طالع تفاصيل أول فتوى قضائية في تاريخ مجلس الدولة

 

في الجزء الثاني من الدراسة التوثيقية التي أجراها المستشار الدكتور محمد عبدالوهاب خفاجي نائب رئيس مجلس الدولة وحيدة، وذلك قبيل أيام من الإحتفال باليوبيل الماسى لمجلس الدولة -مرور (75) عاماً على إنشائه- , وبعنوان «الغائب في اليوبيل الماسى لمجلس الدولة تاريخ ومواقف ننشر أول فتوي قضائية أصدرها المجلس في تاريخه ومضمونها وما هو النزاع الذي طلب فيه الرأي بالإفتاء.

قالت الدراسة أن الفتوي الأولي في تاريخ مجلس الدولة استغرقت 11 يوماً في فبراير 1947 عن التحكيم بين الحكومة المصرية والحكومة البريطانية عن مقتل 42 مصرياً بمظاهرات الإسكندرية والقاهرة وإصابة 494 أخرين، ومقتل إثنين من قوات الاحتلال البريطانى والحل العبقرى من الأجداد الأوائل ( هيئة تحكيم ثلاثية من مصر وبريطانيا والثالث بمعرفة رئيس محكمة العدل الدولية)

يقول المستشار الدكتور محمد عبدالوهاب خفاجى نائب رئيس مجلس الدولة في أول وثيقة لمجلس الدولة أن حضرة صاحب الدولة رئيس مجلس الوزراء محمود فهمى النقراشى باشا – الولاية الثانية- طلب من إدارة الرأى لرئاسة مجلس الوزراء وديوان المحاسبة ووزارتي المالية والتجارة والصناعة بمجلس الدولة في كتابه رقم1-1/165 المؤرخ في 13 فبراير سنة 1947 بشأن اقتراح الحكومة البريطانية الالتجاء إلى التحكيم على طريقة معينة في أمر الخلاف القائم بينها وبين الحكومة المصرية في موضوع المطالبة المقدمة منها للحصول على تعويض عن الحوادث التي وقعت بالإسكندرية في 4 مارس سنة 1946 و21 فبراير 1946 بالقاهرة في مظاهرات الطلاب والعمال ضد الاحتلال البريطانى والتى نجم عنها قتلى من الطرفين مقتل 42 مصرياً بمظاهرات الإسكندرية والقاهرة وإصابة 494 ومقتل إثنين من قوات الاحتلال البريطانى.

 

و أن رئيس إدارة الرأى لرئاسة مجلس الوزراء وديوان المحاسبة ووزارتي المالية والتجارة والصناعة بمجلس الدولة حينذاك هو المستشار محمد على نمازى بك الذي ورد في كتابه رقم 1/34/1-102 بتاريخ 24 فبراير 1947 أي بعد 11 يوماً فقط وهو ما يدل على أن مجلس الدولة ولد منذ البداية على الإنجار وسرعة البت في الموضوعات بالقدر الذي يكفل تأصيل المسألة من جوانبها القانونية في بحث مستأنى تحكمه الريث، وليس استعجالاً ينقصه أصول العلم القانونى الرصين كما تستسهل الأجيال الحالية , وأن الأجداد الأوائل عايشوا ميلاد القانون الدولى وأضافوا إليه من الأمانى القومية ما أصبح نهجاً دولياً تفخر به مصر في مسئولية الدول.

وقائع الفتوي كما يرويها كتاب رئيس إدارة الرأى المستشار محمد على نمازى بك إذ أنه أعدها بمفرده وهذا ما يبين من أسلوب مخاطبة صاحب الدولة رئيس مجلس الدولة بأسلوب المفرد العائد عليه- في أنه في صباح يوم ۲۱ فبراير سنة 1946 انتظم طلبة الجامعة المصرية والمدارس الثانوية وغيرها من معاهد العلم، وكذلك طوائف من العمال في مواكب على هيئة مظاهرات سلمية سارت في شوارع مدينة القاهرة معبرة عن الأماني القومية وظلت الحالة هادئة إلى الساعة الثانية عشرة والدقيقة الخامسة والأربعين مساء تقريباً حيث حدث في ذلك الوقت أن كانت بعض السيارات الحربية البريطانية في طريقها من شارع القصر العينى إلى ميدان الإسماعيلية .

وفي المسافة بين مبنى الجامعة الأمريكية وثكنات الإسماعيلية اقتحمت صفوف المتظاهرين فأصابت عدداً من الأشخاص نقلوا إلى مستشفى القصر العينى، وثبت من الفحص الطبي والتشريح لجثث من قتل أن أحدهم توفی فعلا نتيجة مصادمة سيارة , وقد كان هذا الحادث العارض السبب في إثارة شعور المتظاهرين وفي انتقال الحالة فجأة من الهدوء إلى الاضطراب الذي صاحبه وزاد من حدته إطلاق الرصاص على المتظاهرين من أفراد القوات البريطانية الموجودين في المعسكر المقام على الأرض المعروفة بسرای الإسماعيلية ومن ثكنات قصر النيل , وترتب عليه إصابة عدد من الأشخاص يناهز الخمسين ومع تلك الظروف الطارئة نتيجة تصرف سئ من أفراد القوات البريطانية تمكن رجال البوليس المصري من اتخاذ الإجراءات المناسبة لإعادة الحالة إلى طبيعتها الهادئة . يوم ۲۲ فبراير سنة 1946 قابل الوزير المفوض في السفارة البريطانية دولة رئيس مجلس الوزراء وطلب شفوياً العمل على معاقبة من ارتكبوا الجرائم ودفع تعويض عن الإتلاف والخسائر التي وقعت ومعرفة الإجراءات التي تنوي الحكومة المصرية اتخاذها لصيانة واستتباب النظام ثم أرسلت السفارة البريطانية كتاباً في ۲۳ فبراير سنة 1946 تكرر فيه ما تقدم إبلاغه شفويا .

 

وفي ۲۳ فبراير سنة 1941 أرسل دولة رئيس مجلس الوزراء المصرى رداً إلى السفارة البريطانية – نراه في كرامة وكبرياء- أشار فيه إلى دهشته من لهجة التبليغ البريطاني وإلى أنه قد مضت خمس ساعات من بدء قيام المظاهرات السلمية دون وقوع أية حادثة، وأن الحوادث التي وقعت في يوم ۲۱ فبراير سنة 1946 إنما كانت نتيجة لحادث سيارات النقل التابعة للجيش البريطاني ولإطلاق الرصاص من الجنود البريطانيين على الجماهير رغم أنه في اليوم السابق لهذه الحوادث قد تم الاتفاق بين السلطات البريطانية والمصرية على تفادي مرور رجال الجيش البريطاني في اليوم المذكور , ومع ذلك فإنه يصرح بأنه مما لا شك فيه أن الحكومة المصرية ستتخذ الإجراء اللازم لمعاقبة الأشخاص الذين ثبتت إدانتهم في الجرائم أو الجنح التي وقعت خلال حوادث يوم ۲۱ فبراير سنة 1941 وإنه من المحقق أن ما سيسفر عنه التحقيق القضائي من إتلاف وتخریب ستدفع عنه التعويضات اللازمة لمن حاقت بهم أضراراً.

ثم أرسل دولة رئيس الوزراء کتاباً أخراً إلى السفارة البريطانية في ۲۹ فبراير سنة 1946 کرر فيه أن حوادث الاعتداء إنما كانت تالية لما حدث من السيارات البريطانية وإطلاق الرصاص على المتظاهرين، وأن وجود المنشآت العسكرية البريطانية في جميع أحياء القاهرة والإسكندرية يجعل من العسير معه اجتناب الاحتكاك بين السكان والجنود , وبالرجوع إلى بيان عدد المصابين والقتلى في حوادث يوم ۲۱ فبراير سنة 1946 يتضح أن ما حدث من تصرفات أفراد القوات البريطانية قد أدى إلى قتل خمسة عشر شخصاً وإصابة أربعة وتسعين .

 

وفي مارس سنة 1946 قامت بالإسكندرية من الساعة التاسعة صباحاً مظاهرات سلمية واستمرت الحالة هادئة وكان رجال البوليس يتخذون الإجرامات المناسبة للمحافظة على الأمن ولتفرقة المتظاهرين دون أن يقع من هؤلاء الأخيرين أي اعتداء، غير أن المتظاهرين لاحظوا أن فندق الأطلانتيك يرفع علم البحرية البريطانية وقد أشار أحد الضابطين البريطانيين القائمين على أمر هذا الفندق أنه استطلع رأى الرؤساء فيما إذا كان يمكن رفعه في ذلك اليوم الذي كان محددا من قبل لإبداء مظاهر الحداد فأجابوه برفعه – وكان رفع هذا العلم في ذلك اليوم مما أثار المتظاهرون وزاد في ثائرتهم إطلاق الرصاص عليهم من العمارات التي يقيم بها أفراد القوات البريطانية مما أدى إلى سريان الإشاعات بينهم عن مقتل البعض منهم نتيجة لإطلاق هذا الرصاص , وعندما قذف بعض المتظاهرين كشك البوليس الحربي البريطاني في ميدان سعد زغلول بالطوب قابلهم الجنود البريطانيون داخل الكشك بإطلاق الرصاص من المترالیوز باستمرار ووقع الكثير من المتظاهرين مصابين نتيجة لذلك , وحينئذ شرع المتظاهرون فجأة في مهاجمة هذا الكشك واشعال النار فيه. فقامت قوات البوليس والجيش المصرى بكل ما في استطاعتها لإنقاذ أفراد القوة التي بالمخفر وتمكنت من إنقاذ ثلاثة منهم واخراج اثنين شقا طريقهما وسط المتظاهرين دون الانضمام إلى إخوانهم السابقين واستمر أحدهما يطلق النار على المتظاهرين , مما دعى إلى وقوع التصادم بينهما وبين المتظاهرين وكانت نتيجة ذلك إصابتهما بما أدى إلى وفاتهما .

