ضابط الإسناد في الوساطة كوسيلة لتسوية النزاع التجاري الدولي

بقلم الدكتور/ محمد طرفاوى محمد المحامى

قواعد الإسناد هي قواعد قانونية تقوم باختيار القانون الملائم إذا وقع تنازع بشأن علاقة قانونية ذات عنصر أجنبي فهي تبين ليس الحل الموضوعي للنزاع بل القانون الذي يمكن أن نجد ذلك الحل فيه. (د/عصام الدسن القصبي – تنازع القوانين بين الشريعة والقانون – الطبعة الأولى – دار الفكر الجامعي – الإسكندرية – سنة 2007 – صفحة 642)

والوساطة وسيلة بديلة ضمن الوسائل المقررة لتسوية النزاع، وتقوم على تدخل وسيط ليقوم بدور إشرافي وتنفيذي على المفاوضات بين طرفي النزاع، ويقترح الحلول محاولاً تقريب وجهات النظر للوصول لحل للنزاع.

الوساطة وقواعد الإسناد:

يثار التساؤل حول إمكانية تطبيق قواعد الإسناد على الوساطة في ظل كونها وسيلة ودية لتسوية النزاع، هل يمكن القول بوجود قاعدة إسناد لقواعد ومحاولات ودية لتسوية النزاع؟

يرى الكاتب أن قواعد الإسناد وإن كانت وسيلة ودية لتسوية النزاع إلا أنها يجب أن تقوم على أسس واضحة ومعالم محددة، فيجب بداية الاتفاق عليها ثم تحديد دور الوسيط وتحديد اتعابه ومدة الوساطة وطريقة نهايتها، (يراجع مقالنا السابق عن تسوية المنازعات التجارية بالوساطة في ظل الأزمات الاقتصادية).

تلك المبادئ تُعرف بمشروع الوساطة ويتم إعداده عادة قبل بداية الوسيط في أداء عمله، وهنا نجد أن الوسيط يقوم بدور ودي لتقريب وجهات النظر إلا أنه أيضاً يقوم بدور موضوعي في اقتراح الحلول طبقاً لقواعد النزاع الموضوعية التي تخضع بدورها للقانون المتفق على تطبيقه بالعقد.

ينتج عما سبق أن للوساطة قواعد إسناد شكلية وقواعد إسناد موضوعية، فمشروع الوساطة المحدد لشروطها وضوابطها هو قاعدة الإسناد الشكلية المتفق عليها بين الخصوم، فيما يعد التدخل الموضوعي في النزاع طبقاً لأحكامه هو قاعدة إسناد موضوعية.

الوساطة وقاعدة الإسناد الشكلية:

قاعدة الإسناد الشكلية تجد أصلها في طبيعة النزاع، فحال وجود عنصر أجنبي أو تعلق الأمر بالتجارة الدولية، يجب أن تتوافر قاعدة إسناد تعتمد على القانون الوطني، حسب طبيعة العقد ومكان تنفيذه، وقررت قواعد اليونيسترال (القانون النوذجي للوساطة بالأمم المتحدة) أن قواعد الوساطة تتعلق بالاتفاق وقانون الدولة فورد في نص الفقرة الخامسة من المادة (1) من قواعد القانون النموذجي ما نصه أنه” إذا تعارض أي حكم من أحكام هذه القواعد مع نص في القانون المنطبق على الوساطة لا يجوز للأطراف الحيد عنه بما في ذلك أي صك قانوني أو حكم قضائي واجب التطبيق كانت الغلبة لنص ذلك القانون.”

مفاد ما تقدم أن الوساطة تخضع لأحكام منظمة وقواعد إسناد شكلية وموضوعية، إلا أنه حال مخالفة القانون الوطني بشتي مجالاته يتم تفضيل تطبيق القانون الوطني، وهو ما عبر عنه المشرع بالأمم المتحدة بقوله صك قانوني أو حكم قضائي واجب التطبيق، وهنا نجد أنه قرر قاعدة إسناد شكلية وموضوعية في آن واحد.

فقاعدة الإسناد الشكلية هي تلك القاعدة التي تحدد القانون الواجب التطبيق على قواعد اتفاق والوساطة ذاته من حيث الوجود وشروط التطبيق وقواعد الوساطة فيما يخص تعيين الوسيط ومدة الوساطة وإجراءاتها وطريقة بدايتها ونهايتها.

