طالع.. دراسة تفصيلية حول حقوق الإنسان في القانون الدولي
دراسة
أصبح موضوع حقوق الإنسان من الأمور الرئيسية التي ينظمها القانون الدولي و يوفر لها الحماية اللازمة ، بعدما كانت من الامور التي تدخل ضمن الاختصاص المانع للدولة و سيادتها بموجب مبادئ القانون الدولي التقليدي ، وغدت الانتهاكات الخطيرة لحقوق الانسان من الأمور التي يوفر لها القانون الدولي المعاصر حماية جنائية دولية و ذلك بالالتزامات التي يفرضها على الفرد و الدولة على حد السوا.
و تعد الجريمة الدولية جناية خطيرة Infamous Crime تهز الأمن والسلم الدوليين ولا تنحصر أثارها على إقليم الدولة فقط و إنما تمتد أثارها إلى المجتمع الدولي أيضا وتطبق عقوبتها باسم الجماعة الدولية ويمكن تعريفها على أنها (( واقعة إجرامية تخالف قواعد القانون الدولي سواء أكان الفعل الذي يشكل جريمة في صورة فعل, جريمة بفعل إيجابي , أم امتناع عن فعل وهي الجريمة سلبية((
و تقسيمات الجرائم الدولية كثيرة و متعددة لذلك ارتأيت ان أتناول نوعا من أنواع الجرائم الدولية و الذي أصبح له أهمية كبيرة من ناحية ، و واقع تطبيقي مستفحل من ناحية أخرى ، و هي جريمة الابادة الجماعية .
فما هو مفهوم هذه الجريمة ؟ و أركانها ؟ و ما هو واقع تطبيقاتها من خلال الاتفاقيات الدولية ؟
وسنعالج هذه الإشكاليات من خلال الخطة التالية :
المبحث الأول
مفهوم جريمة الابادة الجماعية
وسنعالج في هذا المبحث المفهوم الفقهي للجريمة الدولية بالنظر الى طبيعتها و أيضا نرى المفهوم الذي جاءت به الاتفاقيات الدولية .
المطلب الأول
المفهوم الفقهي و طبيعة جريمة الابادة الجماعية
تهدف جريمة ابادة الجنس البشري Genocide الى قتل الجماعات او المجموعة البشرية بوسائل مختلفة وتعتبر من الأعمال الخطيرة التي تهدد أمن وسلامة المجتمع لأنها تؤدي الى ابادة أو اضطهاد كائنات إنسانية كليا او جزئيا بسبب طبيعتهم الوطنية او العرقية او السلالية او الدينية , وهي ترتكب بصورة عمدية ولا تنحصر آثارها على الوضع الداخلي للدولة التي تقع في نطاق حدودها الإقليمية و إنما تمتد حتى الى الأسرة الدولية بسبب أثارها الشاملة . وهي ليست من الجرائم السياسية و انما تعد من الجرائم العمدية العادية حتى وان ارتكبت بباعث سياسي .
و يعود التطور التاريخي لهذه الجريمة الى العصر البابلي وجرى ارتكابها أثناء الحرب العالمية الأولى حين استعمل الألمان الغازات السامة في فرنسا وكذلك في أثناء الحرب العالمية الثانية منذ عام 1939-1945 وما بعدها ضد الشعب الفلسطيني و الشعب الجزائري .
ولم تعد قضية حقوق الإنسان و الانتهاكات البليغة التي ترتكبها الأنظمة الدكتاتورية مسألة داخلية لا يمكن للأسرة الدولية أن تتدخل لوقف قمع السكان المدنيين أو أن يبقى المجتمع الدولي متفرجا من قضية التطهير العرقي أو الجرائم الدولية الخطيرة التي يرتكبها بعض الحكام الظالمين في أي بقعة من الأرض , وإنما أضحت مسالة احترام حقوق البشر قضية تهم المجتمع الدولي ولا تنحصر بشؤون الدولة الداخلية ولا تتعلق بالأمن الوطني فقط أو تخرق مبدأ التدخل في الشؤون الداخلية للدول التي تنتهك هذه الحقوق , لان هذه الانتهاكات صارت مصدرا للقلق والنزاعات وعدم الاستقرار للمجتمع الدولي. و أضحت هذه الجرائم سببا خطيرا للنزاعات والحروب مما يؤثر استمرارها على الأمن والسلم الدوليين خصوصا إذا جاءت هذه الانتهاكات ضمن ممارسات إرهاب الدولة .
