صناعة التشريع بين الواقع والمأمول.. جرائم الجلسات
الدكتور أحمد عبد الظاهر – أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة
مقدمة
تشكل النصوص القانونية المتعلقة بجرائم الجلسات مصدر خلاف مستمر بين القضاة ممثلين في نادي القضاة وبين المحامين ممثلين في النقابة العامة القائمة على شؤون المهنة. وقد ظهر ذلك جلياً واضحاً في النقاشات الدائرة حالياً بمناسبة مشروع قانون الإجراءات الجنائية، والذي جرت مناقشته مؤخراً في اللجنة الفرعية المشكلة في مجلس النواب لإعداد الصيغة النهائية لمشروع القانون تمهيداً لعرضه على الجلسة العامة للمجلس المقرر انعقادها في شهر أكتوبر 2024م. والسبب الأساسي وراء تجدد هذا الخلاف من آن لآخر هو تعدد المواضع التي يتم النص فيها على جرائم الجلسات، بحيث يتم إيراد النصوص المقررة لها في كل من قانون السلطة القضائية وقانون الإجراءات الجنائية وقانون الإجراءات المدنية.
وما دمنا نتحدث عن مشكلة مستعصية تتجدد من وقت لآخر، يبدو من المناسب أن نستعرض الوقائع السابقة التي ثار بشأنها الخلاف بين القضاة والمحامين بشأن جرائم الجلسات، وذلك حتى يتضح لنا مواطن الخلاف بين جناحي العدالة، وصولاً إلى وضع المقترحات المناسبة لتفادي ذلك مستقبلاً. وقبل أن نتناول بالتفصيل النقاط سالفة الذكر، نرى من الملائم أن نلفت النظر أولاً إلى أهمية العلاقة بين القضاء والمحاماة، وذلك على النحو التالي:
المطلب الأول: أهمية العلاقة بين القضاء والمحاماة.
المطلب الثاني: الخلاف حول تضمين جرائم الجلسات في قانون السلطة القضائية.
المطلب الثالث: الخلاف حول نصوص جرائم الجلسات في قانون الإجراءات الجنائية.
المطلب الرابع: مدى ملاءمة الاكتفاء بنص قانون المحاماة في شأن جرائم الجلسات المرتكبة من المحامين.
المطلب الأول
أهمية العلاقة بين القضاء والمحاماة
لا يماري أحد في أن القضاء هو حصن الحقوق والحريات. وكما قال أحد كبار المحامين، «لا يفوت العقلاء في الوطن أن النيل من هيبة القضاء إخلال باستقرار المجتمع، لذلك فالحرص على ضرورة استمرار هذه الهيبة هو ضمانة أكيدة لاتزان المجتمع».
ومن ناحية أخرى، لا يفوتنا التأكيد على أن «المحاماة مهنة حرة تشارك السلطة القضائية في تحقيق العدالة وفي تأكيد سيادة القانون وكفالة حق الدفاع عن المواطنين وحرياتهم». وبعبارة أخرى، ووفقاً للمادة 198 من الدستور المصري الحالي لسنة 2014م، «المحاماة مهنة حرة، تشارك السلطة القضائية في تحقيق العدالة، وسيادة القانون، وكفالة حق الدفاع، ويمارسها المحامي مستقلاًـ، وكذلك محامو الهيئات وشركات القطاع العام وقطاع الأعمال العام. ويتمتع المحامون جميعاً أثناء تأديتهم حق الدفاع أمام المحاكم بالضمانات والحماية التي تقررت لهم في القانون مع سريانها عليهم أمام جهات التحقيق والاستدلال، ويحظر في غير حالات التلبس القبض على المحامي أو احتجازه أثناء مباشرته حق الدفاع، وذلك كله على النحو الذي يحدده القانون».
