صناعة المحاماة.. الواقع والمأمول

بقلم: الدكتور أحمد عبد الظاهر
أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة

غدت المحاماة والاستشارات القانونية صناعة وسوق ضخمة تصل القيمة المادية لها على مستوى العالم – حسب تقديرات البعض – إلى ما يزيد على مائتي مليار دولار. ولكن، ورغم الحجم الهائل لهذه السوق، فإن نصيب العالم العربي منها يكاد يكون معدوماً. فإذا طالعت قائمة أكبر مائة مكتب محاماة على مستوى العالم من حيث الدخل السنوي، سوف تجد أن معظمها تتبع الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وبعضها عبارة عن ائتلاف مكون من عدة دول.

وقد بدأت جمهورية الصين الشعبية مؤخراً في الدخول بقوة إلى هذه السوق الواعدة، من خلال بعض المكاتب أو شركات المحاماة. وبحسب تقديرات العام 2017م، فإن المكتب الأول على مستوى العالم من حيث الدخل السنوي هو مكتب المحاماة الأمريكي (Kirkland & Ellis)، بدخل سنوي مقداره ثلاثة مليارات ومائة وخمسة وستين مليون ومائة وعشرة آلاف دولار أمريكي، ويضم ألفي محام. وفي المرتبة الثانية، يأتي المكتب الأمريكي (Latham & Watkins)، بدخل سنوي مقداره ثلاثة مليارات وثلاثة وستين مليوناً وتسعمائة واثنين وتسعين ألف دولار، ويضم (2436) محام.

أما المرتبة الثالثة، فقد جاء فيها مكتب المحاماة الأمريكي (Baker McKenzie)، بدخل سنوي مقداره مليارين وتسعمائة مليون دولار أمريكي، ويضم (4.723) محام. ولعل ما يستدعي الانتباه في الأرقام سالفة الذكر أن المكتب صاحب المرتبة الأولى في قائمة المكاتب أو الشركات القانونية الأعلى دخلاً هو في ذات الوقت أقل في عدد المحامين من المكتب التالي له في المرتبة.

ونفس الملاحظة قائمة عند المقارنة بين المكتبين الثاني والثالث في الترتيب.

وفيما يتعلق بالحالة المصرية، يؤكد البعض – بحق – أن المستقبل هو لشركات المحاماة. ففي تعليق منشور على صفحتي العامة على موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك، وبمناسبة مقالي السابق عن «مستقبل المحاماة»، يقول الأستاذ محمد المليجي المحامي: «لقد حدثني استاذي الفاضل سيد بك قرين رحمه الله تعالي سنة 1990م عن أن المستقبل لشركات المحاماة.. الله يرحمه ويحسن إليه».

ومع ذلك، وفي الموضع ذاته، كتب الأستاذ الروبي جمعة، قائلاً: «الطابع الكلاسيكي للمحاماة في مصر من النوع الجامد المقاوم للتطور لأسباب عده منها غياب ثقافة العمل الجماعي لدي المحامين… وعدم تفهم جمهور المتقاضين لمثل هذه الثقافة.. حيث يتعامل كلا الطرفين بشكل فردي؛ فالمحامي ينظر إلى استقلاله نظرة الانفراد بالعمل، والمتقاضي يختار محاميه بشكل أو بآخر على أساس اسم المحامي… لذلك، فعمل شركات المحاماة رغم كونه ضرورة إلا أنها ستواجه صعوبات جمة ولن تنجح إلا في القليل النادر.. ناهيك عن ابتعادنا عن المعلوماتية والتطور التكنولوجي… نحتاج ثورة في هذا المجال لكي ننافس في منطقتنا العربية على الأقل».

إن المستقبل في عالم اليوم الذي نعيش ونحيا فيه هو للكيانات العملاقة، ولن يكون هناك وجود أو تأثير كبير للكيانات الصغيرة.

وفي عصر العولمة، لن يكون هناك مكان للأسماك الصغيرة في وسط بحر رياحه عاتية تتصارع فيه الحيتان.

هذا القول لا يصدق فقط في المجالات الاقتصادية والتجارية والسياسية، وإنما ينطبق أيضاً على المجالات المهنية، ومنها مهنة المحاماة.