و قد وصف الفقيه “غرافن” الابادة الجماعية على أنها أهم الجرائم التي ترتكب ضد الإنسانية ، ففي
هذه الجريمة تتجسد فكرة الجريمة ضد الإنسانية بأجلى معانيها (1) ، حيث يقدم القتلة و السفاحون على ابادة جماعة ما ( ابادة كلية او جزئية ) و قهرها بلا ذنب اقترفته سوى انها تنتسب الى جماعة قومية او جنس او دين يخالف قومية او جنس او دين القتلة .
و يرجع الفقهاء الفضل الى الفقيه البولوني” لمكين” الذي نبه الى هذه الأعمال و دعا منذ عام 1933 الى تجريمها و أعطاها تسميتها جريمة ابادة الأجناس genocide (2) .
المطلب الثاني
المفهوم الاتفاقي لجريمة الابادة الجماعية
جاءت لائحة نورنبورغ لعام 1945 التي حددت هذه الأعمال كجريمة دولية فعبرت بذلك على استنكار العالم المتمدن لهذا الانحدار الأخلاقي الشديد الذي انزلق اليه القتلة .
قد جاءت المادة 6 فقرة ج من ميثاق نورنبورغ بقواعد جديدة عندما نصت على ان الجرائم ضد الإنسانية و التي تثير المسؤولية الفردية هي ” القتل ، الابادة ، الاستبعاد ، الترحيل ،و الأعمال غير الإنسانية التي ترتكب ضد أي من السكان المدنيين ، قبل او بعد الحرب ، او الاضطهاد لأسباب سياسية ، عنصرية او دينية … تقع بارتباطها مع أي جريمة تدخل في نطاق اختصاص المحكمة ، بغض النظر عن كونها تشكل او لا تشكل خرقا لقانون الدولة التي ارتكبت في ظله هذه الجرائم “.
يشير النص المتقدم الى النقاط التالية :
– ارتكاب الفعل قبل او بعد الحرب .
– ضد أي فئة من السكان المدنيين .
– بغض النظر انها تشكل او لا تشكل خرقا لقانون الدولة الذي ارتكبت في ظله الجرائم .
فبالنسبة للنقطة الأولى يفيد النص ان القانون الدولي يرتب المسؤولية الجنائية الفردية في زمن السلم و الحرب على حد السواء . اما بالنسبة للنقطة الثانية ، فتعني ان السكان المدنيين في حمى القانون الجنائي دون ان يكون ستار سيادة الدولة عائقا دون ذلك ، فالمسؤولية الجنائية الشخصية لسلطات الدولة تثار سواء ارتكبت تلك الجرائم ضد مواطنيها ام ضد الأجانب . وتفيد النقطة الثالثة علوية القانون
1- اتجه الفقيه “جرافن” الى اعتبار هذه الجريمة داخلة ضمن الجرائم ضد الإنسانية . هذا عكس ما نجده في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية التي فرقت بينهما .
2- مصطلح genocide لفظ مركب يتألف من التعبير اليوناني )genos (و يعني عنصر race امة nation . قبيلة (tribe و التعبير اللاتيني cide الذي يعني القتل .
الدولي على القانون الداخلي ، وتفيد ان الجماعة الدولية لها حق التدخل في أمور كانت سابقة تعد من صميم الاختصاص الداخلي للدولة و سيادتها .
الدولي الاول
وبالتالي أصبحت المبادئ التي جاء بها ميثاق نورنبورغ بخصوص الجرائم ضد الإنسانية من المبادئ العامة للقانون الدولي .(1)
وقد كان موضوع الابادة الجماعية احد أهم المواضيع التي عالجته الأمم المتحدة بعد قيامها مؤكدة نبذ هذه الأعمال في قرارها الصادر في 11 ديسمبر 1946 رقم 96 الذي تبنته الجمعية العامة بصيغة التأكيد على ان جريمة ابادة الجنس هي جريمة طبقا للقانون الدولي و يعاقب مرتكبوها سواء كانوا فاعلين أصليين ام شركاء و بصرف النظر عن كونهم موظفين عموميين او أفراد عاديين .
