عمر الإنسان في مذاهب العلم والفكر
عمر الإنسان في مذاهب العلم والفكر
نشر بجريدة الشروق الخميس 1/4/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
من طالع كتاب الأستاذ العقاد « الإنسان في القرآن الكريم »، وفي مذاهب الفكر، يراه وقد أوغل في استطلاع مكانة وموقف الإنسان في القرآن الكريم، وكيف أعطاه القرآن أرفع وأصح مكانة، وأصلح ما يتطلع إليه في زمانه، وفي كل مكان، للحديث عن الإنسان في مذاهب العلم والفكر، فجعل يطوف في عوالم شتى، تناول في أولها « عمر الإنسان » في المذاهب المختلفة، وفي كتب الأديان، موضحًا أن القرآن لم يوجب مقدارًا محددًا من السنين لخلق الكون أو لخلق الإنسان، على خلاف ما انتهجته الديانة البرهمية، والديانة اليهودية.
ومصادر « الديانة البرهمية »، لم تقدر عمر الكون، أو عمر الحياة، بمقدار محدود من السنين، لأنها تقول بالدورة الأبدية التي تتكرر فيها حياة الإنسان مع حياة الكون بغير أجل معروف في البداية والنهاية.
أما « المصادر اليهودية »، وطبقًا لتحقيق الفقيه الكبير « جيمس يوشر » المتوفي سنة 1956م، فتورى بأن ابتداء الخليقة كان في شهر أكتوبر سنة 4004، وظل هذا التاريخ معتمدًا في طبعات التوراة التالية للنسخة المترجمة في عهد « الملك جيمس » وبهامشها تواريخ الحوادث المذكورة في متونها، وحتى العهد الأخير، ثم أجمع شراح الكتاب
العصريون، يهودًا ومسيحيين، على أن تقدير السنين والأيام الوارد بصدد الخليقة إنما كان بمقادير غير مقادير السنين والأيام الشمسية، وأنه لا يمكن أن يكون اليوم من أيام الخليقة الستة ـ يومًا شمسيًا، بدليل أن الشمس ذاتها خلقت في « اليوم الرابع » حسبما جاء بالإصحاح الأول من سفر التكوين. ( التكوين 1: 14 ـ 19).
* * *
وطفق الأستاذ العقاد يتابع هذه التواريخ والمقاييس العلمية التي تقاس بها ما قبل التاريخ مقياس الكربون المسمى بكربون (14)، تمييزًا له عن الكربون (12) المسمى بمقدار وزنه الذرى، لينتهي بعد غربلة الآراء إلى أن المحقق أن الإنسان القديم كان يستخدم الآلات الحجرية، ويستعين بها في مكافحة أعدائه من الضوارى، وأنه كان من أقدم عهوده مميزًا بالعقل والمنطق، وهما صفتان إنسانيتان لا تنفصلان عن استخدام الآلة، أما الإنسان في مجتمعات الحضارة فلم ينكشف بعد أثرٌ يدل على تاريخ له قبل عشرة آلاف سنة أو نحوها.
وبعد جولة مع الكشوف الأثرية في السنوات الأخيرة التي خرجت بأساطير القارات المفقودة من علم الأسرار إلى عالم الآثار، وخرجت باسم قارة جديدة في محيط آخر غير المحيط الأطلسي الذي قيل إنه كان موضعًا للقارة الأطلسية المفقودة، والخلاصة أنه على تعدد المذاهب والمحاولات ـ فلا تزال المسألة في إطار يتراوح ما بين توكيدات وتخمينات، وإن كانت مسألة الإنسان المتحضر قبل عصور التاريخ ـ ليست مما يجوز إهماله في سياق يعرض لتاريخ النوع الإنساني.
الإنسان ومذاهب التطور
يبدأ الأستاذ العقاد هذا المبحث، بأن القائلين بالتطور فرقتان: منهم من يعمم تطبيقه على الكون كله بما اشتمل عليه من مادة وقوة، ومنهم من يقصره على الكائنات العضوية من نبات وحيوان وإنسان.
ويتوقف الأستاذ العقاد ليوضح منهج كل من الفرقتين، وأعلام كل منهما، مبديًا أن الفريقين يقفان من الأصول الأولى موقفين متقابلين متناقضين: فهي عند أحدهما ـ وهو فريق المؤمنين ـ من صنع الخالق الحكيم، ويكتفي الفريق الآخر في التفسير ـ وهم فريق الماديين المنكرين ـ بذكر العوامل التي ينسب إليها التأثير واعتبارها طبيعية في المادة لا تفسير لها إلاَّ أنها وجدت هكذا.
* * *
والقائلون بتطور الكائنات العضوية، ممن يقصرون القول بالتطور عليها، خلاصة مذهبهم أن أنواع الأحياء تتحول وتتعدد على حسب العوامل الطبيعية، وأنها ترجع جميعًا إلى أصل واحد أو أصول قليلة لعلها هي الخلايا البدائية.
وفَصَّل الأستاذ العقاد آراء العلماء المشاهير لهذا الاتجاه، ثم فَصَّل القول نسبيًا بشأن كل من « لامارك » و« دارون » و« والاس » ـ الذين يقولون بتحول الأنواع، ويردون كثرتها إلى نوع واحد أو أنواع قليلة، ولكنهم لا يتفقون على أسباب التحول ولا على الصفات والوظائف التي تنتقل بالوراثة متى تغيرت في تكوين الأفراد.
