تصوير الجرائم بين التجريم والتوثيق

مقال بقلم: الدكتور أشرف نجيب الدريني

كيف يمكن تفسير ظاهرة تصوير الجرائم بين كونها أداة لتحقيق العدالة ووسيلة لنشر الفوضى أو التحريض على الجريمة؟ وماذا عن المسئولية القانونية للمصور الذي يمتنع عن التدخل لوقف الجريمة؟ في ظل التطور التكنولوجي، أصبح توثيق الجرائم جزءًا من واقعنا، لكنه في الوقت ذاته يثير العديد من الإشكاليات القانونية والأخلاقية. في هذا المقال، نتناول ظاهرة تصوير الجرائم من زوايا متعددة: بين التوثيق المشروع، التجريم القانوني، والدور السلبي للمصور الذي يكتفي بالتوثيق دون التدخل.

ما الذي يحدد مشروعية تصوير الجرائم؟ قد يكون تصوير الجرائم مشروعًا إذا كان الغرض منه الإبلاغ عن الجريمة أو تقديم أدلة تساعد السلطات في تحقيق العدالة. هل يُمكن اعتبار تصوير حادث سرقة أو اعتداء في مكان عام دون انتهاك لحقوق الأفراد وسيلة توثيق مشروعة؟ الإجابة تعتمد على نية المصور وطريقة استخدام المادة المصورة. القوانين غالبًا ما تميز بين التصوير المشروع وغير المشروع بناءً على الغاية. على سبيل المثال: تصوير جريمة في مكان عام دون نشر الفيديو يُعتبر دليلًا مشروعًا إذا تم تسليمه للجهات المختصة. بينما تصوير حادث في مكان خاص دون إذن يُعد انتهاكًا للخصوصية.

لكن ماذا إذا استُخدمت هذه المواد المصورة لأغراض شخصية أو تجارية؟ هنا تتحول المادة المصورة من دليل توثيقي إلى أداة غير قانونية، خاصة إذا ترتب على نشرها ضرر اجتماعي أو نفسي للضحايا.

هل الامتناع عن التدخل يُعتبر مشاركة سلبية في الجريمة؟ بطريقة أخرى، هل يُمكن اعتبار المصور الذي يمتنع عن المساعدة أو التدخل لإنقاذ الضحية شريكًا سلبيًا؟ في كثير من الأنظمة القانونية، يُعاقب الامتناع عن تقديم المساعدة إذا كان الشخص قادرًا على ذلك دون أن يُعرض نفسه لخطر كبير.
على سبيل المثال: في القانون الفرنسي، الامتناع عن مساعدة شخص في خطر يُعد جريمة مستقلة، ويُعتبر فعل تسجيل صور متعلقة بارتكاب الجرائم المذكورة في المواد 222-1 إلى 222-14-1، والمواد 222-23 إلى 222-31، والمادة 222-33، عن علم وبأي وسيلة كانت وعلى أي وسيلة تخزين كانت، عملاً يشكل مساهمة في الجريمة (فعل من أفعال الاشتراك) ويُعاقب بالعقوبات المنصوص عليها في تلك المواد. كما يُعاقب فعل نشر تسجيل هذه الصور بالسجن لمدة خمس سنوات وغرامة مالية قدرها 75,000 يورو. ولا تُطبق هذه المادة إذا كان التسجيل أو النشر ناتجًا عن ممارسة طبيعية لمهنة تهدف إلى إعلام الجمهور، أو إذا تم التسجيل أو النشر لغرض تقديم دليل أمام القضاء.

أما في القانون المصري، فقد نص على انتهاك الخصوصية (المادة 309 مكرر من قانون العقوبات): يُعاقب القانون على تصوير شخص في مكان خاص دون موافقته، أو نشر مقاطع مصورة تنتهك خصوصيته. إذا كان التصوير يضر بالضحية أو يؤدي إلى تشهير بها، يُعتبر هذا التصرف جريمة. أما عن الامتناع عن مساعدة الضحية، فإن القانون المصري لا يحتوي على نص صريح يجرم الامتناع عن مساعدة الضحية إذا لم يكن هناك التزام قانوني أو تعاقدي بذلك. ومع ذلك، إذا كان الممتنع موظفًا عامًا أو مكلفًا بواجب قانوني (مثل رجال الأمن أو الأطباء)، فقد يتحمل المسؤولية الجنائية عن الامتناع عن أداء واجبه. وإذا كان الامتناع عن المساعدة سببًا مباشرًا في وفاة الضحية أو إصابتها، وكان الممتنع ملزمًا قانونًا بالتدخل (مثل الوالد تجاه أبنائه)، فقد يُعتبر امتناعه جريمة قتل أو إصابة نتيجة الإهمال.

