهذا الخصوص.
2-تنظيم المهارات وتصنيفها بما يلائم الواقع الوظيفي للمحامين:
وهو تنظيم يقوم على أساس تربوي مقصود ، وهو ما يفرق بين الترتيب والتصنيف ، وفيه يتم التعريف بالمهارة والتأسيس لها والتمثيل عليها ، وذكر جوانبها التطبيقية ، والتفصيل في الجوانب التطبيقية تبعا للمواقف والسياقات المتنوعة ، أما عن ألية التصنيف فيمكن وضعه على مستويين :
أ-التصنيف الأول : تصنيف المهارات اللغوية تبعا للأعمال الشفاهية للمحامي كما في :المرافعات ( مهارات النطق الصحيح والأداء الفصيح للمحامين ) والحديث إلى النيابة العامة وإلى مسئولي الضبط، ثم إلى عموم المعنيين بالقانون في المواقف القانونية المتنوعة.
ب-التصنيف الثاني : بحسب الأعمال الكتابية للمحامين سواء في كتابة المذكرات أم العرائض أم المحاضر أم غير ذلك من الأعمال القانونية الكتابية، وجلها مهارات تقوم حول الكتابة السليمة الخالية عن الأخطاء النحوية وأخطاء رسم الحروف ، والصياغة السلسة والبليغة تلك البعيدة عن التعقيد والإعضال والبرود والركاكة …!
3- إعداد مناهج نوعية لتحقيق التكوين المعرفي والتمكين المهاري
وهي المرحلة المستهدفة والمقصودة، إذ إن ما سبق جميعه لا يعدو باب التحفيز والتقريب والتيسير على السادة القانونيين ، غير أن استهداف القانونيين بمناهج تربوية نوعية مصممة لهم تعينهم على التمكن اللغوي والتمكن المهاري … لعمر الله هذا هو عاية المطلوب ، وذلك هو الخط التقدمي الواعد والناجع في تحقيق أهداف التكوين اللغوي .
حيث يمكن إيجاز كل الجهود السابقة ونعتها بأنها جهود حسنة مبرورة ولكن آثارها تقليدية ولا يزال كثير من القانونيين يتمنون التمكن المهاري ولكن بلا جدوى … !!
غير أن إعداد مناهج التمكين المهاري هو ما سيغير الوضع بإذن الله وييسر سبيل التحصيل والتمهير الحقيق للسادة القانونين . إذ ستكون المناهح الأولى من نوعها في بابها وفي المستهدف بها مصممة خصيصا وموجهة للسادة القانونيين تشتمل على ما يلزمهم من المعارف اللغوية والمهارات التطبيقية والقيم التربوية تم دمجها مع المبادئ القانونية والواقف الحياتية الشفاهية والكتابية بمنهجية تربوية وبطريقة علمية.