علاقات اللغة الأصولية باللغة القانونية

  فصول في "اللُّغة القانونية والأصولية "(الفصل 8)

بقلم/ الدكتور محمد عبد الكريم أحمد الحسيني – المحامي، وأستاذ القانون المساعد بكلية الشريعة والقانون – الجامعة الإسلامية

 

“اللُّغةُ الأصوليَّةُ” هي تلك اللغة الفنية المحْكَمةُ التي تعبِّرُ عن الأحكام الشرعية ومتعلقاتها، وهي تُنْسبُ إلى الأصول فيُقالُ لها: “اللغة الأصولية” وتنسب إلى الفقه فيُقال لها: “لغة الفقه” وإلى الأحكام فيقال لها:” لغة الأحكام”، وهي لغة متخصصة للأحكام بحسبانها أداة فهمهما وآلة تفسيرها، فتقوم على استخلاص الحكم الشرعي من نصوصه وعلى تعيين مقاصد الشارع فيه.

وهي أيضا تلك اللغة التي تعدُّ أصلا للغة القانونية في جانبها الدلالي، إذ قد استرفد القانونيون منها قواعدها وأدواتها وآلياتها في فهم نصوص القانون وفي تفسيرها وفي استخراج مقاصد الشارع منها، ولا تزال تقوم بأدوارها، وقد سبق تفصيلا في الفصلين الأول والثاني من هذه المقالات بيان أدوارها العظيمة في بناء اللغة القانونية رُفْقةَ بيان أدوار الأصوليِّين والقضاة الشرعيين في ذلك من مثل القضاة والمشايخ الأصوليين الكبار ( أحمد شاكر وعلى حسب الله وعبد الوهاب خلاف ومحمد أبو زهرة …) رحمة الله على الجميع .

قواعد هذا اللغة الأصولية يقال لها ” القواعد الأصولية ” أو القواعد الأصولية اللغوية ولعل هذا أدق وابين ، وهي تلك القواعد العامة أو الكلية كما حدها السيوطي في كتابه “الأشباه والنظائر” أو القواعد الفرعية، هذا بالإضافة إلى القواعد الأصولية اللغوية والقواعد الأصولية العقلية.

وأعتقد أنه من المُستفاضِ فيه ومن قريب المعلوم بالضرورة مكانة علم أصول الفقه في استمداد الأحكام وفي تفسيرها وتأويلها وفي تمييز محكمها من مفسرها ومن مجملها ومتشابهها. كما ويعدُّ أصول الفقه من أصول القانون الشرعي على سبيل الضرورة، وكذلك القانون الوضعي في عمومه وخصوصه، لأن قواعده في حقيقتها ما هي إلا قواعد شرعية منطقية لغوية جامعة تضبط الفهم والتفسير والتأويل وتقعِّد لآليات فهم النصوص القانونية وطرائق استنباط الأحكام منها.

ورب سائل يسأل:

علم أصول الفقه علم شرعي وعلم اللغة القانونية علم وضعي … فما العلاقة بينهما وكيف يمكن الجمع بينهما ؟

نقول: القانون الوضعي بصورته الحديثة خرج من رحم القانون الشرعي حيث حكم الأخيرُ في مصر على سبيل المثال لقرابة ألف ومائتين عاما، وبدأ الخروج شيئا فشيئا من المواد الجنائية على سبيل الخصوص، ثم من بعض مواد القانون المدني  بعيد محمد علي الكبير (منذ 1805 م) حتى استقل تماما بداية من سنة 1937م، وهو تاريخ انتهاء المحاكم الشرعية وقد استفضنا في ذكر ذلك في الفصول الأولى، ولا يزال هناك روابط وثيقة بينهما ووشائج قوية تجمعهما على الأقل في التقنين الوضعي للأحكام الشرعية في قوانين الأسرة والأحوال الشخصية، وكون أحكام الشريعة الإسلامية مصدرا من مصادر التشريع حسب نص الدستور الحالي  2014م في ماديته الثانية ، وكذلك الدساتير 1971م ، 2012م، فضلا عن الاتصال اللغوي والقاعدي العام بينهما في اللغتين الأصولية والقانونية.

ثنائيات اللغتين الأصولية والقانونية

تطالعنا بوفرة  ثنائيات متقاربة ما بين الأصول والقانون، فهناك :

1– “الأصوليون”  2-“القانونيون”.

                                      أو:  1- “الفقهاء الشرعيون”.  2- الفقهاء القانونيون”.