ولذلك، فإن الاحترام المتبادل بين جناحي العدالة ينبغي أن يسود دائماً العلاقة بين الطرفين. وفي ظل استقامة هذه العلاقة وقيامها على أسس سليمة، سوف يجد المحامي في القضاء الملاذ الآمن والضامن الأكيد لممارسة دوره على الوجه الأكمل. كذلك، سوف يجد القاضي في المحامي العون والسند في محراب القضاء وخارجه. وما نقول به ليس وهماً أو أملاً بعيد المنال. ويكفي أن نتذكر هنا الدور البطولي الذي قام به المحامون في باكستان، ووقوفهم إلى جانب القاضي «افتخار محمد تشودري» رئيس المحكمة العليا الذي أقاله الرئيس الباكستاني الأسبق «برفيز مشرف» من منصبه. ولم تهدأ احتجاجات المحامين ولم يهدأ لهم بال حتى نجحوا في إعادة رئيس المحكمة العليا وزملائه من قضاة المحكمة إلى مناصبهم، رغماً عن رئيس الدولة. كذلك، فقد فتحت نقابة المحامين المصرية أبوابها لشيوخ القضاء عندما حدثت مذبحة القضاء في عهد الرئيس الراحل «جمال عبد الناصر».
وإدراكاً لأهمية العلاقة بين المحامين والقضاة، تحرص دائرة القضاء في إمارة أبو ظبي على تضمين البرامج التدريبية المخصصة للمحامين موضوع «الحصانة القضائية للمحامي»، حيث تشرفت بالاشتراك مع المستشار الدكتور عبد المجيد محمود، النائب العام المصري الأسبق والمعار حالياً للعمل بدائرة القضاء في إمارة أبو ظبي، في تدريس هذا الموضوع. وربما يستغرب البعض استخدام مصطلح «الحصانة القضائية» فيما يتعلق بالمحامين. ولكن، وعند التحقيق والتدقيق، وبالنظر لأن الحصانة القضائية هي في حقيقتها وفحواها طريقة أو آلية معينة لمساءلة الشخص عن الجرائم المرتكبة منه، يبدو مستساغاَ استخدام مصطلح «الحصانة القضائية للمحامي»، منظوراً في ذلك إلى الحكم الخاص بجرائم الجلسات والحكم الخاص بالتحقيق مع المحامي أو تفتيش مكتبه.
المطلب الثاني
الخلاف حول تضمين جرائم الجلسات في قانون السلطة القضائية
كرس القانون رقم 46 لسنة 1972 بشأن السلطة القضائية الفصل الثالث منه لبيان الأحكام المتعلقة بالجلسات والأحكام، متضمناً النص في المادة الثامنة عشرة الفقرة الثانية منه على أن «نظام الجلسة وضبطها منوطان بالرئيس». وهكذا، جاء عبارات النص عامة، دون أن تتطرق لجرائم الجلسات.
ولكن، وبعد ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011م مباشرة، شكل المستشار حسام الغرياني رئيس محكمة النقض رئيس مجلس القضاء الأعلى آنذاك لجنة برئاسة المستشار أحمد مكي، نائب رئيس محكمة النقض آنذاك، لإعداد مشروع قانون السلطة القضائية، وفى الوقت نفسه شكل نادى قضاة مصر برئاسة المستشار أحمد الزند حينذاك لجنة برئاسة المستشار عبد الستار إمام رئيس نادى قضاة المنوفية آنذاك لإعداد مشروع مماثل معبراً عن وجهة نظر نادي قضاة مصر.
واتفقت اللجنتان فى التعديلات الجديدة على نقل تبعية التفتيش القضائي من وزارة العدل، إلى مجلس القضاء الأعلى، بالشكل الذي يضمن استقلال القضاء عن السلطة التنفيذية، بجانب إلغاء ندب القضاة للعمل فى المصالح الحكومية، والإبقاء على المادة 18 التي تنص على حبس المحامين فى قضايا الجلسات. وعندما احتدم الصراع بين اللجنتين حول من سيرى النور من المشروعين أولاً، تمهيداً لإقراره من المجلس العسكري قبل الانتخابات البرلمانية والرئاسية، تدخل وزير العدل آنذاك، المستشار محمد عبد العزيز الجندي، للتهدئة، وقابل التعديلات المقترحة بترحاب شديد، خاصة ما يتعلق بنقل تبعية التفتيش القضائي، قائلاً: «خذوا من صلاحيات وزير العدل ما شئتم».
ومع انتخاب برلمان 2011م، المعروف باسم «برلمان الإخوان»، والذي عقد أولى جلساته، فى يناير 2012، حاول وزير العدل آنذاك، المستشار عادل عبد الحميد، تقديم مشروع توافقي يجمع بين مشروعات مكي والزند وعدد من شيوخ القضاة، ويحقق الاستقلال الكامل للقضاء، لكن حل البرلمان فى شهر يونيو 2012م حال دون إقراره.
