
صناعة التشريع بين الواقع والمأمول.. لغة المحاكم
مقال للدكتور أحمد عبد الظاهر – أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة – المستشار القانوني بدائرة القضاء – أبو ظبي
تحرص كل دولة على بيان وتحديد لغتها الوطنية والرسمية. بل إن هذا التحديد يرتفع في العديد من البلدان إلى مصاف القواعد الدستورية، التي ينبغي على كل سلطات الدولة الالتزام بها والتقيد بمقتضياتها (يراجع على سبيل المثال: المادة الثانية من الدستور المصري الملغي لسنة 1971م؛ المادة الثانية من الإعلان الدستوري المصري الصادر في 30 مارس 2011م؛ المادة الثانية من الدستور المصري الحالي لعام 2014م؛ المادة 11 من الدستور اللبناني لسنة 1926م، المعدلة بالقانون الدستوري الصادر في التاسع من نوفمبر سنة 1943م؛ المادة الثانية من الدستور الأردني لسنة 1952م؛ الفصل الأول من الدستور التونسي لسنة 1959م؛ تصدير الدستور المغربي الصادر سنة 1962م؛ المادة الثالثة من الدستور الكويتي لسنة 1962م؛ المادة الثانية من الدستور المصري الدائم لسنة 1971م؛ المادة الرابعة من الدستور السوري لسنة 1973م؛ المادة الثانية من الدستور اليمني لسنة 1978م؛ المادة الثالثة من الدستور الجزائري لسنة 1989م؛ المادة الأولى من النظام الأساسي للحكم في المملكة العربية السعودية؛ المادة السادسة من الدستور الموريتاني لسنة 1991م؛ المادة 25 من دستور جمهورية مالي لسنة 1992م؛ المادة الثالثة من النظام الأساسي للدولة في سلطنة عمان الصادر سنة 1996م؛ المادة الثالثة من الدستور السوداني لسنة 1998م؛ المادة الثانية من الدستور البحريني لسنة 2002م؛ المادة الأولى من الدستور القطري لسنة 2004م؛ المادة الرابعة من الدستور العراقي لسنة 2005م؛ المادة الأولى من دستور جيبوتي لسنة 1992م؛ المادة الأولى من دستور جزر القمر لسنة 2001م).
ولا يقتصر التحديد الدستوري للغة الرسمية للدولة على الدول العربية، وإنما يمكن أن نجد له نظيراً في الدول غير العربية (يراجع على سبيل المثال: المادة الثانية الفقرة الأولى من الدستور الفرنسي لسنة 1958م؛ المادة التاسعة من الدستور التشادي لسنة 1996م؛ المادة الأولى من الدستور السنغالي لسنة 2001م).
وباعتباره إحدى سلطات الدولة الرئيسية، فإن لغة القضاء هي اللغة الرسمية للدولة. ويمكن أن نجد لهذا المبدأ أساساً في الفقه الإسلامي. ففيما يتعلق بالصفات اللازمة لصحة ولاية القاضي، يقول بعض الفقهاء إنه «ينبغي للقاضي أن يكون متيقظاً كثير التحرز من الحيل، وما يتم مثله على العقل الناقص أو المتهاون وأن يكون عالماً بالشروط عارفاً بما لابد منه من العربية واختلاف معاني العربية والعبارات، فإن الأحكام تختلف باختلاف العبارات في الدعاوى والإقرار والشهادات وغير ذلك، …» (راجع: الإمام علاء الدين علي بن خليل الطرابلسي الحنفي، معين الأحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بدون مكان نشر، د. ت، ص 14 وما بعدها).
وقد حرصت معظم التشريعات المنظمة للسلطة القضائية على تقرير هذا الحكم. وفي المقابل، وردت بعض تشريعات السلطة القضائية المقارنة خلواً من النص على لغة المحاكم. وسنحاول فيما يلي إلقاء الضوء على هذين الاتجاهين التشريعيين، متبعين ذلك ببيان رأينا في شأنهما، وذلك في مطالب ثلاثة، كما يلي:
المطلب الأول: اتجاه النص على لغة المحاكم في قانون السلطة القضائية.
