عالم الإنسان، في رحاب الكون! (3)
من تراب الطريق (1021)
عالم الإنسان، في رحاب الكون! (3)
نشر بجريدة المال الاثنين 18/1/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
في مستهل كتاب: الإنسان العاقل وزاده الخيال، قلت إن الإنسان كائن عاقل، بوصلته عقله، وزاده الخيال.. فلم يتميز الآدمي بالعقل وحده عن سائر الكائنات، وإنما تميز بالخيال، زاد ومدد العقل الذي به يحلق في المكان والزمان.. ينقله في المكان بغير سفر. ويستحضر به الماضي ويتصور الغيب ويستشرف المستقبل دون أن يفارق اللحظة.. في خيال الآدمي ـ مع عقله ـ سر قدرته على الفكر والإبداع.. إن خواطرنا وأفكارنا تتلاحق في وعينا بلا انقطاع، يتزاوج في صنعها العقل والخيال. فالخيال قطعة من وعى الآدمي لا تفارقه إلى أن يرحل.
حماقة كبرى أن يستهين أي آدمي عاقل بوجود الخيال ودوره الأساسي في حياة كل منا، فأوقات الآدميين ليست إلاّ ميادين اصطلاحية لخيالهم بالنسبة لحياتهم، يقيسون بها حركات الزمان في المكان كما تصوروها.
إن فضائل الإنسان العظيمة، كلها نبت لخيال الآدمي.. لولاه ما عرفها البشر.. ولولا هذا الخيال الذي جذب أفذاذًا فركبوا الصعب وكرسوا العمر وثابروا وقاوموا وصبروا، ما عرف تاريخ البشر قيمة ومكانة وجدوى وكرامة الإخلاص والصدق والاستقامة والشجاعة والمثابرة والبطولة والوفاء والتضحية والإيمان. فالآدمي مركب بالغ الدقة والإحكام والإتقان.. من حصاد هذه “المزاوجة” والعلاقة الحميمة بين “البوصلة” و”الزاد” كتبت هذه الصفحات، مشدودًا معلقًا فيها بالمعنى الكلى، واجب الوجود، وبالحياة والإنسان .
وخيالنا يشغل في وعينا منطقة حرة من القيود التي تتقيد بها منطقة الواقع.. فمنطقة الخيال لا تتقيد بالزمان والمكان على أي وجه لا أصالةً وعموماً ولا فروعاً وتفصيـلات.. ولا تبالـى بالفوارق بين الممكن والمستحيل والحىّ والميت والوجود والعدم والصدق والكذب وما نسميه بالحـق أو البـاطل. ومن ثم كان خيالنا سوقا مفتوحة المنافذ والأبواب لعواطفنا، لا تفارقها الرغبات والأهواء والمطامع، كما لا تفارقها الهموم والمخاوف والمخاطر.. وهذه وتلك على درجات تتفاوت باختلاف طبائع الأفراد وعاداتهم وبيئاتهم.
ولم ينقطع قط بين البشر وجود من يحاول تحويل ما في خياله إلى واقع مهما كلفه ذلك من جهود ومعاناة.. والخائبون في هذا السعي الذي لا يكف عنه البشر لا عداد لهم.. وفيهم من يموت في المحاولة أو يصير عاجزا بسببها إلى أن يموت، ولكن ما بين يدي البشر من الاستكشافات والاختراعات وتطويرها إلى الحد الذي وصلت إليه حتى الآن ـ هو في الغالب نتيجة إصرار وبجهد أفراد من هذه الفئة التي تصر وتدأب على تحويل الخيال والتمني إلى واقع.. معظمهم غير معروف، وبعضهم قد يذكر التاريخ أو المؤلفات أسماءهم، وتسمى بأسمائهم، النواميس والمقاييس والمعادلات والنظريات وأحيانا الأنهار والجزر والخلجان حتى القارات..
والاستكشاف هو معرفة البشر عمومًا لشيء أو قوة أو طاقة أو علاقة أو ارتباط أو ناموس عام لم يعرفه البشر أو يتقرر لديهم من قبل، وإن كان موجودا أو يعتقد البشر وجوده منذ وجود العالم الخارجي.. فالاستكشاف هو معرفة واتضاح قدرة الآدميين على الاستفادة من هذا الكشف في توسيع آفاق حياتهم وقدراتها. أما الاختراع فهو دائما أمر بشرى صرف لا وجود له إلا بسبب وجود الآدمي وعقل الآدمي ولخدمة غرض أو أكثر من أغراض الآدميين.. نفعيا كان أو مثاليا.. به يتم للآدمي ابتداع أشياء من تخيله لم تكن موجودة.. لأنها أشياء كانت موجودة في الطبيعة على صورة أو صور مغايرة.. فجميع الأدوات والوسائل والأجهزة التي يستعملها الآدمي بدائيا كان أو متمدينا على اختلاف أشكالها وحظها من البساطة والتعقيد في حياته بدايةً ونهايةً ونومًا ويقظةً وجدًا ولعبًا وسلمًا وحربًا منفردًا ومجتمعًا.. هذه الأدوات والوسائل والأجهزة مخترعات بشرية لا يمكن أن تخدم للنفع أو الضرر إلا آدميين.. ولا يبقى لها بعدهم إذا انقرضوا أي معنى أو نفع!