بعد ذلك طلبت الأمم المتحدة من المجلس الاقتصادي و الاجتماعي إعداد مشروع اتفاقية خاصة بتجريم ابادة الجنس البشري لغرض عرضها في الدورة الثانية للجمعية ، وبعد ان اعد مشروع الاتفاقية من قبل لجنة خاصة شكلها المجلس المذكور ، قرر المجلس إحالة المشروع في 26 أوت 1948 على الجمعية العامة في دورتها الثالثة . وقد قررت الجمعية العامة بتاريخ 9 ديسمبر الموافقة على مشروع الاتفاقية و دعت الدول الى التوقيع و الانضمام إليها ، حيث وضعت موضع التنفيذ في 12 ديسمبر 1951 بعد ان صادقت عليها 20 دولة .
وقد جاء في نص المادة الأولى من هذه الاتفاقية على ان الأطراف المتعاقدة تؤكد بان الابادة سواء ارتكبت في زمن السلم او في زمن الحرب تعد جريمة طبقا للقانون الدولي .
كما جاء في نص المادة الثانية ان :
” في هذه الاتفاقية، تعني الإبادة الجماعية أيا من الأفعال التالية، المرتكبة علي قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة
قومية أو أثنية أو عنصرية أو دينية، بصفتها هذه:
(أ) قتل أعضاء من الجماعة.
(ب) إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة.
(ج) إخضاع الجماعة، عمدا، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليا أو جزئيا.
(د) فرض تدابير تستهدف الحول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة.
(هـ) نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلي جماعة أخري.”
1- عباس هاشم السعدي ، مسؤولية الفرد الجنائية عن الجريمة الدولية ، مصر ، الإسكندرية ، دار المطبوعات الجامعية ، 2002 ، ص 94 .
هذا و لا يذهب الفقه بعيدا عن هذا التحديد الرسمي الصادر عن الأمم المتحدة لهذه الجريمة ، فقد قيل ان جريمة الابادة هي القتل الجماعي المرتكب عن سبق الإصرار من قبل بعض الجماعات المسيطرة على سدة الحكم ، الموجه ضد جماعة مستهدفة لسبب ما ، و جاء في تعريف آخر بان جريمة الابادة تعني التهديد المنظم لكيان جماعة ما بريئة من قبل الجهاز البيروقراطي في دولة ما .
و قد جاء نص المادة 3 من نفس الاتفاقية على ذكر المبادئ العامة للقانون الجنائي التي أقرتها مختلف النظم القانونية في العالم ، وذلك حين اعتبرت التآمر على ارتكاب ابادة الجنس و التحريض المباشر و العلني على ارتكابها و الشروع في الجريمة المذكورة و الاشتراك في ارتكابها جرائم معاقب عليها .
كما أكدت المادة 4 على المبادئ التي جاءت بها اتفاقية لندن ، حين أشارت الى ان الشخص الذي يرتكب أفعال الابادة او الواردة في المادة 4 يعاقب عن عمله بصرف النظر عن عن صفته سواء كان من الحكام المسئولين دستوريا ام من الموظفين العموميين او فرد عادي
وقد ذكرت المادة 6 الاختصاص الأصيل للمحاكم الوطنية و التكامل الذي بينها و بين المحاكم الدولية في قولها
” يحاكم الأشخاص المتهمون بارتكاب الإبادة الجماعية أو أي من الأفعال الأخرى المذكورة في المادة الثالثة أمام محكمة مختصة من محاكم الدولة التي ارتكب الفعل علي أرضها، أو أمام محكمة جزائية دولية تكون ذات اختصاص إزاء من يكون من الأطراف المتعاقدة قد اعترف بولايتها ” .
