عماد الحقيقة

عماد الحقيقة

نشر بجريدة الوطن اليوم الجمعة 26/2/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

في وقت لم تكن فيه الألقاب تطلق إلا على قامات حقيقية، ومعطيات شاهدة، درج جيلنا ومن قبلنا على إضفاء إمارة الشعر وإطلاق لقب أمير الشعراء على الشاعر أحمد شوقي، ولقب شاعر النيل على حافظ إبراهيم، وخصّ الأستاذ أحمد لطفي السيد بلقب أستاذ الجيل، وخصّ الأستاذ العقاد بأنه الكاتب الجبار وصاحب العبقريات، وأقر للدكتور طه حسين بعمادة الأدب العربي.. لم يكن يطلق أيامها لقب الكاتب الكبير على كل من خط سطراً أو أمسك قلماً، ولا كانت مثل هذه الألقاب تضفي بلا حساب على أنصاف الفنانين، أو على كل ممثل وممثلة أو راقصة.. تذكرت ذلك وأنا أقع بالصدفة في أوراق أرشيفي على عرض كنت قد كتبته في ستينات القرن الماضي لكتاب كان قد صدر عام 1959 للدكتور طه حسين بعنوان: «من أدبنا المعاصر»، لفت نظري أيامها أنه على كثرة شواغل عميد الأدب العربي بأمهات الكتب والمؤلفات التي أثرى بها المكتبة العربية، لم ينسلخ عن الاهتمام بمن حوله من الأدباء والكتاب الكبار والأواسط والناشئة، فيقرأ أعمالهم ويعقب عليها مقدماً ومنوهاً ومشيراً وناقداً، ليقدم إلى الناس من وما يرى أنه جدير بالتقديم.

على مدار عقد الخمسينات من القرن الماضي، كتب الأستاذ الدكتور العميد طه حسين إلى قراء جريدة الجمهورية (أيام زمان!) جملة مقالات في النقد الأدبي.. صور فيها انطباعاته وتقييمه لعدة أعمال أدبية كانت قد صدرت أيامها في مصر وفي بعض الأقطار العربية، فضلاً عن بعض البلاد الأوروبية.. كما تناول في هذه المقالات بعض القضايا التي شغلت الأدباء والمفكرين، فأدلى بدلوه في ما اختلفت أو تباينت فيه الآراء والاتجاهات أو الاختلافات، جمعها في هذا الكتاب: «من أدبنا المعاصر»، الذي صدرت أولى طبعاته سنة 1959، فسارعت بالكتابة عنه إلى إذاعة صوت العرب في وقت كان فيه الإعلام حافظاً لدوره الجاد الوقور في خدمة الفكر والأدب والثقافة.

بين دفتي هذا الكتاب لعميد الأدب العربي، وقد مضى الآن على صدوره نصف قرن بالتمام والكمال، ستة عشر مقالاً عرض فيها لعدة كتاب وكتابات، فكتب عن «هكذا خلقت» للدكتور محمد حسين هيكل، صاحب القامة الرفيعة والكتابات المتميزة عن «حياة محمد»، و«الفاروق عمر» و«عثمان» و«الصديق أبوبكر».. و«جان جاك روسو»، و«جان دارك»، و «في أوقات الفراغ»، وقائمة طويلة من المؤلفات القيمة التي لم تمنعه المحاماة ولا الحقائب الوزارية الكثيرة التي حملها ولا رئاسته لحزب الأحرار الدستوريين ومجلس الشيوخ، عن تأليفها وتقديمها للمكتبة العربية. وتابع عميد الأدب العربي وكتب في ذلك الوقت عن ثروت أباظة، وكان أيامها من الناشئة، وعن روايته التي جسّدت تليفزيونياً «هارب من الأيام».. ومثلها فيما أذكر الممثل الراحل الموهوب عبدالله غيث، الشقيق الأصغر للأستاذ حمدي غيث المسرحي الكبير.. وكتب الأستاذ الدكتور والعميد ناقداً ولافتاً ومنوهاً بالأستاذ نجيب محفوظ وروايته المتميزة «بين القصرين».. وكتب عن الأديب التونسي محمود المِسْعِدِى وقصته التمثيلية «السد».. وتناول بأستاذيته المعهودة ما كان مثاراً وقتها من آراء متباينة حول الفُصحى والعامية كأسلوب للكتابة الأدبية، ولقضية التجديد في الشعر، وأزمة الفن في عصرنا، فضلاً عن بعض الترجمات والأشعار والأعمال الأدبية لشعراء وكتاب قدامى ومحدثين.