وقد أرسلت السفارة البريطانية إلى دولة رئيس مجلس الوزراء في ۱۸ مارس سنة 1946 احتجاجا عما وقع في حادث 4 مارس سنة 1946 السالف الذكر أشارت فيه إلى أن عجز ولاة الأمور هو الذي أدى إلى قتل جنديين بريطانيين، وقد أجاب دولة رئيس مجلس الوزراء بكتابه المؤرخ ۳۳ مارس سنة 1946 بأن القوات المصرية قد أدت واجبها على صورة يستحيل معها اتهامها باللين أو التسامح وأن المشكلة الحقيقية التي هي مصدر المتاعب كلها محصورة في وجود القوات البريطانية في البلاد , مع أن الأمة كلها ترغب في أن ترى تلك القوات تنسحب خصوصاً وقد انقضى ما يزيد على السنة من وقف القتال.

 

وتبين من تقرير رئاسة نيابة الإسكندرية المحرر في ۲۰ مابو سنة 1946 أن عدد من قتل من المصريين بلغ ۲۷ شخصاً من بينهم نساء وأطفال وجرح من المصريين 342 شخصاً عدا كثيرين أصيبوا ولم يتقدموا لتوقيع الكشف عليهم مما يجعل عدد المصابين يربو على أربعمائة شخص.

وفی ۷ يونية سنة 1946 أرسلت السفارة البريطانية كتاباً أرفقت به تقریرین محررين بمعرفة السلطات البريطانية يشيران إلى أنه كان من الممكن إنقاذ حياة الجنديين لو أن قوات البوليس والجيش المصري تصرفت بحزم أو همة، وقد أجاب دولة رئيس مجلس الوزراء على ذلك في ۲۰ يونيو سنة 1946 بكتاب أرفق معه صورة من تقرير رئيس نيابة الإسكندرية ومن تقرير النائب العام وقد تضمن بياناً وافياً للوقائع الثابتة من التحقيق القضائي وأوضح في كتابه أن مسئولية الحوادث تقع على عوامل الاستفزاز التي أثارها رجال القوات البريطانية , وأنه يخالف للأسباب الموضحة في الكتاب وفي تقريري النيابة العمومية وجهة نظر الحكومة البريطانية في شأن اعتبار السلطات البريطانية مسئولة عن مقتل هذين الجنديين أو التزامها بأي تعويض عنهما .

 

وقد عادت السفارة البريطانية وأرسلت كتاباً في 7 أكتوبر سنة 1946 أشارت فيه إلى عدم موافقتها على أن رجال الأمن في مصر قد اتخذوا التدابير الكافية لحماية أرواح رجال البوليس الحربي البريطاني المشار إليهم، ونفت وقوع أية مسئولية من جانبهم , وأنهم لم يطلقوا النار إلا دفاعاً عن النفس ولذلك فإن الحكومة البريطانية تطالب رسمياً بالتعويض عن مقتل رجلى البوليس الحربي , وأشارت إلى أن رئيس الوزراء قد اقترح شفوياً أنه قد يمكن تعيين رجلين من رجال القانون من قبل الحكومتين ليجتمعا ويفحصا كافة الوثائق التي يمكن الوصول إليها ويراجعا الوثائق التي أدت بكل من الحكومتين إلى اتخاذ موقف معين في هذا الأمر , وذلك للوصول إلى أحكام يتففان عليها بناء على وقائع القضية , وأن الحكومة البريطانية ترى أنه من الأفضل التوسع في هذا الاقتراح واتخاذ تدابير من شأنها تسوية النزاع بصفة نهائية , أي أن النزاع ينبغي أن يحال إلى حكم واحد محايد رفيع الشأن قد تتفق الحكومتان على تعيينه أو عوضاً عن ذلك لو استحال تنفيذ هذا الاقتراح يعين من قبل رئاسة محكمة العدل الدولية , وأن الحكومة البريطانية لتفترض أن الحكومة المصرية لا ترغب في أن يتخذ هذا الحادث أهمية مبالغاً فيها فيما لو رفع الأمر بالفعل إلى محكمة العدل الدولية ذاتها .