و قد أصبحت المبادئ التي جاءت بها اتفاقية الابادة الجماعية من مبادئ القانون الوضعي الملزمة لكافة الدول بغض النظر عن الرابطة الاتفاقية التي تجد أساسها في الاتفاقية ، وهذا ما أشار إليه مندوب الولايات المتحدة الأمريكية لدى اللجنة الثالثة التابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة في 13 ديسمبر 1967 ، بقوله ” غالبا ما يعترف القانون الدولي بان ابادة الأجناس ، القتل ، الابادة ، الاستبعاد و التهجير تشكل في ظروف معينة جرائم ضد الإنسانية ، بصرف النظر عن طبيعة النظام السياسي الذي ترتكب في ظله تلك الأفعال ” (1) .
كما أشارت الى ذلك محكمة العدل الدولية في أكثر من قضية مثال في قضية التحفظات التي أبديت على اتفاقية ابادة الأجناس سنة 1950 . ايضا في قضية Barcelona traction سنة 1970(2) .
1- عباس هاشم السعدي ، المرجع السابق ، ص 96 .
2- قضية light and power co . limited .
المبحث الثاني
اركان جريمة الابادة الجماعية
قلنا سابقا ان أركان الجريمة الدولية هي : الركن المادي الذي يقصد به الأفعال او الامتناع عن الأفعال التي تشكل جريمة دولية . و هناك الركن المعنوي الذي هو أن الجريمة الدولية ترتكب عمدا ( قصد جنائي ) وهو ما يدل على خطورة الجريمة الدولية التي تهز أركان المجتمع الدولي في أمنه وتهدد السلم العالمي . و هناك الركن الدولي .
المـطلـب الاول
الركن المادي
تعددت المظاهر المادية لهذه الجريمة ، و بالتالي حسب المادة 2 من اتفاقية منع جريمة الابادة الجماعية حددت ان أعمال الابادة هي :
– قتل اعضاء من الجماعة :
و يقصد بها أعمال القتل التي يذهب ضحيتها مجموعة من أعضاء الجماعة ، الأمر الذي ينبئ عن وقوع و لو جزئية للجماعة . فالقتل مزجه للقضاء على الجماعة و على ذلك فان الابادة الجماعية لا يشترط لقيامها عدد معين من القتلى ، كما لا يشترط في القتلى ان يكونوا كبار او صغار ، رجالا او نساء …
ويستعمل في قتل الجماعات الغازات السامة او الإعدام او الدفن وهو أحياء او القصف بالطائرات او الصواريخ او باي وسيلة أخرى تزهق الروح .
– إلحاق أذى جسدي او روحي خطير بأعضاء من الجماعة :
تشمل الابادة أيضا الاعتداءات الجسيمة التي تقع على الجماعة فتصيب أعضائها في سلامتهم الجسمية او العقلية .
و قد يتحقق ذلك بممارسة بعض أنواع القهر المادي او المعنوي المباشر على الجماعة ، كالضرب و التشويه ، التعذيب و الحجز ، ونشر الأوبئة او إجبارهم على القيام بأعمال معينة او بإعطائهم بعض المواد ، او تعريضهم الى مواقف قاسية و مرعبة . فالابادة هنا تعني كل عمل يفقد الجماعة هويتها او يشوه شخصيتها بحيث تصبح غير قادرة على الاستمرار الطبيعي في الحياة .(1)
1- عبد الله سليمان سليمان ، المقدمات الأساسية في القانون الدولي الجنائي ، الجزائر ، ديوان المطبوعات الجامعية ، 1992 ، ص 289.
– اخضاع الجماعة لظروف معيشية قاسية يراد منها تدميرها المادي كليا او جزئيا :
و ذلك بهدف منع الجماعة من الاستمرار الطبيعي في الحياة . ويحدث ذلك بحصر الجماعة و اجبارهم
على العيش في بيئة معينة او في ظل ظروف مناخية محددة او إجبارهم على العيش في منطقة مجدبة و بالتالي تعريض الجماعة للموت البطيء .
– التدابير التي ترمي الى إعاقة النسل داخل الجماعة او الابادة البيولوجية :
اذا ما خضعت تلك الجماعة لوسيلة من الوسائل التي تجعلها غير قادرة على النمو و التزايد ، اعتبر ذلك بمثابة الموت التدريجي للجماعة ، بهذا فان عمليات إعاقة النسل ( كتعقيم النساء و خصي الرجال) هي أعمال لا تختلف مع أعمال القتل المنظم للجماعة من حيث غايتها .