في توقفه مع «هكذا خلقت» للدكتور محمد حسين هيكل، يهنئ الكاتب على عودته إلى القصة العربية التي كان من السابقين إليها، في روايته «زينب»، ثم هجرها هجراً طويلاً فأوحشها وأوحشته.. يزجى العميد إلى الكاتب الكبير أنه لافت في قصته الجديدة، أنه يخاطب القلب والشعور، ويخاطب العقل.. في صياغة سهلة عذبة بريئة من التبذّل والابتذال جميعاً، ويتحدث إلى القلب والشعور بحديث الحب الذي يشقى به الغير كما يشقى صاحبه، ويتحدث إلى العقل بما تناوله من قيم لأعمال لاءمت الحق تارة وخالفته تارة أخرى.. والقصة التي عنى العميد بتلخيصها تدور حول حياة فتاة أعطاها الله سبحانه وتعالى منذ صباها كل شيء.. ولكن الأمور دفعت بها في مدارج الحياة إلى عبادة ذاتها، فانتهى بها ذلك إلى الوقوع في هاوية الخطأ غير مرة.. تمضي بها الحياة، أو تمضى هي بها في سلسلة متتابعة من اللطمات حتى تثوب في النهاية إلى رشدها، وتنشد بالتوبة غفران ومسح جرائرها!

لم تمنع صلة العميد بالدكتور هيكل، من أن يأخذ على قصته بطء الإيقاع والإسراف في تفاصيل قد تدعو إلى السأم، فضلاً عن مآخذ يسيرة تتعلق بموضوع التبني وقليل من الخطأ في اللغة، ولكنها ملاحظات لا يخفي العميد أنها لا تغضي من قدر الكتاب، ولا تنتقص من قيمته الفنية، ولا تزهد على حد قوله محباً للفن شغوفاً بالأدب الجدير بهذا الاسم في أن يقرأ الكتاب حفيّاً به حريصاً على الاستمتاع بدقائقه.

فمن عباءة طه حسين خرج كثيرون، وفي ندوة العقاد الأسبوعية انتظم فيها أعلام، وتخرج فيها أعلام، ولا تزال أجيال من الأدباء والكتاب تذكر بالعرفان ما تلقوه عن الأستاذ يحيى حقي، ومن المعروف أن الأستاذ نجيب محفوظ تواصل تواصلاً حيّاً من خلال الحرافيش وغيرهم مع جيله وما بعده مباشرة، ومع أجيال من شباب الأدباء نقل إليهم زبدة خبراته وتجربته.

يروى الدكتور محمد مندور شيخ النقاد في حديثه مع الأستاذ فؤاد دواره، كيف أن الدكتور طه حسين هو الذي حفّزه حفزاً بعد أن اكتشف موهبته الأدبية، على أن يلتحق بالتوازي بكلية الآداب، إلى جانب كلية الحقوق، التي رفض مندور أن يتركها، لأن أقصى آماله آنئذ أن يصير وكيلاً للنيابة، ولا يضيق صدر الدكتور طه بتصلّب التلميذ مندور، فيمضى في إقناعه وتشجيعه، ويعده بالمجانية وينفّذ وعده، وليجمع مندور بين إجازة الحقوق التي اجتازها بتفوق، وإجازة الآداب التي كان ترتيبه الأول فيها، وصار من بعد علماً من أعلام الأدب والنقد، وشيخاً للنقاد.

هكذا كانت الدوائر الحاضنة في ذلك الزمن، ولو لم يتوقف الدكتور طه حسين ويعطى ما أعطاه من اهتمام ورعاية لمن توسم فيه الموهبة الأدبية، لربما حرمت الحياة الأدبية والنقدية من العطاء الغامر الرفيع الذي أعطاه الدكتور محمد مندور.

لم أقصد بهذه السطور التعريف بطه حسين، ولا بالكُتَّاب والأعمال التي كتب عنها، وإنما قصدت أن أسترعى العناية إلى الفارق الهائل بين ما كانت عليه صحيفة حكومية (الجمهورية) في ذلك الأوان، وما صارت إليه بعض النشرات الرسمية، التي ابتعدت في أيامنا بُعداً كلياً عن الفن والأدب والثقافة، وعن الجد والوقار، وأوغلت في أغراض صغيرة ونفاق رخيص.. ومع ذلك لست أحب أن أنهى هذه الكلمات دون عرض وجيز لرأى الدكتور طه حسين في نقده وتقريظه آنذاك لرواية «بين القصرين»، أول ثلاثية نجيب محفوظ. سجل الأستاذ العميد للرواية أنها على طولها لا تثير ملالة، ولا يشعر القارئ لها بضعف أو نفور، واستطاع نجيب محفوظ أن يحقق فيها تحقيقاً رائعاً: خصلتين.. يبلغ بهما الأثر الأدبي أقصى ما يقدر له من النُّجح.. وهما «الوحدة» التي لا تغيب، و«التنوع»، الذي يدرأ السأم ويأخذ القارئ إلى حياة خصبة حافلة مختلفة المظاهر والمناظر والأحداث، في إطار صور البيئة المصرية في ذلك العصر أصدق تصوير.

هكذا كانوا وكانت الصحافة!!

 

زر الذهاب إلى الأعلى