صناعة التشريعات الجنائية.. أصول الصياغة التشريعية

بقلم/ الدكتور أحمد عبد الظاهر – أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة

في الفترة من أول شهر نوفمبر وحتى آخر شهر ديسمبر 2020م، عقد معهد التدريب القضائي بوزارة العدل في دولة الإمارات العربية المتحدة دورة المحامين رقم (96)، حيث كان لي شرف المشاركة في هذه الدورة، من خلال تدريس مادة «الإجراءات في الدعوى الجزائية»، وذلك لمدة (24) ساعة تدريبية. وفي ختام البرنامج، قمت بإعداد ورقة اختبار للمتدربين، تتضمن أسئلة ثلاثة، كان أحدها عما إذا كان قانون العقوبات الاتحادي لدولة الإمارات العربية المتحدة يتضمن أحكاماً إجرائية، أي أحكام تتعلق بالإجراءات الجنائية، وليس بالتجريم والعقاب.

وفي الإجابة عن هذا السؤال، ذكر أحد المتدربين المادة الثانية والستين من قانون العقوبات، الصادر بالقانون الاتحادي رقم (3) لسنة 1987م، والتي تنص على أن «لا تقام الدعوى الجنائية على من لم يكن وقت ارتكاب الجريمة قد أتم السابعة من عمره وتثبت السن بوثيقة رسمية فإن تعذر ذلك ندبت جهة التحقيق أو المحاكمة طبيباً مختصاً لتقديرها بالوسائل الفنية.

ومع ذلك يجوز لجهات التحقيق ومحاكم الأحداث أن تأمر باتخاذ الإجراءات التربوية أو العلاجية المناسبة لحالة هذا الحدث إذا رأت ضرورة لذلك». وكما هو واضح من عنوانها ومضمونها، تتعلق هذه المادة ﺑ «فقد التمييز» كأحد أسباب امتناع المسئولية. وغني عن البيان أن الاجماع الفقهي منعقد على تناول أسباب امتناع المسئولية أو «موانع المسئولية» ضمن موضوعات القسم العام من قانون العقوبات، وتحديداً عند الحديث عن الركن المعنوي للجريمة. والمراد بمصطلح «موانع المسئولية» هو الحالات التي تتجرد فيه الإرادة من القيمة القانونية، فلا يعتد بها القانون، ولا تصلح بالتالي محلاً لوصفها بأنها إرادة إجرامية، ولا يتوافر بها الركن المعنوي للجريمة. كذلك، ينعقد إجماع التشريعات المقارنة على النص عليها في القانون الجنائي الموضوعي، أي قانون العقوبات، وليس في القانون الجنائي الإجرائي، أي قانون الإجراءات الجنائية. ومع ذلك، فقد ورد صدر المادة الثانية والستين من قانون العقوبات الاتحادي على نحو قد يوحي أننا بصدد نص إجرائي، وليس نصاً موضوعياً، من خلال استخدام عبارة «لا تقام الدعوى الجنائية».

ولعل ذلك ما دفع المتدرب المشار إليه إلى الاعتقاد بأن المادة الثانية والستين من قانون العقوبات الاتحادي تقرر حكماً إجرائياً. ولعل ذلك يتأكد من خلال المقارنة بين نص المادة سالفة الذكر وبين نصوص المواد المقابلة في التشريعات الجنائية العربية، والتي تستخدم صياغة مغايرة لنص المادة الثانية والستين من قانون العقوبات الاتحادي. إذ تكاد تجمع التشريعات الجنائية العربية الأخرى على استخدام عبارة «لا يسأل جنائياً» أو «لا يسأل جزائياً» أو «لا مسئولية» أو «لا مسئولية جنائية» أو «تمتنع المسئولية الجنائية». فعلى سبيل المثال، ووفقاً للمادة الرابعة والتسعين الفقرة الأولى من قانون الطفل المصري رقم 12 لسنة 1996م، معدلة بالقانون رقم 126 لسنة 2008م، «تمتنع المسئولية الجنائية علي الطفل الذي لم يجاوز اثنتي عشرة سنة ميلادية كاملة وقت ارتكاب الجريمة». وهكذا، استخدم المشرع المصري تعبير «تمتنع المسئولية الجنائية»، ولم يستخدم عبارة «لا تقام الدعوى الجنائية» على نحو ما ورد في قانون العقوبات الاتحادي.

أما المادة الثانية من نظام الأحداث السعودي، الصادر بالمرسوم رقم (م/ 113) تاريخ 19/ 11/ 1439ه، فتنص على أن «لا يسأل جزائيًّا من لم يتم (السابعة) من عمره، وقت ارتكاب الفعل المعاقب عليه». وبدورها، تنص المادة الثامنة عشرة من قانون الجزاء الكويتي، الصادر بالقانون رقم 16 لسنة 1960م، على أن «لا يسأل جزائيًّا من لم يبلغ من العمر وقت ارتكاب الجريمة سبع سنين كاملة».

وفي الاتجاه ذاته، تنص المادة الحادية والثلاثون من قانون العقوبات البحريني الصادر بالمرسوم بقانون رقم 15 لسنة 1976م على أن «لا مسئولية على من ارتكب الفعل المكون للجريمة من غير إدراك أو اختيار». وبالعبارات ذاتها تقريباً، وبموجب المادة الثالثة من قانون العدالة الإصلاحية للأطفال وحمايتهم من سوء المعاملة، الصادر بالقانون رقم 4 لسنة 2021م، «لا مسئولية جنائية على الطفل الذي لم تتجاوز سنه خمس عشرة سنة ميلادية كاملة وقت ارتكاب الجريمة وتتبع في شأنه الأحكام المنصوص عليها في هذا القانون».

وطبقاً للمادة التاسعة والأربعين من قانون الجزاء العماني، الصادر بالمرسوم السلطاني رقم 7/ 2018، «لا يسأل جزائيا من لم يبلغ التاسعة من عمره وقت ارتكاب الجريمة. ولا يعتد في تقدير السن بغير وثيقة رسمية، فإذا لم توجد قدرت سنه بمعرفة الجهة المختصة».

وفي الإطار ذاته، تنص المادة الثالثة والخمسون من قانون عقوبات قطر، الصادر بالقانون رقم 11 لسنة 2004م، على أن «لا يسأل جنائيًا من لم يكن قد أتم السابعة من عمره وقت ارتكاب الجريمة». وتنص المادة السابعة من القانون القطري رقم (1) لسنة 1994 بشأن الأحداث على أن «لا مسؤولية على من لم يبلغ من العمر تمام السابعة».

وعلى هذا النحو، يبدو جلياً أن صياغة النصوص الجنائية ينبغي أن تكون معبرة ودالة على طبيعة الحكم القانوني الوارد به، وما إذا كان حكماً موضوعياً يتعلق بالتجريم والعقاب والمسئولية الجنائية، أم كان حكماً إجرائياً يتعلق بالدعوى الجنائية وتحديد الاختصاص القضائي. والله من وراء القصد…

 

 

 

 

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى