عدم دستورية المادة 62 من قانون الخدمة المدنية

المستشار الدكتور / إسلام إحسان – نائب رئيس هيئة النيابة الإدارية

يتحقق القصور فى التنظيم التشريعى أو ما يسمى ” بالإغفال التشريعـى ” – الـذى يكون محلاً للرقابة من القضاء الدستورى – بأن يتناول المشرع أحد الموضوعـات التى يختص بها ، بالتنظيم ، لكن يأتى هذا التنظيم – سواء عن عمد أو إهمـال – غير مكتمل أو قاصراً عن أن يحيط بكافة جوانبه بما يؤدى إلى الإخلال بالضمانة الدستورية للحق محل التنظيم .

و حيث أن قضاء المحكمة الدستورية العليا أستقر على أن عدم إلتزام البرلمان فيما يصدر عنه من تنظيم تشريعي بالأحكام التى قررتها الوثيقة الدستورية يعد إغفال تشريعي يصم القانون بعدم الدستورية ، و يخضع فى ذلك لرقابة الدستورية التى تباشرها المحكمة الدستورية العليا على دستورية القوانين واللوائح إحتراماً لمبدأ سمو الدستور و علوه ، و من ذلك ما قضت به المحكمة الدستورية العليا في القضية رقم 131 لسنة 39 قضائية “دستورية” جلسة 6/4/2019  من   أنه ” وإن كان الدستور أوكل للمشرع بمقتضى نص الفقرة الثانية من المادة (6) تحديد شروط اكتساب الجنسية المصرية ، إلا أن ممارسة المشرع لسلطته التقديرية فى هذا المجال يحدها القيد العام الذى ضمنه الدستور نص المادة (92) والذى بمقتضاه لا يجوز لأى قانون ينظم ممارسة الحقوق والحريات أن يقيدها بما يمس أصلها وجوهرها، بما لازمه وجوب التزام التنظيم الذى يقره المشرع بالمبادئ الضابطة لسلطته فى هذا الشأن، والتى يُعد تحقيقها غاية كل تنظيم يسنه ، وفى المقدمة منها العدل والمساواة وتكافؤ الفرص، خاصة بين المرأة والرجل فى كافة الحقوق والحريات، والقضاء على كافة أشكال التمييز بينهما، فضلاً عن الحفاظ على تماسك الأسرة المصرية واستقرارها باعتبارها أساس المجتمع، والذى جعله الدستور بمقتضى نص المادة (10) التزامًا على الدولة، والتى يتصادم معها جميعًا حرمان الأولاد القصر للأم الأجنبية من اكتساب الجنسية المصرية بقوة القانون، تبعًا لاكتسابها هذه الجنسية، إسوة بالأب الأجنبى الذى قرر المشرع بالنص المحال حق أولاده القصر فى ذلك، وليضحى النص المطعون فيه وقد قصر هذا الحق على الأولاد القصر للأب الأجنبى دون الأم الأجنبية، متضمنًا تمييزًا تحكميًّا لا يستند إلى أسس موضوعية، ذلك أنه باعتباره الوسيلة التى اعتمدها المشرع لتنظيم موضوع اكتساب الأولاد القصر للأجانب المتجنسين بالجنسية المصرية لهذه الجنسية، يتناقض مع الأهداف التى رصدها الدستور، وأقام عليها بناء المجتمع، ليقع النص المطعون فيه – فى الإطار المشار إليه – مخالفًا لنصوص المواد (4، 9، 10، 11، 53) من الدستور، فوق كونه يُعد مجاوزة من المشرع لنطاق السلطة التقديرية المقررة له بمقتضى نص المادة (92) من الدستور، فى مجال تنظيم الحقوق والحريات، هذا فضلاً عن أن النص فى الفقرة الثانية من المادة (9) من اتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة الموقعة فى كوبنهاجن بتاريخ 30/7/1980، على أن “… 2- تمنح الدول الأطراف المرأة حقًا مساويًا لحق الرجل فيما يتعلق بجنسية أطفالهــا”، والتى تم التصديق عليها بتاريخ 15/8/1981، وعُمل بها اعتبارًا من 18/10/1981، ونُشرت فى الجريدة الرسمية بالعدد رقم 51 بتاريخ 17/12/1981، وصدر القرار الجمهـورى رقـم 249 لسنة 2007 بالموافقة على سحب التحفظ عليها، وعُمل به اعتبـارًا من 4/1/2008، ونُشر فى الجـريدة الرسمية العدد رقم 41 بتاريــخ 9/10/2008.