 

وفي ۱۲ يناير سنة 1947 أرسلت السفارة البريطانية مذكرة أشارت فيها إلى أنها سبق أن سلمت في ۱۸ يوليو سنة 1946 إلى صدقي باشا عندما كان رئيساً للوزارة ملخصاً عن قوائم بالمطالبات المالية التي قدمها مدنیون بريطانيون بخصوص الاضطرابات التي حدثت في نوفمبر سنة 1945 وفي شهر فبراير ومارس سنة 1946، وأنه في 31 أكتوبر سنة 1946 كتب المستر بوكر لإسماعيل صدقى باشا- إبان ولايته- خطاباً وبعث بقوائم أخرى بالمطالبات عن أضرار وقعت في نفس هذه المناسبات على أشخاص من العسكريين , كما استعلم عن مدى ما وصل إليه بحث المطالبات التي قدمت في ۱۸ يوليو وأشارت السفارة البريطانية إلى أنها لم تتلق جواباً على تلك المسائل .

 

وفی ۲۱ يناير سنة 1947 أرسلت السفارة البريطانية كتابا تشير فيه إلى أنها لم تتلق بعد رد الحكومة المصرية على اقتراح التحكيم السابق إيضاحه بكتابها المؤرخ في 7 أكتوبر سنة 1946

 

وإني ألاحظ – والكلام على لسان المستشار محمد على نمازى بك رئيس إدارة الرأى المذكورة ورأينا فهمه لقمة قواعد القانون الدولى العام في بداياته- من الوجهة القانونية أنه لا تترتب قبل الدولة أية مسئولية دولية ما لم تكن قد أخلت بواجب من الواجبات الدولية المفروضة عليها وتلك المسئولية لا تنشأ إلا بين دولة ودولة حكمها في ذلك حكم العلاقات الدولية عامة، فيخرج بهذا أية المسئولية تنشأ بين الدولة والأفراد إذ المرجع في ذلك الحكم القانون الداخلى لا القانون الدولي العام , وعلى أية حال فلا مسئولية ما لم يثبت وقوع عمل خاطئ أو غير مشروع من الدولة.

 

وفيما يتعلق بمسئولية الدولة عن الأضرار التي تحدث نتيجة للمظاهرات والاضطرابات وتلحق بالأجانب المقيمين في أرضها فالأصل إنما هو تقرير عدم مسئولية الدولة عن تلك الأضرار باعتبار أن جميع الأعمال التي تقوم بها لحفظ الأمن تعتبر من الأعمال المتعلقة بسيادة الدولة وأن مطالبتها بتعويض في هذه الحالة يعتبر إجراءً ماساً بأعمال السيادة، إلا أنه يؤخذ في الاعتبار دائما عند بحث مدى مسئولية الدولة إثبات وقوع تقصير في بسط حمايتها على الأجانب المقيمين في بلادها استناداً إلى أن ذلك يمكن أن يعتبر عملا خاطئا صادرا من جانبها.

 

وأساس مسئولية الدولة في هذه الحالة إنما ثبوت التقصير الفاحش من جانبها في اتخاذ الإجراءات المناسبة لمنع وقوع الضرر بالقدر المستطاع.

ولذلك فإني لا أرى مطلقا ما يبرر اعتبار مطالبة مثل هؤلاء الأفراد المتصفین بالجنسية البريطانية أو بغيرها من الجنسيات محل تحكيم دولي لأنه كما سبق إيضاحه من مبادئ القانون الدولي تعتبر العلاقة بين الدولة وهؤلاء الأفراد محكومة بقواعد القانون الداخلى لا القانون الدولي العام فالجهة التي يحتكمون إليها للمطالبة بتعويض في المحاكم المصرية وحدها، ولا تترتب في مثل هذه الحالات مسئولية دولية تخضع للتحكيم الدولي إلا إذا حصل إنكار للعدالة بعد استيفاء جميع طرق الإجراءات القضائية déni de justic.

نقلا عن المصري اليوم

زر الذهاب إلى الأعلى