المطلب الثاني: اتجاه خلو قانون السلطة القضائية من النص على لغة المحاكم.
المطلب الثالث: ترجيح اتجاه خلو قانون السلطة القضائية من النص على لغة المحاكم.
المطلب الأول
اتجاه النص على لغة المحاكم في قانون السلطة القضائية
كما سبق أن قلنا، تحرص معظم التشريعات العربية المنظمة للسلطة القضائية على النص على لغة المحاكم، والتأكيد على أن هذه اللغة هي اللغة العربية، منظوراً إليها باعتبارها اللغة الرسمية للدولة. ففي جمهورية مصر العربية، على سبيل المثال، ووفقاً للمادة التاسعة عشرة الفقرة الأولى من قانون السلطة القضائية رقم 46 لسنة 1972م، «لغة المحاكم هي اللغة العربية».
وفي دولة الإمارات العربية المتحدة، تنص المادة الخامسة والعشرون من المرسوم بقانون اتحادي رقم 32 لسنة 2022م في شأن السلطة القضائية الاتحادية على أن «لغة المحاكم هي اللغة العربية…». ورد النص على الحكم ذاته في المادة الخامسة عشرة من القانون الاتحادي الملغي رقم 3 لسنة 1983 في شأن السلطة القضائية الاتحادية.
وفي الاتجاه ذاته، تنص المادة الحادية عشرة البند الأول من القانون رقم 6 لسنة 2024م بشأن دائرة القضاء في إمارة أبو ظبي على أن «اللغة العربية هي لغة المحاكم،…». وقد ورد النص على الحكم ذاته في المادة الثانية عشرة من القانون الملغي رقم 23 لسنة 2006 بشأن دائرة القضاء في إمارة أبو ظبي.
وفي الإطار ذاته، تنص المادة السادسة عشرة الفقرة الأولى من القانون رقم 5 لسنة 2012 بشأن تنظيم القضاء في إمارة رأس الخيمة على أن «لغة المحاكم هي اللغة العربية».
وتقرر العديد من التشريعات العربية الحكم ذاته (يراجع على سبيل المثال: المادة الرابعة من قانون السلطة القضائية البحريني رقم 42 لسنة 2002م؛ المادة الثالثة من قانون السلطة القضائية اليمني رقم 1 لسنة 1991م؛ المادة 16 من قانون السلطة القضائية القطري؛ المادة 36 من نظام القضاء السعودي لسنة 1395هـ الموافق 1975م؛ المادة 26 من القرار رقم 6 لسنة 1374 و. ر بشأن نظام القضاء الليبي؛ المادة الرابعة من قانون السلطة القضائية الفلسطيني رقم 1 لسنة 2002م؛ المادة الخامسة من اتفاقية التنظيم القضائي الموحد بين دول اتحاد المغرب العربي).
المطلب الثاني
اتجاه خلو قانون السلطة القضائية من النص على لغة المحاكم
خلافاً للاتجاه سالف الذكر، تخلو بعض تشريعات السلطة القضائية المقارنة من النص على لغة المحاكم. بيان ذلك أن المادة التاسعة من قانون تشكيل المحاكم في إمارة دبي رقم 3 لسنة 1992م كانت تنص على أن «لغة المحاكم هي اللغة العربية،…». ولكن، خضع هذا القانون للإلغاء وحل محله قانون السلطة القضائية في إمارة دبي رقم 13 لسنة 2016م، والذي ورد خلواً من مثل هذا النص.
وفي الإطار ذاته، وبالاطلاع على القانون رقم 7 لسنة 2025 بشأن تنظيم السلطة القضائية في إمارة الشارقة، نجد أنه قد ورد بدوره خلواً من النص على لغة المحاكم.