بناءً على ما سبق فإن اتفاق أطراف النزاع على الوساطة يجب أن يُحيل بقاعدة إسناد واضحة إلى قواعد قانونية واجبة التطبيق من حيث شكل الوساطة وإجراءاتها مجتمعة، ويجب أن يُحيل بالاتفاق كذلك القواعد الموضوعية الحاكمة لعمل الوسيط حيث قانون العقد أو ما اتفق عليه المتنازعين بموجب قاعدة إسناد موضوعية.

الوساطة وقاعدة الإسناد الموضوعية:

قررت المادة الأولى – كما ذكرنا سلفاً – قاعدة إسناد لقواعد الوساطة ويجب ألا تخالف القانون الوطني، وحال مخالفته تطبيق قواعد القانون الوطني، وبالنظر إلى أن قاعدة الإسناد تقوم على عناصر ثلاثة حسب أغلب الفقه (نقلاً عن الأستاذة/ سلوى مهدي حسين – قاعدة الإسناد بين قيود النص القانوني ومتطلبات الواقع – دراسة مقارنة – رسالة ماجستير – جامعة كربلاء – سنة 2023 – صفحة 23) وهي الفكرة المسندة أو موضوع الإسناد، وضابط الإسناد، والقانون المسند إليه الاختصاص، فنجد أن الوساطة تقوم على فكرتين للإسناد:

الفكرة الأولى: اتفاق الوساطة في ذاته.

الفكرة الثانية: الطبيعة الموضوعية للنزاع أمام الوسيط.

وكلا الفكرتين يختلف حسب نوع العقد، فلو كان العقد تجارياً دولياً يخضع لاتفاقية روما

( اتفاقية القانون الواجب التطبيق على الالتزامات التعاقدية لعام 1980)فنحن أمام وضع، والعقود الأخري وضعُ آخر.

1-اتفاقية روما لعام 1980:

غَلَبَتَ اتفاقية روما قاعدة سلطان الإرادة على جميع الالتزامات التعاقدية، فأصبح العقد التجاري الدولي يتسم في أحكامه ونزاعاته بطابع خاص يستمد قوته من سلطان الإرادة.

2-العقود التجارية الاخري:

تخضع لأحكام القانون الوطني، ويكون فيها دوراً فعالاً كذلك لسلطان الإرادة، حال عدم وجود أي حكم أو اتفاق يخالف النظام العام محلياً.

 

 

عموم اتفاق الوساطة وقاعدة الإسناد:

نصل مما تقدم إلى أن الوساطة تحتاج إلى قاعدة إسناد شكلية بموجبها يتم الاتفاق على اللجوء للوساطة وإجراءاتها والإحالة إلى قواعد قانونية تحكم ما لم يتفق عليه المتعاقدين في اتفاق الوساطة، ويجد الكاتب غاية الأمر في ذلك أن الوساطة مازالت تحمل صفتها الأصلية كوسيلة ودية لتسوية النزاع، وبالتالي فإن أي لجوء إليها يعتمد أولاً وأخيراً على مبدأ سلطان الإدارة، ويرجع سبب تحديد قاعدة إسناد تقوم فكرتها على ما يتعلق بإجراءات الوساطة الشكلية إلى كون الاتفاق على الوساطة لا يشتمل عادة على جميع بيانات وشروط الوساطة كذلك لا يناقش عادة بعض التزامات الوسيط كالسرية على سبيل المثال وهنا يجب أن توجد قواعد قانونية تحكم فكرة الوساطة ذاتها وتحدد حقوق والتزامات جميع أطراف الوساطة وكذلك إجراءاتها من البداية إلى النهاية.

توضح الإرادة المشتركة اتفاق الوساطة وتًحيل لقواعد القانون المحلي أو لقواعد الامم المتحدة، وهنا ينصح الكاتب بتحديد قواعد القانون النموذجي كقاعدة إسناد لتحديد إجراءات الوساطة نظراً لما تتضمنه تلك القواعد من تحديد دقيق لشكل وإجراءات الوساطة والتزامات الاطراف.

وفيما يخص فكرة قاعدة الإسناد الثانية وهي الخاصة بموضوع النزاع، يجب بداية أن نعرف أن دور الوسيط وإن كان ودياً ويقوم على محاولة تقريب وجهات النظر بين الأطراف إلا أنه يحتوى على أسس موضوعية للنزاع، فالوسيط يقوم بدراسة العقد وتحديد مواضع النزاع، ويقوم بتحديد مشروع تفاوضي للمناقشة حول تلك المواضع، ويجب أن تتم تلك العملية في ظل احترام القانون الواجب التطبيق، ففي ظل اتفاقية روما حددت قاعدة الإسناد هنا مبدأ سلطان الإرادة كقاعدة شمولية للنزاع، ويمكن القول أنه حتي حال مخالفة ذلك للتشريع الوطني لأي دولة فالعبرة بتنفيذ التزاماتها الدولية – معاهدة روما – وبذلك لا تُثير أي نزاعات خاضعة لاتفاقية روما أي مشكلات حول هذا الامر.