أما النشوئيون الذين يرفضون القول بوراثة الصفات المكتسبة، فإنهم يستدلون على بطلان هذا الرأي ببعض الصفات المكتسبة التي شوهدت منذ أجيال كثيرة.
بينما يرى النشوئيون الذين يقولون بوراثة الصفات المكتسبة أن قصر الزمن الذي مَرَّ على هذه المشاهدات ـ بالقياس إلى الآماد الطوال لغيرها ـ لا يكفي للجزم بامتناع الوراثة على إطلاقها، وأن إهمال الأعضاء بالقطع ليس من شأنه بالضرورة أن يورث ولو طال عليه الأمد.
ويلجأ النشوئيون ـ على رأى دارون ووالاس ـ إلى تعليل آخر لحدوث التحول، فيعللونه بالانتخاب الطبيعي والانتخاب الجنسي، مع القول بتنازع البقاء لزيادة المواليد الحية.
وبعد المقارنة بين الرأيين: رأى لامارك ورأى دارون ووالاس، ينتهي الأستاذ العقاد إلى أن الرأيين ينتهيان إلى نتيجة متشابهة، وهي ضرورة القول في النهاية بوراثة الصفات المكتسبة على طول الزمن.
* * *
ويتجدد الآن سؤال قديم ملازم لفكرة النشوء منذ انتشار مذاهبه قبل تقديم علم الناسلات:
فما هو مدى سريان التطور على الجنس البشري؟ وهل هناك حد فاصل بين البشرية والحيوانية ؟ وإذا أمكن غدًا تحسين أنواع الحيوان بمعالجة الناسلات، فهل يمكن استخدام هذه الوسائل في تحسين صفات الإنسان الفكرية الروحية ؟
إن النشوئيين قد تساءلوا عن هذا الفاصل، منذ قرروا آراءهم عن التطور على قواعد العلوم التجريبية، وأجابوا عنه إجابتهم على حسب عقائدهم مرة وعلى حسب أمزجـتهم مـرة أخرى.
ويضيف الأستاذ العقاد أن النشوئيين ليسوا جميعًا على منهج بوفون ودارون أو منهج ابن سينا وأصحابه من علماء الزمن القديم، فإن بعض علماء النشوء المحدثين ـ وعلى رأسهم أرنست هكل ـ ينكرون كل نسبة للإنسان غير نسبته إلى نوع الحيوان، ويجعلون لهذه النسبة شجرة تجمع بينه وبين القردة العليا.
ويرتب النشوئيون القردة العليا ـ تصاعدًا ـ من الجيبون إلى الأورانج، إلى الشمبانزي، إلى الغوريلا، وقد يفرقون بينها في درجات الرقى بحسب اعتمادها على تسلق الأشجار أو المشي على أديم الأرض والقدرة على الوقوف واعتدال القامة عند السير على قدمين.
ويذهب أحد النشوئيين المحدثين ـ وهو الدكتور هرمان كلاتش ـ إلى القول بأن نوع الإنسان سابق لأنواع القرود بمئات الألوف من السنين، وأن القردة العليا أناسي ممسوخة فقدت أوائل الصفات البشرية، وانحدرت في الصفات العقلية والجسدية إلى ما دون تلك المرتبة بكثير أو قليل.
وبعد أن استعرض الأستاذ العقاد آراء بعض النشوئيين المتأخرين، انتقل إلى العلامات التشريحية التي توقف البعض عندها، ليبدي ما قرره الأستاذ « شابمان بنشر Pincher » بعد إحصائه هذه العلامات، من أنه « لا احتمال للتسلسل الإنساني من القردة كما نعرفها ».
التطور قبل مذهب التطور
إن اختلاط الأنساب بين أنواع الحيوان خاطر قديم توارثه الأقدمون من أزمنة مجهولة، وتحدثت به الأخبار والأساطير، ويورد ما ذهب إليه الفارابي، ومحمد بن شاكر الكتبى، والقزوينى صاحب « عجائب المخلوقات »، وما ورد بالرسالة العاشرة من رسائل « إخوان الصفا »، ليعطف على « ابن مسكويه » من علماء القرنين الرابع والخامس للهجرة في كتابه « تهذيب الأخلاق » تحت عنوان « الأجسام الطبيعية » وما استطرد إليه من آراء في هذا الباب، فحواها أن « الترقي الطبيعي ينتهي إلى غاية وسع الطبيعة من ترقية الجسد وإتمام حسه وأعضائه، ثم يبدأ الترقي بالعقل والخلق من أفق الحيوان إلى ما هو أعلى وأرفع وأقرب إلى الملأ الأعلى.. ».
وأشار ابن خلدون إلى هذا التدرج ـــ أو التطور ـ فترقى به من المعدن إلى القرد إلى الإنسان. ثم أضاف أن « القزوينى » كان الأكثر ترديدًا للخرافات بكتابه « عجائب المخلوقات » الحافل بالأساطير عن اختلاط أنواع الأحياء، وما تشكل منها في البر والبحر..
وهذه الأساطير وما شاكلها قد تدرس على أنها تعبيرات من عمل المخيلة في فهم الصور البعيدة بزمانها أو مكانها، وقد تدرس على أنها ترجمان للوعى الباطن الذي استقر في أعماق بديهة الإنسان وغرائزه الوراثية، ولا بد أن تدرس في جميع الأحوال لأنها مما يصح أن يعتبر « مسودات » للإدراك الإنساني تظهر في كل عصر ولا تزال في كل عصر معلقة بين الشك واليقين وبين الوهم والصدق في انتظار التصحيح والتنقيح.