وبين شهري مارس وإبريل 2013م، طرحت جماعة الإخوان وحلفاؤها مشروع تعديل قانون للسلطة القضائية وأحيل إلى مجلس الشورى تمهيدا لإقراره، وكان أهم نص فى هذا المشروع هو خفض سن التقاعد للقضاة إلى 65 عاماً. وبالإضافة إلى هذا النص، والذي كان محل اعتراض وتنديد من جموع القضاة، تضمنت التعديلات المقترحة على قانون السلطة القضائية نصوصاً أخرى، وعلى رأسها المادتين 18 و18 مكرر، والتي كانت محل اعتراض من جموع المحامين، مؤكدين أن هاتين المادتين تنتقصان من حصاناتهم وحقوقهم خلال أداء مهام أعمالهم أمام المحاكم، ومطالبين من ثم بإرجاء مناقشة مشروع قانون السلطة القضائية الجديد إلى ما بعد الانتخابات البرلمانية. وتتعلق المادتان المقترح إضافتهما بجرائم الجلسات والسلطة الممنوحة للقاضي إزاء هذه الجرائم. وقد تسبب الأمر في حدوث أزمة كبيرة بين جناحي العدالة (القضاة والمحامين)، حيث بلغ الأمر ذروته بعد أن أضرب الكثير من المحامين عن العمل، مما تسبب في شلل تام بالعديد من المحاكم في مختلف محافظات مصر. ووصل الأمر إلى حد إغلاق بعض المحاكم بالجنازير والأقفال والتهديد بتعطيل العمل في مرفق القضاء برمته، في حالة عدم الاستجابة لمطالب المحامين. وقام المحامون في بعض المحافظات بتنظيم وقفات احتجاجية أمام بعض المحاكم، حيث منعوا القضاة والمواطنين من الدخول. كذلك، دعا المرشحون الأربعة لمنصب نقيب المحامين إلى عقد جمعية عمومية طارئة لبحث الموقف. ورداً على ذلك، وفي تصعيد مماثل من جانب القضاة، دعا رئيس نادي قضاة مصر الجمعيات العمومية للمحاكم بجميع درجاتها على مستوى الجمهورية إلى تعليق العمل بالمحاكم اعتباراً من يوم السبت الموافق 22 أكتوبر 2011م. وأشار البيان الصادر عن نادي القضاة إلى أن هذه الخطوة تأتي رداً على تدهور الأوضاع الأمنية بالمحاكم، وحتى تقوم الدولة بممارسة دورها في تأمين رجال القضاء ليتمكنوا من أداء رسالتهم. والإضافة إلى ذلك، اتهم أحد المرشحين الأربعة لمنصب نقيب المحامين اللجنة القضائية القائمة على إدارة النقابة بالعمل بشكل متعمد على تأجيل انتخابات النقابة إلى أجل غير مسمى، في محاولة منها لتمرير مشروع قانون السلطة القضائية.
مدى ملاءمة النص على جرائم الجلسات في قانون السلطة القضائية
عند البحث في مدى ملاءمة النص على جرائم الجلسات في قانون السلطة القضائية، يجدر بنا أولاً تحديد طبيعة قانون السلطة القضائية، وبيان نوع وطبيعة الأحكام التي ينبغي أن يتضمنها هذا القانون. ففي اعتقادنا، أن قانون السلطة القضائية يعد بمثابة قانون الخدمة المدنية فيما يتعلق بأعضاء السلطة القضائية ومعاونيهم والعاملين بالمحاكم. كما يحدد هذا القانون شكل التنظيم القضائي، بحيث يمكن اعتباره بمثابة الهيكل التنظيمي لمرفق القضاء وللمحاكم على اختلاف درجاتها. فهذا القانون يتضمن – أو ينبغي أن يتضمن – الأحكام الخاصة بتدرج المحاكم وأنواعها وتشكيلها، ونظام خدمة العاملين بها. ولذلك، تحيل تشريعات السلطة القضائية عادة إلى القوانين المتعلقة بالخدمة المدنية، في كل ما لم يرد به نص في قانون السلطة القضائية. فعلى سبيل المثال، تنص المادة (136) من قانون السلطة القضائية على أن «فيما عدا ما نص عليه في هذا القانون تسري على العاملين بالمحاكم الأحكام العامة للعاملين المدنيين بالدولة. ويكون لرئيس محكمة النقض سلطات الوزير ووكيل الوزارة المنصوص عليها في القوانين واللوائح بالنسبة للعاملين بالمحكمة. ويكون للنائب العام سلطات الوزير ووكيل الوزارة المشار إليها في الفقرة السابقة بالنسبة للعاملين بالنيابة العامة».