– نقل الصغار قهرا من جماعتهم الى أخرى :
و هو بمثابة تغيير مسيرة الحياة في الجماعة ، إذ يعد نقل الصغار من جماعتهم الى أخرى من قبيل التغريب الثقافي او الفكري ، حيث ان مستقبل الجماعة و استمرارها يكمن في صغارها ، فان نقلهم الى جماعة أخرى يعني وقف استمرارية الحياة على نحو طبيعي في تلك الجماعة .
و هناك نوع آخر من الابادة الجماعية يتمثل في الابادة الثقافية وتتمثل في تحريم التحدث باللغة الوطنية والاعتداء على الثقافة القومية . غير ان الأسرة الدولية لم تتجه بعد الى اعتبار هذا النوع من الابادة جديا وخطيرا ويؤدي الى الفناء ، على الرغم من هذا النوع من الابادة هو ابادة معنوية تدمر البشر وهي تؤدي الى الصهر والإذابة والتدمير وهو عمل غير مشروع .
المـطلب الـثانـي
الركن المعنوي
يتطلب الركن المعنوي لهذه الجريمة ضرورة توافر القصد الجنائي الخاص فالجاني او الجناة يجب ان يكون على علم بأنه يقوم بعمل يؤدي الى تهديم كيان الجماعة و ابادتها ، ومع ذلك فلا يرتدع و إنما يواصل عمله بهدف الوصول الى الغاية .
و لا يكفي في هذه الجريمة ان يتوافر للجاني عنصري القصد الجنائي : العلم و الإرادة فقط . إذ يتطلب الركن المعنوي ان يكون مدفوعا بغرض محدد و تحركه أسباب معينة ترتبط بعوامل ذكرتها المادة 2 من الاتفاقية و هي أسباب قومية أو أثنية أو عنصرية أو دينية، فالفاعل هنا يكون مدفوعا بأغراض انتقامية و كيدية محصورة في هذه الأسباب دون غيرها .
وعليه فالقتل الجماعي لا يعد جريمة ابادة إلا إذا كان بدافع من هذه الدوافع ، وهذا ما يجعل القصد الجنائي في هذه الجريمة قصد جنائي خاص .
و يلاحظ ان الاتفاقية لم تأخذ الأسباب السياسية الى جانب الأسباب التي ذكرت ، إذ لا يعد القتل الجماعي الراجع لأسباب سياسية جريمة ابادة .
و حسب الأستاذ عبد الله سليمان سليمان فان هذه نقطة انتقاد للاتفاقية ، خاصة وان التاريخ عرف الكثير من الممارسات التي تعني قيام هذه الجريمة ضد جماعات تحمل أفكار سياسية تختلف مع أفكار أصحاب السلطة .
المـطـلب الثـالث
الركن الدولي
غالبا ما تكون هذه الجريمة مدبرة ، ترتكب من قبل الحكام او فئات اجتماعية غالبة و بيدها السلطة او ترتبط ارتباطا وثيقا بالسلطة ضد فئات اجتماعية او عرقية او دينية مقهورة . و لا يعفي الحكام من المسؤولية تواريهم وراء فئات أخرى و دفعها لارتكاب الجريمة .
و تستمد هذه الجريمة صفتها الدولية من الأمور التالية :
– ان مرتكبها هو صاحب سلطة فعلية قائمة او من يرتبط بالسلطة الفعلية القائمة .
– كما ان موضوعها مصلحة دولية تتمثل في وجوب حماية الإنسان لذاته بغض النظر عن جنسه او دينه او العنصر الذي ينتسب إليه .
– و تجد هذه الجريمة مصدرها في الوثائق و المعاهدات الدولية التي تصت عليها و جرمتها .(1)
1- عبد الله سليمان سليمان ، المرجع السابق ، صفحة 291.
المبحث الثالث
نماذج من جرائم الابادة في الجزائر إبان الاحتلال الفرنسي
يعترف احد القادة العسكريين الفرنسيين في واحد من تقاريره قائلا ” إننا دمرنا تدميرا كاملا جميع القرى و الأشجار و الحقول و الخسائر التي ألحقتها فرقنا بأولئك السكان لا تقدر “
فسر الجنرال بيجو عدم احترام الجيش الفرنسي للقواعد الإنسانية في تعامله مع الجزائريين الى احترام هذه القواعد يؤدي الى تأخير عملية احتلال الجزائر ، وهذا اعتراف صريح على ممارسة الجيش الفرنسي لأسلوب الابادة و النهب و التهجير تجاه الجزائريين .