وحيث إن مؤدى ما تقدم، نشوء التزام على الدولة بتعديل قوانينها الداخلية بما يتفق وتعهداتها الدولية الناشئة عن الاتفاقية المشار إليها، وذلك إنفاذًا لمقتضى أحكام المادة (93) من الدستور، التى تنص على أن “تلتزم الدولة بالاتفاقيات والعهود والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان التى تُصدق عليها مصر، وتصبح لها قوة القانون بعد نشرها وفقًا للأوضاع المقررة”، وما نصت عليه الفقرة الأولى من المادة (151) على أن” يمثل رئيس الجمهورية الدولة فى علاقاتها الخارجية، ويبرم المعاهدات، ويصدق عليها بعد موافقة مجلس النواب، وتكون لها قوة القانون بعد نشرها وفقًا لأحكام الدستور…”، ليضحى تراخى المشرع فى تعديل النص المطعون فيه بإنفاذ مقتضى نص الاتفاقية المشار إليه، فى شأن أحقية الأولاد القصر للأم الأجنبية التى اكتسبت الجنسية المصرية فى اكتساب هذه الجنسية تبعًا لأمهم، وبقوة القانون، أسوة بالأب الأجنبى الذى يكتسب الجنسية المصرية، إخلالاً من المشرع بالتزامه الدستورى المتقدم، بما يوقعه فى حومة مخالفة أحكام الدستور، ولا يقيله من هذه المخالفة النص فى المادة (26) من القانون رقم 26 لسنة 1975 سالف الذكر على أن “يُعمل بأحكام المعاهدات والاتفاقيات الدولية الخاصة بالجنسية التى أبرمت بين مصر والدول الأجنبية، ولو خالفت أحكام هذا القانون”، ذلك أن إنفاذ مقتضى الاتفاقية المشار إليها يستوجب تضمين القانون ما يكفل هذا الحق للأولاد القصر للأم الأجنبية التى اكتسبت الجنسية المصرية، وهو ما خلا منه النص المطعون فيه، الأمر الذى يغدو معه هذا النص مصادمًا لأحكام الدستور على النحو المتقدم بيانه، مما يتعين معه القضاء بعدم دستوريته فى حدود النطاق المتقدم ، لذلك حكمت المحكمة بعدم دستورية نص الفقرة الثانية من المادة (6) من القانون رقم 26 لسنة 1975 بشأن الجنسية المصرية، فيما تضمنه من قصر الحق فى اكتساب الجنسية المصرية بالنسبة للأولاد القصر على حالة اكتساب الأب الأجنبى لهذه الجنسية، دون حالة اكتساب الأم الأجنبية لها  ” .

من الأحكام الهامة والصريحة فى رقابة الإغفال التشريعي النسبي كذلك حكـم المحكمة الدستورية العليا الصادر بجلسة 2/5/1999 فى القضية رقم 182لسنة 19 قضائية ” دستورية ” حيث قضت المحكمة بعدم دستورية المادة (13) من قانون حماية الآثار الصادر بالقانون رقم 117 لسنة 1983 فى مجال تطبيقها على الملكية الخاصة ، وذلك فيما لم تتضمنه من تعويض المالك عن اعتبار ملكه أثرًا.

و حيث أنه متى كان ذلك ، و كانت المادة 197 من الدستور الصادر عام 2014  تنص على أن ” النيابة الإدارية هيئة قضائية مستقلة، تتولى التحقيق فى المخالفات الإدارية والمالية، وكذا التى تحال إليها ويكون لها بالنسبة لهذه المخالفات السلطات المقررة لجهة الإدارة فى توقيع الجزاءات التأديبية، ويكون الطعن فى قراراتها أمام المحكمة التأديبية المختصة بمجلس الدولة ، كما تتولى تحريك ومباشرة الدعاوى والطعون التأديبية أمام محاكم مجلس الدولة، وذلك كله وفقا لما ينظمه القانون. ويحدد القانون اختصاصاتها الأخرى، ويكون لأعضائها كافة الضمانات والحقوق والواجبات المقررة لأعضاء السلطة القضائية. وينظم القانون مساءلتهم تأديبياً. ”

فإن مفاد نص المادة 197 من الدستور أن  النيابة الإدارية يكون لها بالنسبة للمخالفات التأديبية المحالة إليها السلطات المقررة لجهة الإدارة فى توقيع الجزاءات التأديبية ، ويكون الطعن فى قراراتها أمام المحكمة التأديبية المختصة بمجلس الدولة  ، وذلك كله وفقا لما ينظمه القانون ، و يعد ذلك تكليف دستورى للبرلمان بأن ينظم إختصاص النيابة الإدارية بتوقيع الجزاءات التأديبية على الموظفين العموميين فى المخالفات التأديبية المحالة إليها للتحقيق فيها .