ومع ذلك، كثيراً ما يتضمن القانون المنظم للسلطة القضائية نصوصاً تنظم الإجراءات واجبة الإتباع أمام القضاء بجهاته المتعددة. وتلك النصوص تعد «مكملة» لقانون الإجراءات الجنائية وقانون المرافعات المدنية والتجارية، فيما لم يرد بشأنه نص فيه. ومثال ذلك النصوص المنظمة لما يجب إتباعه من إجراءات في حالات وقوع جريمة من أحد القضاة، وضرورة الحصول على إذن بتحريك الدعوى من الجهات المنصوص عليها فيه. ولا توجد أدنى مشكلة بالنسبة لهذا النوع من الأحكام. إذ هي أحكام تخص القضاة دون غيرهم، ويكون سائغاً بالتالي أن يرد النص عليها في قانون السلطة القضائية. ولكن المشكلة تثور بالنسبة للنصوص الإجرائية العامة التي تتعلق بنظر الدعوى الجنائية أو بنظر الدعوى المدنية، والتي يكون المجال الطبيعي للنص عليها هو قانون الإجراءات الجنائية أو قانون المرافعات المدنية والتجارية حسب الأحوال.
وإذا نظرنا إلى النصوص الخاصة بسلطة القاضي إزاء جرائم الجلسات، نجد أن الأمر يتعلق هنا بنظر الدعوى، دون أن يتوافر له أدنى صلة بنظام خدمة القضاة. وقد ورد النص على الأحكام الخاصة بجرائم الجلسات في قانون المرافعات المدنية والتجارية وفي قانون الإجراءات الجنائية. ففيما يتعلق بقانون المرافعات المدنية والتجارية، تنص المادة 104 على أن «ضبط الجلسة وإدارتها منوطان برئيسها، وله في سبيل ذلك ومع مراعاة أحكام قانون المحاماة أن يخرج من قاعة الجلسة من يخل بنظامها، فإن لم يمتثل وتمادى كان للمحكمة أن تحكم على الفور بحبسه أربعا وعشرين ساعة، أو بتغريمه خمسين جنيها. ويكون حكمها بذلك نهائيا. فإذا كان الإخلال قد وقع ممن يؤدون وظيفة في المحكمة كان لها أن توقع أثناء انعقاد الجلسة ما لرئيس المصلحة توقيعه من الجزاءات التأديبية. وللمحكمة إلى ما قبل انتهاء الجلسة أن ترجع عن الحكم الذي تصدره بناء على الفقرتين السابقتين». ووفقا للمادة 106 من ذات القانون، «مع مراعاة أحكام قانون المحاماة، يأمر رئيس الجلسة بكتابة محضر عن كل جريمة تقع أثناء انعقادها وبما يرى اتخاذه من إجراءات التحقيق ثم يأمر بإحالة الأوراق إلى النيابة لإجراء ما يلزم فيها. فإذا كانت الجريمة التي وقعت جناية أو جنحة كان له إذا اقتضت الحال أن يأمر بالقبض على من وقعت منه». وتنص المادة 107 من القانون ذاته على أنه «مع مراعاة أحكام قانون المحاماة، للمحكمة أن تحاكم من تقع منه أثناء انعقادها جنحة تعد على هيئتها أو على أحد أعضائها أو أحد العاملين بالمحكمة، وتحكم عليه فورا بالعقوبة. وللمحكمة أيضا أن تحاكم من شهد زورا بالجلسة وتحكم عليه بالعقوبة المقررة لشهادة الزور. ويكون حكم المحكمة في هذه الأحوال نافذا ولو حصل استئنافه». وفيما يتعلق بقانون الإجراءات الجنائية، تنص المادة 243 على أن «ضبط الجلسة وإدارتها منوطان برئيسها، وله في سبيل ذلك أن يخرج من قاعة الجلسة من يخل بنظامها فإن لم يمتثل وتمادى، كان للمحكمة أن تحكم على الفور بحبسه أربعا وعشرين ساعة أو بتغريمه عشرة جنيهات، ويكون حكمها بذلك غير جائز استئنافه. فإذا كان الإخلال قد وقع ممن يؤدي وظيفة في المحكمة كان لها أن توقع عليه أثناء انعقاد الجلسة ما لرئيس المصلحة توقيعه من الجزاءات التأديبية. وللمحكمة إلى ما قبل انتهاء الجلسة أن ترجع عن الحكم الذي تصدره». وتضيف المادة 244 من ذات القانون أنه «إذا وقعت جنحة أو مخالفة في الجلسة، يجوز للمحكمة أن تقيم الدعوى على المتهم في الحال، وتحكم بعد سماع أقوال النيابة العامة ودفاع المتهم. ولا يتوقف رفع الدعوى في هذه الحالة على شكوى أو طلب إذا كانت الجريمة من الجرائم المنصوص عليها في المواد 3، 8، 9 من هذا القانون. أما إذا وقعت جناية، يصدر رئيس المحكمة أمرا بإحالة المتهم إلى النيابة العامة بدون إخلال بحكم المادة 13 من هذا القانون. وفي جميع الأحوال، يحرر رئيس المحكمة محضرا، ويأمر بالقبض على المتهم إذا اقتضى الحال ذلك». وتنص المادة 245 على أنه «استثناء من الأحكام المنصوص عليها في المادتين السابقتين، إذا وقع من المحامي أثناء قيامه بواجبه في الجلسة وبسببه ما يجوز اعتباره تشويشاً مخلاً بالنظام، أو ما يستدعي مؤاخذته جنائياً، يحرر رئيس الجلسة محضرا بما حدث. وللمحكمة أن تقرر إحالة المحامي إلى النيابة العامة لإجراء التحقيق إذا كان ما وقع منه يستدعي مؤاخذته جنائياً، وإلى رئيس المحكمة إذا كان ما وقع منه يستدعي مؤاخذته تأديبياً. وفي الحالتين، لا يجوز أن يكون رئيس الجلسة التي وقع فيها الحادث أو أحد أعضائها عضوا في الهيئة التي تنظر الدعوى». ووفقا للمادة 246 من ذات القانون، «الجرائم التي تقع في الجلسة، ولم تقم المحكمة الدعوى فيها حال انعقادها، يكون نظرها وفقا للقواعد العادية».
وهكذا، يثور التساؤل عن السبب وراء تضمين مشروع قانون السلطة القضائية النص على حكم خاص بجرائم الجلسات، ولماذا لا يتم الاكتفاء بالنصوص الواردة بهذا الشأن في قانون المرافعات المدنية والتجارية وفي قانون الإجراءات الجنائية؟
إن حسن السياسة التشريعية يقتضي النص على الحكم الواحد في موضع واحد، فلا يجوز تبعيضه أو تجزئته بين أكثر من موضع، كما لا يجوز النص على ذات الحكم في أكثر من موضع أو في أكثر من قانون. وإذا أردنا تحديد الموضع الطبيعي للنص على نظام الجلسة وسلطة المحكمة إزاء الجرائم والمخالفات التي تقع أثناء انعقادها، يبدو سائغاً القول بأن قانون السلطة القضائية ليس هو الموضع المناسب لمثل هذه الأحكام. إذ ينبغي أن يقتصر هذا القانون على الأحكام الخاصة بنظام خدمة القضاة والأحكام الخاصة بترتيب المحاكم وتشكيلها ودرجاتها. فلا يجوز أن يتطرق هذا القانون إلى غير ذلك من أحكام خاصة بنظر الدعوى أو بضبط الجلسة وإدارتها. ونعتقد كذلك بعدم ملاءمة النص على هذه الأحكام في قانون الإجراءات الجنائية. فالموضع الطبيعي لها إنما يكمن في قانون المرافعات المدنية والتجارية باعتباره القانون الإجرائي العام.
وهكذا، يجدر بالقائمين على إعداد مشروع قانون السلطة القضائية حذف كل النصوص ذات الصلة بنظر الدعوى ونظام الجلسة، ولاسيما المادتين 18 و18 مكرر من هذا المشروع. وغني عن البيان أن هذا الحل يكفل تلافي الصدام بين القضاة والمحامين، وتدشين مرحلة جديدة من العلاقة الحسنة بين جناحي العدالة.