ويمكن تبرير ذلك بأن التشريعات الإجرائية المدنية والجنائية تتضمن النص على مثل هذا الحكم، فلا يوجد ما يدعو إلى تكرار النص عليه. ونرى أن هذا الاتجاه هو الأولى بالتأييد، وذلك بناء على الأسانيد المبينة في المطلب التالي:
المطلب الثالث
ترجيح اتجاه خلو قانون السلطة القضائية من النص على لغة المحاكم
من حسن السياسة التشريعية ألا يتم بعثرة وتكرار النص على الحكم الواحد في أكثر من تشريع، بما قد يؤدي إليه ذلك من احتمال الاختلاف فيما بينها، ويقود بالتالي إلى تضارب الأحكام القضائية ويتنافى مع مقتضيات مبدأ الأمن القانوني. ومن ثم، ولما كانت التشريعات الإجرائية المدنية والجنائية تتضمن النص على لغة المحاكم، لذا لا يوجد ما يدعو إلى إيراد هذا الحكم في القانون المنظم للسلطة القضائية.
ومن ناحية أخرى، يمكن القول إن قانون السلطة القضائية يعد بمثابة قانون الخدمة المدنية فيما يتعلق بأعضاء السلطة القضائية ومعاونيهم والعاملين بالمحاكم. كما يحدد هذا القانون شكل التنظيم القضائي، بحيث يمكن اعتباره بمثابة الهيكل التنظيمي لمرفق القضاء وللمحاكم على اختلاف درجاتها. فهذا القانون يتضمن – أو ينبغي أن يتضمن – الأحكام الخاصة بتدرج المحاكم وأنواعها وتشكيلها، ونظام خدمة العاملين بها. ولذلك، تحيل تشريعات السلطة القضائية عادة إلى القوانين المتعلقة بالخدمة المدنية، في كل ما لم يرد به نص في قانون السلطة القضائية. فعلى سبيل المثال، تنص المادة (136) من قانون السلطة القضائية المصري على أنه «فيما عدا ما نص عليه في هذا القانون تسري على العاملين بالمحاكم الأحكام العامة للعاملين المدنيين بالدولة. ويكون لرئيس محكمة النقض سلطات الوزير ووكيل الوزارة المنصوص عليها في القوانين واللوائح بالنسبة للعاملين بالمحكمة. ويكون للنائب العام سلطات الوزير ووكيل الوزارة المشار إليها في الفقرة السابقة بالنسبة للعاملين بالنيابة العامة». وفي دولة الإمارات العربية المتحدة، تنص المادة (103) من مرسوم بقانون اتحادي رقم (32) لسنة 2022 في شأن السلطة القضائية الاتحادية على أنه «فيما عدا ما نص عليه هذا المرسوم بقانون، تسري على أعضاء السلطة القضائية أحكام التشريعات الخاصة بالموارد البشرية في الحكومة الاتحادية».
ومع ذلك، كثيراً ما يتضمن القانون المنظم للسلطة القضائية نصوصاً تنظم الإجراءات واجبة الإتباع أمام القضاء بجهاته المتعددة. وتلك النصوص تعد مكملة لقانون الإجراءات الجنائية، فيما لم يرد بشأنه نص فيه. ومثال ذلك النصوص المنظمة لما يجب إتباعه من إجراءات في حالات وقوع الجريمة من أحد القضاة، وضرورة الحصول على إذن بتحريك الدعوى من الجهات المنصوص عليها فيه. ولا توجد أدنى مشكلة بالنسبة لهذا النوع من الأحكام. إذ هي أحكام تخص القضاة دون غيرهم، ويكون سائغاً بالتالي أن يرد النص عليها في قانون السلطة القضائية. ولكن المشكلة تثور بالنسبة للنصوص الإجرائية العامة التي تتعلق بنظر الدعوى الجنائية أو بنظر الدعوى المدنية، والتي يكون المجال الطبيعي للنص عليها هو قانون الإجراءات الجنائية أو القانون الخاص بالإجراءات المدنية حسب الأحوال. وغني عن البيان أن الحكم المتعلق بلغة المحاكم هو أحد الأحكام ذات الصلة بنظر الدعوى.