كما أن القانون يلزم الأشخاص بالإبلاغ عن بعض الجرائم في ظروف معينة. المادة 25 من قانون الإجراءات الجنائية: “لكل من علم بوقوع جريمة يجوز للنيابة العامة رفع الدعوى عنها بغير شكوى أو طلب أن يبلغ النيابة العامة أو أحد مأموري الضبط القضائي عنها”. كما نصت المادة 26 من ذات القانون على أنه: “يجب على كل من علم من الموظفين العموميين أو المكلفين بخدمة عامة أثناء تأدية عمله أو بسبب تأديته بوقوع جريمة من الجرائم التي يجوز للنيابة العامة رفع الدعوى عنها بغير شكوى أو طلب، أن يبلغ عنها فورا النيابة العامة، أو أقرب مأمور من مأموري الضبط القضائي”. هنا تُلزم الموظفين العموميين بالإبلاغ عن الجرائم التي يعلمون بها أثناء تأدية وظائفهم. إذا امتنع المصور عن الإبلاغ عن الجريمة بعد تصويرها، قد يُعتبر هذا تقصيرًا، ولكنه لا يُعاقب عليه إلا إذا كان مصنفًا ضمن “من عليه واجب الإبلاغ”.

التساؤل الذي يفرض نفسه الآن، كيف يمكن أن يؤدي تصوير الجرائم إلى نتائج عكسية؟ هل يمكن أن يُشجع التصوير الجاني على التمادي في ارتكاب الجريمة؟ في بعض الحالات، يتحول المصور من شاهد محايد إلى محفز للجريمة، خاصة إذا اعتقد الجاني أنه لن يواجه مقاومة أو تدخلًا مباشرًا. الأمثلة الواقعية تُظهر أن بعض المجرمين يتفاخرون بجرائمهم أمام الكاميرا، مما يُزيد من تطبيع العنف. على الجانب الآخر، نشر الجرائم المصورة عبر وسائل التواصل الاجتماعي قد يُساهم في نشر الخوف في المجتمع أو إثارة الكراهية، وهو ما يُعتبر تأثيرًا سلبيًا يتجاوز مجرد انتهاك حقوق الأفراد.

ما هي مسئولية القانون في تنظيم هذه الظاهرة؟ هل تكفي القوانين الحالية لمعالجة الإشكاليات المرتبطة بتصوير الجرائم؟ في ظل التقدم التكنولوجي السريع، تبدو الحاجة إلى تشريعات جديدة تُنظم الظاهرة أكثر إلحاحًا. بوضع معايير واضحة للفصل بين التصوير المشروع وغير المشروع. وتغليظ العقوبات على التصوير والنشر غير المشروعين. فضلًا عن تعزيز آليات الإبلاغ عن الجرائم مع حماية المصورين الذين يتعاونون مع السلطات.

التساؤل الآن هل هناك مسئولية أخلاقية للمصور؟ بعيدًا عن القوانين، هل يتحمل المصور مسئولية أخلاقية عند تصوير جريمة؟ تصوير الضحايا ونشر معاناتهم قد يُسبب أذى نفسيًا جسيمًا، حتى لو كان الهدف توثيق الحدث. هنا يثور تساؤل: هل يمكن أن تكون الأخلاقيات رادعًا أقوى من القانون في بعض الحالات؟

على المصور أن يوازن بين مسؤوليته الأخلاقية في التدخل لإنقاذ الضحية وواجبه في تقديم دليل موثق للسلطات. هذا التوازن هو ما يُحدد في النهاية مدى مشروعية الفعل وتأثيره. تصوير الجرائم بين التجريم والتوثيق يظل موضوعًا معقدًا يتطلب مقاربة متوازنة تجمع بين الجوانب القانونية، الأخلاقية، والاجتماعية. ولا مناص من أن يتحمل المصور مسئولية واضحة، ليس فقط في استخدام الكاميرا، بل في اختيار التدخل عند الضرورة أو تسليم المادة المصورة للجهات المختصة. كما أن تنظيم هذه الظاهرة يتطلب تعزيز التشريعات، إلى جانب نشر الوعي بين الأفراد حول حدود التوثيق المسئول، لضمان خدمة العدالة دون انتهاك حقوق الآخرين.

زر الذهاب إلى الأعلى