ومما لا شك فيه ان تلك العقلية العسكرية للجيش الفرنسي قد غلبت عليها النزعة العدوانية الوحشية الى درجة ان المرء لا يستغرب التسمية شبه الرسمية التي أطلقها القائد السفاح montaniac ” ” على جنوده و هي مشاة الموت ، كما انه لا يستغرب إذ تجد كبار الضباط و المؤرخين يطلقون على طوابير التخريب التي سلطها بيجو على الجزائر تسمية الطوابير الجهنمية .
و لا غرابة في افتخار ” ” saint arnaud في رسائله ، بانه محى من الوجود عدة قرى ، واقام
في طريقه جبالا من جثث القتلى . و لما لام البرلمان الفرنسي الجنرال بيجو عن الجرائم التي مارسها ضباطه و جنوده على الجزائر ، رد على وزير حربيته قائلا : ” و أنا أرى بان مراعاة القواعد الإنسانية تجعل الحرب في أفريقيا تمتد الى ما لا نهاية .
و لم تنحصر عملية ابادة الجنس البشري على منطقة محددة في الجزائر بل أصبحت هواية كل قائد عسكري ، اوكلت له مهمة بسط نفوذ فرنسا و رسالتها الحضارية . و من اشهر الابادات التي وقعت آنذاك نجد :
المـطلـب الاول
مذبحة العوفية
اقترنت هذه المذبحة الفضيعة بإحدى القبائل العربية التي كانت تقطن عند وادي الحراش ، والتي تعرضت في ليلة السابع من شهر افريل 1832 الى ابادة جماعية على يد المجرم الدوق di rofigo و قواته العسكرية ، وبحكم انه فرنسي أصيل نتدرب على القتل و وفيل لحضارته فقد قام بابادة هذه القبيلة التي تشير المصادر الى ان عدد أفرادها وصل 12000 نسمة أبيدوا عن أخرهم . كون هذا السفاح قد اشتبه فيهم وقوفهم وراء سرقة أمتعة المبعوثين الذين أرسلهم عميل الفرنسيين فرحات بن سعيد بمنطقة الزيبان الى الدوق di rofigo ، ورغم التعرف على براءة القبيلة من التهم المنسوبة إليها إلا ان شيخ القبيلة اعدم هو الأخر و اعطيت رأسه الى الطبيب beaunafon ليجري تجارب عليها . و قد وصف حمدان بن عثمان خوجة مذبحة العوفية بقوله : ” تلك الفضيحة ستكون صفحة سوداء في تاريخ الشعوب ، والتي لا يصدق الكثير وقعت في القرن التاسع عشر عهد الحرية و الحضارة الأوربية ” .
المطلب الثاني
مذبحة غار الفراشيش
جاءت هذه المذبحة بعد مشاركة قبيلة أولاد رياح في انتفاضة جبال الظهرة 1845 و التي شارك في إخمادها كل من بيجو و saint arnaud ، زيادة على العقيد bilisier . هذا الأخير تتبع هذه القبيلة فقام بتحطيم أملاكها مما دفع بالقبيلة الى الفرار ناحية غار محصن نوعا ما ويسمى غار الفراشيش للاحتماء به ، وكان عدد أفراد القبيلة أكثر من 1000 شخص رجالا و نساءا و اطفالا مع حيواناتهم .
حاصر bilisier و جنوده الغار من جميع الجهات و طلب من القبيلة الاستسلام فاجابته بالرصاص، واهتدى الى خطة لإرغامها على الخروج من الغار و الاستسلام . فقد جلب أكداس الحطب و أحاط بها الغار و اخذ في إيقادها عند المداخل ، ومضى اليوم الأول يوم 17/18 جانفي دون خروج احد ، ولما حل الليل جلب bilisier تعزيزات إضافية و ضاعف من إيقاد النار . و في اليوم الثالث و قع انفجار مهول في الغار و كان ذلك إعلانا باختناق ما يزيد عن 1000 شخص في الغار الذي تحاصره النيران و الدخان منذ يومين و ليلتين ، وقد كانت الحصيلة مهولة .
