عالم الذات !

عالم الذات !

نشر بجريدة أخبار اليوم السبت 3/10/2020                             

بقلم: أ. رجائي عطية نقيب المحامين

في حياتنا الواعية العادية ـ يشعر كل منا وباستمرار ـ بذاته كذات فاعلة مالكة متصرفة مريدة مختارة . وهذا هو طابع عالم اليقظة لكل منا .. هذا العالم الذى يتميز عن النوم وعن الأحلام التي نراها في المنام .. يتميز بالشعور المستمر بالوعى المريد المختار المتصرف المالك الذى يُبنى ويرتكز عليه كل ما نسميه بالواقع .

فعالمنا الواقعي هو عالم الذات فيه هي أهم شيء في عين نفسها ، لأن كل شيء آخر خلافها هو بالنسبة لها موضوع لنشاط وعيها المريد المختار المتصرف المالك ـ مباشرة أو بطريق غير مباشر .

وكما نقول إن الأمة مصدر السلطات ، فإن هذا أكثر واقعية وتعبيرا عن الحقيقة في عالم الذات .. ففي هذا العالم ـ الذات هي فعلا مصدر السلطات ومقر السيادة .. تضرب عملة تعاملها باسمها وتحسب كافة المكاسب والخسائر لها وعليها .. ويمسك الوعى بحساب ذلك كله ابتداء وافتتاحا وانتهاء وإغلاقًا .. فوعى الذات هو المحاسِب والمحاسَب .. تقيده الذات إن قيدته لنفسها دائنة ، ومدينة إزاء نفسها !

هذه المحاسبة أيا كان أمدها أو موضوعها أو نتيجتها ـ تحمل دائمًا شيئًا هامًا بل بالغ الأهمية .. هو ابتعاد الوعى والعقل ابتعادًا واضحًا عن طائلة الذات المالكة المتصرفة المريدة المختارة ووقوف الوعى منها موقف المتأمل المراجع الآمر ، ووقوفها هى منه موقف الموضوع الذى هو محل لفعل يقع عليه ويؤثر فيه وينفعل به .. لا موقف الفاعل الذى اعتادت الذات أن تقصيه !

هذه المحاسبة أيا كان أمدها أو موضوعها أو نتيجتها ـ فإنها تفتح وستظل تفتح دائما ثغرات فى أسوار عالم الذات أو سلطان الذات .. منها نفذ وسيظل ينفذ وعى الإنسان وعقل الإنسان إلى خارج دولة الذات وعالمها إلى عالم اللا ذات .

ونحن نحب إطراء أنفسنا لأننا نحب أن نعيش . ونعجب بعملنا إعجابـًا شديدًا إذا ظننا أننا أحسناه أو أتقناه  ـ وهو ظن قد يكـون خاليًا مـن الأساس ، لا يستند إلى دراسة أو مقارنة موضوعية جدية .. كم منا هام إعجابًا وتيها بنفسه ، لأى عمل أجراه ، أو مقال دبجـه ، أو لوحة رسمها ، أو معزوفة لحنها ، أو خطبة عصماء ألقاها ، أو حديقة زرعها وشذبها ونسقها ، وقد يمتد التيه بالذات وبإنتاجها وأعمالها إلى السفاسف والتفاهات !! يتجاهل المعجبانى التائه بذاته وما يصنع ، أعمال ألوف المحترفين والموهوبين ، ويفترض أن من حقه أن يعجب بنفسه وعمله هذا الإعجاب المرضى لأنه تجاوز فى تقديره لنفسه معايير الآدميين العاديين .. وهذا خيال ووهم يصوره كل منا لنفسـه ـ علـى هواه !! .. لا يلتزم فيما يضفيه على نفسه من أمجاد ـ بما هو مقرر فى معايير وأصـول وأعـراف أهــل العلوم والفنون والآداب والصناعات الذين يمارسـون هـذه الأنشطة علـى الـدوام أو علـى وجـه الاحتراف ، فيتقيدون بمستوى لا ينزلون عنه من الخبرة والمعرفة والمهارة !

ويبدو أن الآدمى لا يشبع من مرضاة نفسه .. فهذه المرضاة وقود حياته .. يتخلل حرصه عليها  جميع صلاته وواجباته ومساعيه ودواعيه .. وهو لا يترك ذلك  أبدًا مهما اجتهد فى مقاومته أو ستره ، وكثيرًا ما يحاول كبح جماحه والبعد عن الغلـو والمبالغـة بما يؤديان إليه من إفساد العشرة أو العشيرة ، وذلك بمحاولـة الالتفات المعقول لمرضاة الآخرين ، وهم شركاؤه فى الحياة ، واحترام ما تواضعوا عليه من العدل والبر المعروف فى وسطهم وظروفهم وزمانهم .

ويبدو أن التجرد التام من مرضاة الذات ، شميلة بعيدة لم تتحقق لمعظم الناس !

والنفاذ من أسوار عالم الذات ليس مشكلة فى ذاته ، وإنما المشكلة الحقيقية هى صعوبة بقاء الحياة الآدمية بقيمها وصورها المعتادة خارج عالم الذات ، أو بعبارة أخرى أن المشكلة هى قدرة الإنسان على البقاء حياً قويا عاملاً سعيد فى عالم اللا ذات ، مع ما يستلزمه البقاء فى ذلك العالم الذى يختلف اختلافا بينا عن العالم الذى نعرفه ـ من تكيف شامل وتغيير كلى فى القيم والعادات العاطفية والفكرية والاجتماعية .

الذين استطاعوا الخروج من عالم الذات ، هم فقط الرسل والأنبياء والقديسون وأفذاذ وقمم العلم والفن الخالصة المخلصة .. لن تصبح هذه القمم الرفيعة النادرة أنماطا شعبية فى أى مستقبل معقول . عسير إن لم يكن محالا أن تحاكيها من جهة قدرتها على الحياة خارج عالم الذات ـ أنماط شعبية يمكن أن تقع عليها العين فى أى مكان يغشاه آدميون .

زر الذهاب إلى الأعلى