عصامية العقاد حتى السبعين !
من تراب الطريق (1138)
عصامية العقاد حتى السبعين !
نشر بجريدة المال الاثنين 12/7/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
يكفي الرجل أن يجاهد في بداية حياته ويعاني الشظف وصعوبة العيش ووعورة الطريق ليوصَف بأنه عصامى، وهى عصامية لم تصاحبه إلاّ في بداياته وفي سنوات التكوين.
ولا شك أن الأستاذ العقاد عصامى كبير جدًا بهذا المعنى، فقد قاتل فتىً أتى إلى القاهرة ليشق طريقه ولا يحمل سوى شهادة الابتدائية حيث لم تسمح ظروف أسرته بالإنفاق عليه بعد هذه المرحلة، ولكن الفتى أبى إلاَّ أن ينحت في الصخر وأن يقتطع من قوته ليشترى كتابًا ويقرأ، واضطرته ظروفه رغم تعلقه الشديد بمكتبته الوليدة في بداية الشباب، لأن يبيعها أكثر من مرة ليعيش، أو ليستطيع العودة لأسوان لدفن نفسه في حمامات الرمال في جوها بعد أن أعيته رئتاه، وما انفك هذا الفتى الأسمر يقاتل وحده، ويفت في الصخر، حتى جنى ما جناه من العلم والمعرفة وإتقان الإنجليزية، وآمن أن دوره في الحياة أن يكتب، وأن يكتب ما له قيمة تؤثر وتنفع وتبقى، فقطع مشوارًا ينبض كله بالعصامية والجدية، مع أنه لم يكن عبوسًا كما يتصور البعض على البعد، ولكنه كان جادًّا في العمل، بالغ الصرامة في جديته، ولفتتنى عصاميته واعتداده بذاته وبقيمته، وثراء ما يكتبه، فتعلقتُ به مثلاً أعلى، وكاتبًا أقبل عليه رغم صعوبة ملاحقته في فكره وفي تراكيبه اللغوية، فضلاً عن غزارة إنتاجه التي لم يطاوله فيها أحد، لا في كتبه التي زادت ودواوين شعره على المائة، ولا في مقالاته التي بالآلاف، والتي كانت تنشر تباعًا في أكثر من دورية لضيق أي دورية عن الاتساع منفردة لإنتاجه الغزير المتلاحق، وحرص رغم عصاميته واحتياجه، وانقطاعه للعمل بلا معين ولا سند، على مجانبة الثقافة، وعلى أن يتيح مؤلفاته بثمن زهيد، فاشترينا معظم مؤلفاته في أربعينيات وخمسينيات وستينيات القرن الماضى بقروش معدودة، فكان أغزر الكتاب كتابه لدار الهلال، ولمجلة الهلال الشهرية، وصاحب الرقم القياسى لمؤلفاته في سلسلة « كتاب الهلال »، وتعجب حين ترى نفائس كتبه وعبقرياته ودرره الإسلامية والفكرية والثمن على الغلاف خمسة أو ستة أو سبعة قروش، ولم يزد إلى عشرة قروش أو اثنى عشر قرشًا إلاَّ في الطبعات الممتازة أو الكتب الضخمة، كحقائق الإسلام وأباطيل خصومه.
كان ولا يزال منارة جيله كله، وأعلاهم قامةً، وأكبرهم إنتاجًا، ومع أن اسمه طار في الآفاق، وصارت مؤلفاته أكثر الكتب إقبالاً عليها وتوزيعًا لها، إلاَّ أن هذه الشخصية الفذة ظلت على عصاميتها حتى فارق الدنيا في مارس 1964 عن خمسة وسبعين عامًا.
والذي أردت أن أقوله إن العقاد ظل عصاميًّا حتى وفاته في الخامسة والسبعين، يقوم وحده بكل عمله بلا أي مساندة أو مساعدة من أحد، لا سكرتير ولا مدير أعمال ولا أمين مكتبة، فهو الذي ينزل بنفسه إلى المكتبات وأشهرها الأنجلو ليفتش بنفسه على أحدث الكتب الجديرة بأن يقرأها، وهو الذي يشترى لنفسه الورق والأحبار والأقلام، وهو الذي يكتب بيده ولا يملى على أحد ولا كاتب يكتب له، وإنما ترسل مخطوطاته بيده إلى الصحف ودور النشر، وهو الذي يراجع، ويصحح، ولا يستعين بمصحح كما درج كثيرون على ذلك، ولا يعينه أحد في تخريج أو مراجعة الأحاديث النبوية، أو ضبط الآيات القرآنية، أو مراجعة بروفات الكتب، فلم يكن صاحب منصب ولا وظيفة هامة تيسر له المعاونى، أو أستاذ في الجامعة يلتف حوله ويعاونه تلاميذه ومريدوه، ولا كان مديرًا لدار الكتب، ولا رئيسًا لمجلس الشيوخ أو النواب. وتستطيع أن ترى في ختام كتب الدكتور محمد حسين هيكل باشا شكرًا متعددًا يزجيه لمن خَرَّجَ الأحاديث، ولمن راجع النصوص، ولمن راجع البروفات حتى طبعة الإصدار، ولمن جمع له ما أراده من مواد يلزم جمعها لاكتمال موضوعه، والأمثلة على ذلك عديدة بين كبار مفكرى وأدباء وكتّاب جيله. ولكن العقاد حتى آخر يوم في عمره، ينهض بمفرده بكل هذه الأعمال.
إنه عصامى نادر، ظل عصاميًّا لآخر يوم في حياته حتى فارق الدنيا ولاقى ربه في الخامسة والسبعين.
لهذا وغيره أحببت العقاد، وكتبت عنه الخمس مجلدات التي أعتز بها، وأجده جديرًا بالمزيد، إن كان في العمر والجهد بقية.