المطلب الثالث
الخلاف حول نصوص جرائم الجلسات في قانون الإجراءات الجنائية
نصت المادة 242 من مشروع قانون الإجراءات الجنائية لسنة 2024م، في نسخته المحالة من الحكومة إلى مجلس النواب، على أنه «مع عدم الإخلال بحالة التلبس، وبمراعاة أحكام قانون المحاماة، إذا وقع من المحامي أثناء قيامه بواجبه في الجلسة وبسببه ما يجوز اعتباره تشويشاً مخلاً بالنظام، أو ما يستدعي مؤاخذته جنائياً يحرر رئيس الجلسة محضراً بما حدث. وللمحكمة أن تقرر إحالة المحامي إلى النيابة العامة لإجراء التحقيق إذا كان ما وقع منه ما يستدعي مؤاخذته جنائياً، وإلى رئيس المحكمة إذا كان ما وقع منه يستدعي مؤاخذته تأديبياً. وفي جميع الأحوال لا يجوز أن يكون رئيس الجلسة التي وقع فيها الحادث أو أحد أعضائها عضواً في الهيئة التي تنظر الدعوى».
وبجلسة يوم الأربعاء الموافق الحادي عشر من شهر سبتمبر 2024م، وافقت لجنة الشئون الدستورية والتشريعية بمجلس النواب على مقترح نقابة المحامين بتعديل المادة 242 من مشروع قانون الإجراءات الجنائية الجديد – والتي كانت محل خلاف – في ضوء المقترح الذي قدمته النقابة، والذي يؤكد على الضمانات المقررة بنصوص الدستور وقانون المحاماة، حيث أيد السادة أعضاء اللجنة مقترح نقابة المحامين وتمت الموافقة على مقترح المادة 242 بعد النص فيها على عبارة (مع عدم الإخلال بالضمانات المقررة فى قانون المحاماة وتعديلاته) وحذف كلمة (التشويش)، وإحالة (مذكرة رئيس الجلسة) إلى النيابة بدلاً من (إحالة المحامي) حال ارتكابه جريمة من جرائم الجلسات، مؤكدين أن ذلك يشكل ضمانة حقيقية لحماية حق الدفاع.
وفي المقابل، صدر بيان نادي قضاة مصر، مؤكداً تمسك النادي بالنص الوارد في مشروع الحكومة.
مدى ملاءمة اعتبار التشويش سلوكاً إجرامياً
بالاطلاع على المادة 245 من قانون الإجراءات الجنائية رقم 150 لسنة 1950م، معدلة بالمرسوم بالقانون رقم 353 لسنة 1952م، نجدها تنص على أنه «استثناء من الأحكام المنصوص عليها في المادتين السابقتين، إذا وقع من المحامي أثناء قيامه بواجبه في الجلسة وبسببه ما يجوز اعتباره تشويشاً مخلاً بالنظام، أو ما يستدعي مؤاخذته جنائياً يحرر رئيس الجلسة محضراً بما حدث. وللمحكمة أن تقرر إحالة المحامي إلى النيابة العامة لإجراء التحقيق إذا كان ما وقع منه يستدعي مؤاخذته جنائياً، وإلى رئيس المحكمة إذا كان ما وقع منه يستدعي مؤاخذته تأديبياً. وفي الحالتين لا يجوز أن يكون رئيس الجلسة التي وقع فيها الحادث أو أحد أعضائها عضواً في الهيئة التي تنظر الدعوى». والبين من هذا النص أن لفظ «التشويش» قد ورد في نص المادة 245 من قانون الإجراءات الجنائية الساري حالياً. كذلك، وبالمقارنة بين هذا النص وبين نص المادة 242 من المشروع، يبدو جلياً التطابق التام بين نص المادتين، بما يجعل الاعتراضات الموجهة من المحامين إلى نص المشروع تنطبق أيضاً على نص القانون الساري، سواء فيما يتعلق باستخدام لفظ «التشويش» أو فيما يتعلق بتعبير «إحالة المحامي».
