عبد العزيز فهمي ومسألة تعدد الزوجات ! (14)
عبد العزيز فهمي ومسألة تعدد الزوجات ! (14)
نشر بجريدة الأهرام الاثنين 12/7/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
كان ظني ولا يزال، أن عبد العزيز باشا فهمي قامة فذة في تاريخ مصر، لم يلق حتى الآن ما يجب أن يلقاه من دراسة واهتمام، فهو فريد في بابه، بل في أبوابه، فقد تعددت أبواب هذا النابغة العملاق. وحسبك أن تبدأ قراءة عملٍ له، لتعرف أنه من المحال أن تتركه قبل أن تفرغ من الإلمام به كله.
أقول هذا، لأنه بالإضافة إلى ما أبداه تأييدًا ودعمًا لوجهة نظرة، أن تعدد الزوجات ليس الأصل في الإسلام، بل هو استثناء على أصل أُمِرَ فيه المسلم بأن يتزوج بواحدة، وأن العدل مع التعدد محال حتى مع الحرص عليه، ولكنه أبى قبل أن يختم حديثة إلاَّ أن يدفع الاعتراض الذي أبداه من تعرض لحديثه الأول بالنقد، آخذًا عليه أنه في اشارته لسورة النساء، ذكر جزءًا من الآية فقط، هو قوله تعالى: « وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ »، وترك باقى الآية: « فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ » ( النساء 129)، وأن ما لم يذكره هو موطن الحكم، مثل من يقول: « فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ » ثم يسكت.
ويدفع الأستاذ عبد العزيز باشا فهمى هذا الاعتراض بإبداء أن كل ما يقال من المعترض: « لا حق فيه »، وأن المعترض نفسه يعلم أنه لا جدّ فيه، ولكن يبدو أنه يريد الاعتماد على الأدلة الخطابية التي لا تجدى فيما نحن فيه. لن يرجع مثله للعبارات الاصطلاحية التي يراها ثقيلة. بل يكفي أن يقول إن هناك طريقة عملية بسيطة تبين فساد التشبيه هى أن تذكر العبارة القرآنية أو غيرها مجردة، وأن ننتظر هل يقال لك: (هذا صحيح)، أو يقال: (هذا كذب). فكل عبارة يقول لك سامعها: (هذا كذب) تعرف بلا رجوع إلى الاصطلاحات العلمية انها عبارة لا تستقل بذاتها، ولا يجوز فصلها عما يتممها. فإذا قلت: « لا تقربوا الصلاة » فقط أو « ويل للمصلين » فقط قيل لك (هذا كذب)، فتعلم من هذا أن عدم تتمة الكلام خطأ فاحش. أما كل عبارة لا تسمع أحدًا بعدها إلاَّ قائلاً: (هذا صحيح) مثل قوله تعالى: « وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ » فإنها تكون عبارة مفيدة معنى تامًا صحيحًا كل الصحة، ويكون لك أن تقتصر على ايرادها وأن تستنتج منها أو تفرع عليها ما شاء الله أن تستنتج أو تفرع مما لا يمنعك منه مانع شرعى أو عقلى. وكل هذا معروف طبعًا وترديده لمجرد التذكير.
إن آية أول السورة بعد أن وسعت في الزواج ذلك التوسيع التقريعى الجزاف الذي لا تحديد فيه قالت: « فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ »، وآية آخر السورة تقول « وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ »، ولفظ (العدل) وارد في الآيتين بحروفه، فلا يمكن أن يكون معناه فيهما إلا واحدًا على حقيقته الشاملة للماديات ثم المعنويات العاطفية جميعًا. ولقد فهم أن الآيتين متكاملتان وأن اولاهما إذا كانت أوجبت على من يخاف عدم العدل بين زوجاته أن يقتصر على واحدة، فإن الثانية إذ قررت أن هذا العدل غير مستطاع مهما حرص الإنسان عليه، فقد أكدت بهذا أن الخوف حقيقة واقعة لا محالة، فكان تأكيدها هذا أدعى إلى الاقتصار على واحدة وأوجب له وجوبًا لا انفكاك منه. وهو قد فهم هذا وقرره وأبدى أنه من دعاته المؤمنين به. فقال حضرة المعترض: انه يحتج بالجملة التابعة للآية الثانية وهى: « فَلَا تَمِيلُواْ كُلَّ ٱلْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَٱلْمُعَلَّقَةِ… » وأن القرآن أباح التعدد إلى الأربع، وأنه لو كان أراد تحريم تعدد الزوجات حقيقة لسهل جدًا ان يعمد إلى النص على هذا راسًا في عبارة موجزة تقتصر على بيان تحريم التعدد وحكمة التحريم بما في التعدد من جور… »
فمؤدى احتجاج حضرة الأستاذ أن الأصل القرآنى هو أن التعدد مباح دائمًا بلا شرط ولا قيد ولكن إلى الأربع فقط، وأن عبارة « فَلَا تَمِيلُواْ كُلَّ ٱلْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَٱلْمُعَلَّقَةِ » وردت لتنظيم السير عند الأخذ بهذه الاباحة المطلقة الدائمة إلى الأربع.
ولو صح هذا الفهم لتعارضت هذه العبارة على الدوام والاستمرار تعارضًا شديدًا مع عبارة « فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً » ولاضطراب قلب المسلم وفهمه كيف أن الله تعالى يأمره عند مجرد خوفه من عدم العدل بين الزوجات أن يقتصر على واحدة، وكيف أنه مع حكمه في قوله: « وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ » بأن هذا العدل غير ممكن مهما حرص الرجل على تحقيقه ــ إذ يستحيل مع هذا الحكم القاضى بتحقق الخوف حتمًا بصفة دائمة والمقتضى عقلاً وجوب اقتصاره على واحدة ــ يستحيل أن يسقط. عز وجل. عمل هذا المقتضى ويجعل الرجل حرًا في تعديد الزوجات، بقالة إن كل ما يطلبه إليه هو العدل بينهن ما استطاع ؟ عند ذلك لابد أن يضطرب قلب المسلم هل بعبارة « فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ » نسخ الله تعالى أمره الأول وهو الاقتصار على واحدة مخافة عدم العدل. نسخه الله سبحانه نسخًا أبديًا ؟ أم أنه له منها مرادًا آخر ؟ وماذا يفعل من يريد السير على مقتضى شريعة الله القائمة. إن احتجاج الأستاذ المعترض لا يستقيم إلاَّ إذا كان هذا النص الذي
يحتج به قد نسخ النص القرآنى الأول نسخًا أبديًّا فأصبح لا معول عليه، وأصبح النص الثانى: « فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ » هو النص الأبدى المعول عليه. وما من أحدٍ يجرؤ أن يقول بهذا النسخ ! وللحديث بقية.