علمنا النسبي في رحاب العلم اللدني (4)
من تراب الطريق (991)
علمنا النسبي في رحاب العلم اللدني (4)
نشر بجريدة المال الأحد 6/12/2020
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
لا يوجد أي تعاصر ومسايرة بين تطور أفكار الآدميين ونمو خبراتهم العملية الحسية، وبين معتقداتهم الروحية والأخلاقية المتعلقة بالدين والقيم والمبادئ.. ومع هذا فكل آدمي يستعمل إشارات ورموز نفس اللغة وأساليبها واشتقاقاتها في التعبير عن تلك الأفكار، كما يستعمل هذه الرموز والإشارات في التعبير عن تلك المعتقدات مع احتمال اختلاف المقاصد والأغراض والمعاني.. ويبدو أنه لا حيلة للآدمي في تجنب هذا ـ لأن اللغة ألفاظ وعبارات وتراكيب لا يمكن أن تعبر إلاّ عن أمور متعلقة في النهاية بالذات ووعيها ـ لدى المتكلم أو المخاطب أو الغائب، ولا تعبر قط عن الطبيعة أو الكون أو العالم أو عن عالم الأحياء من حيوان ونبات.. إذ ليس لهذه الكائنات على كثرتها أو ضخامتها أو ضآلتها أو ظهورها لنا أو خفائها عنا ـ ليس لها لغات يفهمها الآدميون حتى يمكن ترجمتها بأي نوع من أنواع الترجمة إلى لغة آدمية في متنـاول البشر !
هذا الانفراد فيه ضرب من العزلة والتوحد.. يبدو أنه جعل الآدميين يعتقدون من قديم الزمن ـ أن العالم كله لم يخلق إلا من أجلهم.. خلق لهم ليستخدموه ويديروه وينتفعوا به ويحكموه ويزيد كل منهم في عماره بما يملكه أو يتاح له من العقل والعدل والإنصاف.. يشملهم ويحوطهم الاعتقاد بأنهم وإن كانوا فانين في هذه الدنيا مثل سواهـم من الأحياء، إلا أنهم مبعوثون محاسبون بعد ذلك وسيخلدون إلى الأبد في النعيم أو في العذاب حسبما قدمت أيديهم وقلوبهم للآخرين ولأنفسهم في هذا العالم.. وقد بان لهم الآن أن الكون أكبر بكثير جدًّا مما تصوروا واعتقدوا، وأنهم هم ونوعهم مع ما تجلى ويتجلى تباعًا من عظمة الكون اللاّ متناهي ـ أقل أهمية وخطرًا مما خالوا، ولكنهم لم يتمكنوا بعد من تغيير فكرتهم المتضخمة المغرورة عن أنفسهم، وربما كانوا بحالتهم غير قادرين على ذلك، وهذا فيما يبدو واحد من الأخطار التي تهدد مستقبل النوع البشرى !
ثم إن الآدميين عاشوا دهرهم ويعيشون أيامهم مثقلين ـ دون استثناء ـ بمزيج متداخل مختلط في وعيهم ومخيلتهم وذاكرتهم ـ من التصورات والأفكار المصدقات والمعتقدات.. لديهم فيه أكوام متراكمة من الصحيح والباطل والصادق والكاذب والواقع والخيال المتوهم، لم يصف لأي منهم قط أي عنصر من عناصر ذلك المزيج أو الخليط وإن اختلفت فيه نسبة المزج والخلط من وقت لآخر باختلاف الأوقات والأمكنة والعصور والأجناس والبيئات والوراثات والظروف والأحوال.. وهم مثقلون بذلك من لحظة أن يولدوا إلى أن يفارقوا الحياة !.. لا فرق في ذلك بين المتحضر والبدائى، والعالم والجاهل، والذكى والغبى، والكبير والصغير، والذكر والأنثى .