 وهناك :

1-“علم القانون.  2- علم الأصول”.

وهناك:

1- “لغة القانون الوضعي ”              2- “لغة القانون الشرعي” .

وهناك

1-“النظام القانوني وجهازه القضائي”          2- “النظام  الشرعي والجهاز القضائي الشرعي”.

وهناك:

1- “كليات الشريعة والقانون”.      2-“كليات الحقوق”.

وهناك :

1-“أقسام الشريعة والأصول”     2- أقسام القانون.

وهناك:

 1-“الوظائف الأصولية الشرعية ”    2-“الوظائف القانونية”.

إنها ثنائيات متقابلة وهي ليست بالضرورة متعارضة أو مترادفة، وإنما يجمعها أشياء تنظيمية وغائية وغيرها ويتمايز كل منها بخصائصه الموضوعية والبنائية .

ونرى أنه يمكن الجمع بينهما معا في عدة علوم ومعارف أبرزها فيما نرى هو “علم اللغة القانونية” وبالعموم “النظرية العامة للغة القانونية”  فاللغة القانونية الوضعية واللغة الأصولية يتفقان بل يكادان يتطابقان في الغاية وفي التأسيس وفي الاستمداد من مشكاة واحدة قوامها اللغة التراثية والمنطق والواقع الوظيفي، ومن أكثر جوانب التوافق بينهما هو الجانب الدلالي للغتين الأصولية والقانونية في تغيي الفهم والتفسير للأحكام بحسب مراد المشرع ومقاصده .

إضافة إلى تحقيق فاعلية الأحكام سواء الشرعية أو القانونية، مع التسليم بمبدأ أن أصول وقواعد البناء اللغوي والدلالي وخاصة الأخير منهما لا تتعلق بلغة معينة ولا بنص معين فهي أصول عقلية لغوية عامة، يمكن تطبيقها على أي لغة كانت واي  قانون كان، وعلى أي نص قانوني مطلقا؛ إذ محصلة اللغة والقانون واحدة بالنسبة لجل المجتمعات مع التسليم باختلاف المضامين والإجراءات وطبيعة العقوبات …إلى غير ذلك .

وهكذا يمكن الجمع بين اللغتين الأصولية والقانونية في معرفة واحدة أو نظرية واحدة أو لغة واحدة باسم “لغة الأصول والقانون» يمكن أن نسميها باسم: “علم لغة الأصول والقانون”  ومجازا وإيجازا باسم  “علم لغة الأصول « أو «علم لغة القانون « باعتبار أحدهما يتضمن معنى الاخر ويعبر عنه، وهو على الإجمال «علم لغوي شرعي قانوني معا “، يمكن تناوله هكذا بشقيه باعتبار ما بينهما من روابط في الأساس والموضوع والمنهج والغاية، ويمكن فصل كل قسم منهما بما لكل قسم من خصائص وسمات.

ولعل هذا أولى من الباب التعليمي، وباعتبار أنه ييسر في تطوير كل علم منهما على حدة، حيث العلم بناء جزئي يميل إلى التخصص لا في الموضوعات فحسب، بل في المسائل أيضا وهذه من سمات العلم المعاصر وهذا ما يتميز به العلم عن الفلسفة عموما إذ تميل هذه الأخيرة إلى التجميع ولملمة المتشاكلات من القضايا والمعطيات و الصهر بينها وبناء الأنساق العامة الكلية منها، إضافة إلى بدء الشوط من أوله دون بناء على تراكمات السابقين كما هو دأب العلم وخصائصه التي تتجلى في التراكمية والجزئية والاختبارية … !

أضف إلى ما سبق أن تناول كل علم منهما على حدة  يساعد في تطوير كل من علميهما، أما عن الجمع بينهما فهو جمع إجرائي (تدريسي تربوي) من باب الربط بين المعارف، وهو واقع في العلوم الشرعية القانونية في مرحلة الطلب، حيث يدرس المتعلمون الفقه مع الأصول مع تاريخ التشريع باسم « الفقه»، ويدرسون العقاب مع الإجرام في كليات الحقوق ثم يفصل بينهما في المراحل العليا من الدراسات سواء في مرحلة الليسانس وحتما في مراحل التخصص، وعليه يمكن تناول هذا العلم في كلا الإطارين ، وبجمع العلمين في علم واحد أو بفصلهما على حسب المناسب فيهما.

 

زر الذهاب إلى الأعلى