ومن ناحية أخرى، وبالمقارنة بين النص المتعلق بجرائم الجلسات المرتكبة من المحامين وبين النص المتعلق بغيرهم من الحضور، نجد أن المشرع يستخدم تعبير «الإخلال بنظام الجلسة». إذ تنص المادة 243 من قانون الإجراءات الجنائية الحالي على أن «ضبط الجلسة وإدارتها منوطان برئيسها، وله في سبيل ذلك أن يخرج من قاعة الجلسة من يخل بنظامها فإن لم يمتثل وتمادى، كان للمحكمة أن تحكم على الفور بحبسه أربعاً وعشرين ساعة أو بتغريمه عشرة جنيهات، ويكون حكمها بذلك غير جائز استئنافه، فإذا كان الإخلال قد وقع ممن يؤدي وظيفة في المحكمة كان لها أن توقع عليه أثناء انعقاد الجلسة ما لرئيس المصلحة توقيعه من الجزاءات التأديبية. وللمحكمة إلى ما قبل انتهاء الجلسة أن ترجع عن الحكم الذي تصدره». وعلى النسق والمنوال ذاته، وبالعبارات ذاتها تقريباً، تنص المادة 240 من مشروع قانون الإجراءات الجنائية لسنة 2024م على أن «ضبط الجلسة وإدارتها منوطان برئيسها، وله في سبيل ذلك أن يخرج من قاعة الجلسة من يخل بنظامها، فإن لم يمتثل وتمادى، كان للمحكمة أن تحكم على الفور بحبسه أربعاً وعشرين ساعة أو بتغريمه خمسمائة جنيه، ويكون حكمها بذلك غير جائز استئنافه، فإذا كان الإخلال قد وقع ممن يؤدي وظيفة في المحكمة كان لها أن توقع عليه أثناء انعقاد الجلسة ما للسلطة المختصة توقيعه من الجزاءات التأديبية. ويجوز للمحكمة إلى ما قبل انتهاء الجلسة أن ترجع عن الحكم أو القرار الذي تصدره بناء على الفقرة الأولى من هذه المادة».
وهكذا، لم يستخدم المشرع تعبير «التشويش المخل بالنظام» فيما يتعلق بالحضور من غير المحامين. ومن ثم، يثور التساؤل عن السبب وراء هذه المغايرة في الألفاظ بين المحامين وغيرهم. كذلك، يثور التساؤل عن السبب وراء الإصرار على التعامل جنائياً مع المحامي في هذه الحالة، على الرغم من ضآلة العقوبة الموقعة جزاء التشويش المخل بالنظام، ولماذا لا يتم الاكتفاء بالجزاء التأديبي أسوة بمن يؤدي وظيفة في المحكمة.
إحالة المحامي أم إحالة الواقعة
بالاطلاع على النصوص المتعلقة بانتهاء التحقيق والتصرف في الدعوى، الواردة في قانون الإجراءات الجنائية الساري حالياً أو تلك الواردة في مشروع قانون الإجراءات الجنائية لسنة 2024م، نجدها تستعمل بشكل واضح وصريح مصطلح «إحالة الدعوى»، ولا تستخدم مطلقاً تعبير «إحالة المتهم». ففيما يتعلق بالجنح، ووفقاً للمادة 152 من المشروع، «إذا رأت النيابة العامة أن الواقعة جنحة، وأن الأدلة على المتهم كافية، رفعت الدعوى إلى المحكمة الجزائية المختصة بنظرها، …». وبدورها، تنص المادة 153 من المشروع على أنه «يجب على النيابة العامة عند صدور القرار بإحالة الدعوى إلى المحكمة الجزائية أن تقوم بإرسال جميع الأوراق إلى قلم كتاب المحكمة خلال ثلاثة أيام، وبإعلان الخصوم بالحضور أمام المحكمة في أقرب جلسة في المواعيد المقررة». وفيما يتعلق بالجنايات، وطبقاً للمادة 154 من المشروع، «إذا رأت النيابة العامة أن الواقعة جناية أو من الجنح التي تقع بواسطة الصحف أو غيرها من طرق النشر عدا الجنح المضرة بأفراد الناس، وأن الأدلة كافية ترفع الدعوى إلى محكمة جنايات أول درجة، وتعلن المتهم بأمر إحالتها، وترسل الأوراق إليها فوراً». وهكذا، يتفادى المشرع استخدام عبارة «إحالة المتهم» في كافة النص المتعلقة بانتهاء التحقيق والتصرف في الدعوى، مستخدماً فحسب تعبير «إحالة الدعوى». ومن ثم، يبدو مستغرباً استخدام تعبير إحالة المحامي في المادة 242 من المشروع ذاته.