تكمن المشكلة فيما يخص النزاعات الاخري فهل يمكن أن تعتمد على مبدأ سلطان الإرادة كما في اتفاقية روما أو أن هناك تفسيراً آخر، لا يمكن بحال من الأحوال الاعتماد على مبدأ سلطان الإرادة إلا حال موافقته للتشريع الوطني، فضابط الإسناد هنا يعتمد على فكرة تنفيذ التزامات كل طرف وحقوقه المترتبة على العقد، وهو ضابط موضوعي لا يجوز فيه أن يتم الاتفاق على ما يخالف قانون دولة تنفيذ الالتزامات، بمعنى أدق لو أن شركة تعاقدت مع شركة أجنبية بمصر ولا يخضع العقد لاتفاقية روما نظراً لجنسية الشركة الأجنبية، فهل يجوز الاتفاق على قاعدة إسناد موضوعية تخالف أحكام القانون المصري؟

أجاب القانون المدني المصري على ذلك بما ورد بنص المادة (19) التي تنص على أن” يسرى على الالتزامات التعاقدية قانون الدولة التي يوجد فيها الموطن المشترك للمتعاقدين إذا اتحدا موطناً فإن اختلفا موطناً سرى قانون الدولة التي تم فيها العقد هذا ما لم يتفق المتعاقدين أو يتبين من الظروف أن قانوناً آخر هو الذي يراد تطبيقه.”

وبذلك حدد القانون المصري موطن المتعاقدين وهو المكان المعتاد للإقامة قانوناً حاكماً، ثم مكان إبرام التعاقد أو تنفيذه ثم إرادة المتعاقدين، ومن وجهة نظر الكاتب فإن سلطان الإرادة هو الأصل فيما نظمه القانون المصري، لا مراء في أن قانون الموطن المتحد وقانون العقد قد وردا قبل القانون المتفق عليه، إلا أن المشرع أباح للمتعاقدين الاتفاق على قانون بخلاف القوانين المذكورة وجاء النص عاماً لا قيد فيه، وهو اعتراف بسلطة المتعاقدين في الاتفاق على القانون الحاكم، فوافق المشرع المصري بذلك اتفاقية روما وجاء موقفه مستحسناً لأكثر من سبب:

السبب الأول: التعاقد العابر للحدود يصعب تحديد مداه وتنفيذه وهو ما يعنى ضرورة الاتفاق على كيفية الفصل في منازعاته عند الاتفاق.

السبب الثاني: احترام مصر لالتزاماتها الدولية فهي أحد الدول الموقعة على اتفاقية روما، وحتي في العقود التي لا تخضع لها، فإن الأطراف إذا أحالوا النزاع لمركز تحكيم على سبيل المثال أو قواعد تحكيم خاصة فإن مصر قد وقعت على اتفاقية نيويورك الخاصة بتنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية وبذلك راعى المشرع المصري الوضع الدولى لمصر وما وقعت عليه من اتفاقيات حرصاً على مصالحها الدولية وكذلك تطويراً للتجارة الدولية.

السبب الثالث: سهولة الاتفاق وتركه بيد أطرافه يمنح مصر كدولة امتيازاً تجارياً مشجعاً للأجانب في تطوير استثماراتهم بمصر لمرونة تشريعاتها.

وترجع الأهمية القصوى في تحديد القانون الموضوعي إلى تقرير الوسيط عند نهاية النزاع فهنا تظهر أهمية هذه القاعدة، فعندما يعد الوسيط تقريره عند نهاية الوساطة بأي نتيجة سلبية كانت أم إيجابية يحتاج إلى تحديد قواعد محددة تخضع شكلياً إلى قانون الإجراءات المتفق عليه ومضوعياً إلى القانون المنطبق على موضوع النزاع.

بالأخير يحتاج هذا الموضوع إلى دراسة وافية ولا يمكن لمقال أن يُلمَ بكافة جوانبه وهو موضوع مثير للبحث والدراسة، وحاول الكاتب أن يعرض أفكاره العامة في إطار تحليلي ونقدي لمحاولة الوصول لفكرة محددة في ضابط الإسناد للوساطة في تسوية النزاعات التجارية الدولية.

 

زر الذهاب إلى الأعلى