و اتفق اغلب الكتاب على ان عدد المختنقين قد تجاوز الألف ، إلا ان تقرير bilisier يذكر 600. و لاحظ احدهم ان التقرير لم يأخذ في الحسبان الأطفال الرضع الذين كانوا ملتصقين بأثداء أمهاتهم و داخل ثيابهم كما انه أهمل عدد الجثث التي كانت متراكمة فوق بعضها ، كما لاحظ كاتب آخر ان الغار لم يفرغ كله من المختنقين لعدهم بل بقي بعض المخلفات البشرية .
و قد حاولت السلطات الاستعمارية إخفاء حجم الجريمة بالتكتم عن التقرير الذي أرسله bilisier و عدم نشره ، أما بيجو فقد امتدح ضابطه على ما قام به تجاه قبيلة رياح .
المطلب الثالث
مجزرة قبائل السبيعة
اقترنت هذه المذبحة السفاح الكولونيل kaviniak الذي طبق لأول مرة طريقة جديدة هي الإعدام الجماعي في غرف الغار ، وكانت الضحية هي قبائل السبيعة التي كانت تقطن الضفة اليسرى من نهلا الشلف . ففي عام 1844 خرج الكولونيل بقوة عسكرية متوجها الى قبائل السبيعة الآمنة ، التي ما ان شعرت بالخطر حتى فرت الى إحدى المغارات و اعتصمت بها رافضة الاستسلام ، وما ان وصلت قوات الاحتلال حتى قامت بمحاصرة المغارات ، وعندها أصدر kaviniak أوامره بالهجوم على المغارات و سد مداخلها بتفجير لغم و هدمه حتى لا يتسنى لأفراد القبيلة الخروج منها ، وقد قام جنوده كذلك و بأمر منه بإشعال نار كبيرة عند المدخل ، وكان ذلك عام 1844 . وقد قال روسي عن هذه المجزرة مايلي ” و في اليوم التالي اضطر المحاصرون الذين مات اغلبهم اختناقا الى الخروج … ليجدوا رصاص kaviniak في انتظارهم .
خــاتمــة
تعتبر هذه الجرائم موجه ضد الإنسانية على أساس إنها جرائم تنتهك حقوق الإنسان . وقد حددت هذه الجرائم مبادئ محكمة نورنبرغ في أنها تعد جرائم دولية ترتكب عمدا ضد الإنسانية وهي بمثابة جرائم كبرى وخطيرة يعد فاعلها مجرما دوليا خطيرا .
ان من أفظع الجرائم الابادة الجماعية . ان المسؤول الأعلى عن كل ابادة جماعية هي الدولة التي وقعت تحت مسؤوليتها الجريمة و هذا ما قررته محكمة الشعوب الدائمة المنعقدة بباريس في افريل 1984 ، فما هو حظ مرتكبي الجرائم و الأعمال الوحشية و الابادة الجماعية ضد الجزائريين ؟ و هل من حقنا نحن كجزائريين ان نطالب السلطات الفرنسية الحالية بحقوق الضحايا المادية و المعنوية ، ام ننسى اننا قد خنا ذكرى هؤلاء الشهداء و لم ننصف العدالة و الحقيقة التاريخية بمحاكمتنا للمجرم ايا كان .
قائمة المراجع
1- عباس هاشم السعدي ، مسؤولية الفرد الجنائية عن الجريمة الدولية ، مصر ، الإسكندرية ، دار المطبوعات الجامعية ، 2002 .
2- عبد الله سليمان سليمان ، المقدمات الأساسية في القانون الدولي الجنائي ، الجزائر ، ديوان المطبوعات الجامعية ، 1992 .
3- المركز الوطني للدراسات و البحث في الحركة الوطنية و ثورة أول نوفمبر 1945 ، تاريخ الجزائر 1830-1962 ، قرص مضغوط بمناسبة الذكرى الأربعون للاستقلال 2002.
4- اتفاقية منع جريمة الابادة الجماعية و المعاقبة عليها . الصادرة بقرار عن الجمعية العامة في 9 ديسمبر 1948 .