وإذا كانت التشريعات العربية، ومنها قانون المحاماة المصري الحالي رقم 17 لسنة 1983م، تعترف فقط بشركات المحاماة التي يؤسسها محامون فقط، فإن الوضع في الدول الأنجلو سكسونية قد تجاوز هذه النظرة، وبحيث غدا مألوفاً أن تسمع عن طرح إحدى شركات المحاماة في البورصة. ففي يوم الاثنين الموافق الحادي عشر من مارس 2019م، أصبحت (DWF) أكبر شركة محاماة في المملكة المتحدة مدرجة في البورصة بعد أن استكملت طرحها العام الأولي بقيمة خمسة وتسعين مليون جنيه استرليني. وبعد الإعلان عن هذا الطرح، وفي الخامس عشر من مارس 2019م، أصدرت شركة (DWF) ثلاثمائة مليون سهم، وتم قبولها في المجلس الرئيسي لبورصة لندن للأوراق المالية. وهكذا، وبتقييم بلغ 366 مليون جنيه إسترليني، وحجم عرض وصل إلى 95 مليون جنيه إسترليني، أصبحت (DWF) رسمياً أكبر شركة محاماة مدرجة في المملكة المتحدة.

وسيتم استخدام 19 مليون جنيه إسترليني من العائدات لسداد جزء من مساهمة الأعضاء في رأس مال الشركة، مع تخصيص عشرة مليون جنيه إسترليني للاستثمار في تكنولوجيا المعلومات والباقي مخصص للأغراض العامة للشركة. وقد شارك في عملية الطرح سبعة عشر مكتباً من مكاتب «ألين» و«أوفيري» الاستشارية، مع فريق بقيادة شريك الشركة «جيليان هولجيت» في لندن.

وعلقت شركة «هولجيت» قائلة: «هذه الصفقة التحويلية ستمكّن الشركة من الاستفادة من الاتجاهات الإيجابية في الأسواق التي تعمل فيها ومواصلة توسيع عروضها الدولية والمميزة».

والقيمة السوقية للشركة، والبالغة 366 مليون جنيه إسترليني، تعد رقماً قياسياً لا شك في ذلك، حيث كان الرقـــــــم القياسي السابق لأكبر شركة مدرجة في بورصة المملكة المتحدة مسجلاً باسم شركة (Ince Gordon Dadds)، والتي حققت رقما مميزا نتيجة الاندماج الحاصل في عام 2018م بين كل من شركة (Ince & Co) مع شركة (Gordon Dadds).

ومع ذلك، يرى البعض أن القيمة السوقية الحالية لشركة (DWF) هي أقل من النطاق المتوقع الذي يتراوح ما بين 400 مليون جنيه إسترليني و600 مليون جنيه إسترليني. وعلى كل حال، فإن زيادة رأس المال البالغة 95 مليون جنيه إسترليني تتخطى مبلغ 75 مليون جنيه إسترليني الذي طرحته (DWF) في فبراير 2019م.

وكنتيجة للاكتتاب العام، يواجه شركاء أسهم (DWF) تخفيضاً مباشراً بنسبة 60٪ في الأرباح، علماً بأن الربح لكل شريك بلغ في عام 2018م مبلغاً مقداره 327،000 جنيه إسترليني، بينما يمكن للشركاء من غير المساهمين أن يتوقعوا انخفاضاً في حصة الأرباح بنسبة 10٪.

وسيتم منع الشركاء من التصرف في الأسهم لمدة خمس سنوات، حيث يتم إصدار الأسهم على شكل شرائح بنسبة 10٪ كل عام بعد النتائج المالية للشركة في عام 2020م و10٪ أخرى على أساس الأداء.

وتجدر الإشارة أيضاً إلى أن الرئيس التنفيذي للشركة، «أندرو ليذرلاند»، يحصل على راتب سنوي أساسي مقداره 530،000 جنيه إسترليني بعد الاكتتاب العام، بينما يحصل المدير المالي «كريستوفر ستيفاني» على 320،000 جنيه إسترليني.

ومؤخراً، وفي الرابع والعشرين من يونيو الحالي، قامت شركة بورفورد بشراء حصة في مكتب محاماة بريطاني شهير، اسمه (PCB)، حيث أعلنت الشركة التي قامت بشراء هذه الحصة أنها ستدخل كمستثمر وممول لأي نزاع تراه مربحاً نظير الحصول على نسبة معينة حال كسب النزاع.

والموضوع يحتاج إلى مقال آخر، حيث إن البنية التشريعية في البلاد العربية لا تسمح بمثل هذه الممارسات. والله من وراء القصد…

زر الذهاب إلى الأعلى