المطلب الرابع
مدى ملاءمة الاكتفاء بنص قانون المحاماة
في شأن جرائم الجلسات المرتكبة من المحامين
تضمن قانون المحاماة المصري رقم 17 لسنة 1983 النص على حكم جرائم الجلسات المرتكبة من المحامين، وذلك في المادة التاسعة والأربعين منه، بنصها على أن «للمحامي الحق في أن يعامل من المحاكم وسائر الجهات التي يحضر أمامها بالاحترام الواجب للمهنة. واستثناء من الأحكام الخاصة بنظام الجلسات والجرائم التي تقع فيها المنصوص عليها في قانوني المرافعات والإجراءات الجنائية إذا وقع من المحامي أثناء وجوده بالجلسة لأداء واجبه أو بسببه إخلال بنظام الجلسة أو أي أمر يستدعي محاسبته نقابياً أو جنائياً، يأمر رئيس الجلسة بتحرير مذكرة بما حدث ويحيلها إلى النيابة العامة ويخطر النقابة الفرعية المختصة بذلك». وتضيف المادة الخمسون من القانون ذاته أنه «في الحالات المبينة بالمادة السابقة لا يجوز القبض على المحامي أو حبسه احتياطياً، ولا ترفع الدعوى الجنائية فيها إلا بأمر من النائب العام أو من ينوب عنه من المحامين العامين الأول. ولا يجوز أن يشترك في نظر الدعوى الجنائية أو الدعوى التأديبية المرفوعة على المحامي أحد أعضاء الهيئة التي وقع الاعتداء عليها».
والبين من النص سالف الذكر أن المشرع قد حدد السلوك محل المساءلة النقابية أو الجنائية بأنه «إخلال بنظام الجلسة» أو «أي أمر يستدعي محاسبته نقابياً أو جنائياً». أما الأثر القانوني المترتب على ارتكاب المحامي السلوك سالف الذكر، فهو أن يأمر رئيس الجلسة بتحرير مذكرة بما حدث، وإحالتها إلى النيابة العامة، وإخطار النقابة الفرعية المختصة بذلك. ومتى حدث ذلك، وأصبحت المذكرة في حوزة النيابة العامة، فإن المشرع يضع بعض الضمانات للمحامي، مقرراً عدم جواز القبض على المحامي أو حبسه احتياطياً، ولا ترفع الدعوى الجنائية فيها إلا بأمر من النائب العام أو من ينوب عنه من المحامين العامين الأول.
والتساؤل الذي يثور في هذا الشأن هو ما إذا كان من الملائم الاكتفاء بالنصوص الواردة في قانون المحاماة بشأن جرائم الجلسات المرتكبة من المحامين، وبحيث يتم حذف كل إشارة إلى النص النظير لها في كل من قانون الإجراءات الجنائية وقانون الإجراءات المدنية.
وفي الإجابة عن هذا التساؤل، تجدر الإشارة إلى أن قانون الإجراءات الجنائية قد ورد خلواً من الأحكام الخاصة بذوي الحصانات القضائية، والتي لا يجوز بالنسبة لهم تحريك الدعوى الجنائية إلا بناء على إذن من الجهات التي يتبعون لها، كل في نطاق اختصاصه. بيان ذلك أن الفصل الأول من الباب الأول من الكتاب الأول من قانون الإجراءات الجنائية الساري حالياً قد ورد تحت عنوان «فيمن له رفع الدعوى الجنائية، وفي الأحوال التي يتوقف فيها رفعها على شكوى أو طلب». وهكذا، وعلى الرغم من أن فقهاء القانون الجنائي يذكرون قيوداً ثلاثة على حرية النيابة العامة في تحريك الدعوى الجنائية، وهي الشكوى والطلب والإذن، فإن قانون الإجراءات الجنائية قد اكتفى فقط بالنص على كل من الشكوى والطلب، تاركاً حالات الإذن بتحريك الدعوى الجنائية للقوانين الخاصة بذوي الحصانات القضائية. ومن ثم، يبدو من السائغ كذلك ألا ينص قانون الإجراءات الجنائية على حكم جرائم الجلسات المرتكبة من المحامين، تاركاً النص عليها للقانون المنظم لمهنة المحاماة.