و قد أصدر البرلمان قانون الخدمة المدنية رقم 81 لسنة 2016 و الذى تسري أحكامه على الوظائف في الوزارات والمصالح الحكومية  والهيئات والوحدات الحكومية ووحدات الحكم المحلى والهيئات العامة ، و قد نظم الإختصاص بتوقيع الجزاءات التأديبية بالمادة ( 62 ) التى نصت على أن ” يكون الاختصاص بالتصرف فى التحقيق على النحو الآتى:

1 –  للرؤساء المباشرين الذين تُحددهم السلطة المختصة، كل فى حدود اختصاصه، حفظ التحقيق أو توقيع جزاء الإنذار أو الخصم من الأجر, بما لا يجاوز عشرين يومًا فى السنة وبما لا يزيد على ثلاثة أيام فى المرة الواحدة.

2- لشاغلى الوظائف القيادية والإدارة الإشرافية كل فى حدود اختصاصه، حفظ التحقيق أو توقيع جزاء الإنذار أو الخصم من الأجر, بما لا يجاوز أربعين يومًا فى السنة ولا يزيد على خمسة عشر يومًا فى المرة الواحدة.

3 –  للسلطة المختصة حفظ التحقيق أو توقيع أى من الجزاءات المنصوص عليها فى البنود من (1) إلى (5) من الفقرة الأولى من مادة (60) من هذا القانون والبندين (1، 2) من الفقرة الثانية من ذات المادة.

4 – للمحكمة التأديبية المختصة توقيع أى من الجزاءات المنصوص عليها فى هذا القانون.

وتكون الجهة المنتدب أو المعار إليها الموظف هى المختصـة بالتحقيق معه وتأديبه طبقًا لأحكام هذا القانون عن المخالفات التى يرتكبها خلال فترة الندب أو الإعارة.”

ووجه عدم الدستورية فى المادة ( 62 ) من قانون الخدمة المدنية رقم 81 لسنة 2016 ،  فيما لم تتضمنه من إختصاص النيابة الإدارية بتوقيع الجزاءات التأديبية ، و نصاب تلك الجزاءات ، إعمالاً لحكم المادة 197 من الدستور ، إذ أن المشرع إقتصر فى المادة ( 62 ) على النص على إختصاص الرؤساء المختصين فى جهات الإدارة ، و إختصاص المحكمة التأديبية بتوقيع الجزاءات التأديبية و نصاب الجزاءات المقرر لكل منهما ، و أغفل حكم المادة 197 من الدستور التى قررت أن النيابة الإدارية تختص بإصدار قرارات الجزاءات التأديبية فى المخالفات المحالة إليها ،  و قد ترتب على ذلك الإغفال التشريعي النسبي مخالفة حكم المادة 197 من الدستور ، و تعطيل إختصاص دستورى مقرر للنيابة الإدارية ، مما أدى إلى قيام جهات الإدارة بإصدار قرارات الجزاء فى  كافة المخالفات التأديبية بما فى ذلك المحالة إلى النيابة الإدارية مما يعد غصب لسلطة النيابة الإدارية المكفولة لها دستورياً ، بما  تكون معه قرارات الجزاء الصادرة عن جهات الإدارة فى تلك الأحوال مشوبة بعيب عدم الإختصاص الجسيم بما ينحدر بها إلى مرتبة الإنعدام لصدورها من جهة غير مختصة .

و لا يغير من ذلك القول بأن المادة ( 224 ) من الدستور نصت على إستمرار سريان ذات القوانين الصادرة قبل الدستور إلى أن يتم تعديلها بما مؤداه إستمرار سريان حكم المادة ( 12 ) من القانون رقم 117 لسنة 1958 التى تنص على أن جهة الإدارة تصدر القرارات التأديبية فى المخالفات التى تنتهى النيابة الإدارية من التحقيق فيها و لا تقرر النيابة الإدارية إحالتها إلى المحكمة التأديبية ، إذ أن حكم المادة ( 224 ) من الدستور لا ينطبق على المادة ( 62 ) من القانون رقم 81 لسنة 2016 الذى صدر بعد صدور الدستور الحالى فى عام 2014 ، و الذى شابه إغفال تشريعي نسبي على الوجه المبين أنفاً .

و من ثم فإن السبيل لإعلاء حكم الدستور ، و تطبيق أحكامه ، يكون بالدفع أمام المحاكم التأديبية فى حال نظرها طعون الموظفين على قرارات جزاء أصدرتها جهات الإدارة فى مخالفات محالة إلى النيابة الإدارية إستناداً للمادة ( 62 ) من القانون رقم 81 لسنة 2016 بعدم الدستورية لما شاب هذه المادة من إغفال تشريعي نسبي و مخالفة حكم المادة 197 من الدستور بما يوصمها بعدم الدستورية .

 

زر الذهاب إلى الأعلى