صناعة الاقتصاد الإبداعي..حقوق فناني الأداء
الدكتور أحمد عبد الظاهر استاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة – المستشار القانوني بدائرة القضاء – أبو ظبي
مقدمة
في يوم الثلاثاء الموافق السادس والعشرين من شهر سبتمبر 2023م، حظيت بشرف إلقاء محاضرة بأكاديمية أبو ظبي القضائية عن «حقوق فناني الأداء». وقد انعقدت هذه المحاضرة من خلال تقنيات الاتصال عن بعد، وكانت بالاشتراك مع الصديقة العزيزة الأستاذة الدكتورة رانيا يحيى، عميد المعهد العالي للنقد الفني بأكاديمية الفنون.
وقد شاءت الصدفة وحدها أن تتزامن هذه المحاضرة مع الاستعدادات لبدء العام الدراسي الجديد في جمهورية مصر العربية. ومع بدء الاستعداد للعام الدراسي الجديد، تداول النشطاء على وسائل التواصل الاجتماعي منشوراً عن تدريس مسيرة الفنانة سميحة أيوب بمقرر الصف السادس الابتدائي، باعتبارها إحدى الشخصيات المصرية المؤثرة، وذلك ضمن مقرر مادة المهارات والأنشطة. ورداً على الضجة التي أثيرت من البعض حول هذا الموضوع، يقول أحد الكتاب إن «الثقافة والفن هي القوى الناعمة المصرية، أكبر بئر نفط مصري، المسرح أبو الفنون وسميحة أيوب سيدة المسرح القومي التي قدمت على خشبته أروع المسرحيات، وبدلاً من أن نسعد بهذا الاتجاه الجديد لتكريم رموزنا الفنية وإلقاء الضوء عليهم، نهيل التراب وننتقد ونهاجم، بدلاً من أن نطالب بالمزيد من الضوء على الرموز والاهتمام بعمالقة المسرح والسينما والباليه والموسيقى وغيرهم»( ).
كذلك، وتعبيراً عن تقدير الدولة المصرية للفن والفنانين، وفي يوم الأربعاء الموافق الحادي عشر من شهر أغسطس 2021م، أمر الرئيس عبد الفتاح السيسي بإطلاق أسماء بعض السياسيين والشخصيات العامة البارزة على عدد من الكباري والمحاور المرورية في العاصمة المصرية، القاهرة، كان من بينهم الفنان المصري الراحل سمير غانم، والذي تم إطلاق اسمه على كوبري جديد على محور محمد نجيب المتقاطع أعلى الطريق الدائري في العاصمة المصرية.
وغني عن البيان أن الدستور الحالي الصادر سنة 2014م يعتبر «الرصيد الفني المعاصر» أحد «المقومات الثقافية» للمجتمع المصري. فوفقاً للمادة الخمسين من الدستور، «تراث مصر الحضاري والثقافي، المادي والمعنوي، لجميع تنوعاته ومراحله الكبرى، المصرية القديمة، والقبطية، والإسلامية، ثروة قومية وإنسانية، تلتزم الدولة بالحفاظ عليه وصيانته، وكذا الرصيد الثقافي المعاصر المعماري والأدبي والفني بمختلف تنوعاته، والاعتداء على أي من ذلك جريمة يعاقب عليها القانون، وتولي الدولة اهتماماً خاصاً بالحفاظ على مكونات التعددية الثقافية في مصر».
وإذا كانت حقوق فناني الأداء تحظى بهذه الأهمية الدستورية والسياسية، فإن التساؤل يثور عما إذا كان التنظيم التشريعي المقرر لهذه الحقوق يعكس تلك الأهمية أم أن ثمة قصور تشريعي في هذا الشأن. ومن هنا، كانت هذه الدراسة التي تلقي الضوء على فلسفة التشريع المصري والتشريعات العربية بشأن تنظيم حقوق فناني الأداء، والواقع الحالي لهذه التشريعات، وصولاً إلى بيان المأمول من خلال الوقوف على السياسة التشريعية المثلى في هذا الشأن.
خطة الدراسة
للوصول إلى أفضل خطة تشريعية بشأن تنظيم حقوق فناني الأداء، نرى من المناسب تقسيم الدراسة التي نحن بصددها إلى خمسة مطالب، كما يلي:
المطلب الأول: المقصود بفناني الأداء.
المطلب الثاني: النظرة التبعية لحقوق فناني الأداء في التشريعات العربية.
المطلب الثالث: النظرة الاستقلالية لحقوق فناني الأداء في التشريعات الأنجلو سكسونية.
المطلب الرابع: النظرة الاستقلالية لحقوق فناني الأداء في الاتفاقيات الدولية.
المطلب الخامس: تفضيل النظرة الاستقلالية لحقوق فناني الأداء.
المطلب الأول
المقصود بفناني الأداء
تحرص التشريعات العربية بشأن حماية الملكية الفكرية على تحديد المقصود بفناني الأداء. فعلى سبيل المثال، تنص المادة 138 البند الثاني عشر من قانون حماية حقوق الملكية الفكرية رقم 82 لسنة 2002م على أن «فنانو الأداء: الأشخاص الذين يمثلون أو يغنون أو يلقون أو ينشدون أو يعزفون أو يرقصون في مصنفات أدبية أو فنية محمية طبقاً لأحكام هذا القانون أو آلت إلى الملك العام، أو يؤدون فيها بصورة أو بأخرى، بما في ذلك التعبيرات الفلكلورية».
وفي المعنى ذاته، وطبقاً للمادة الأولى من المرسوم بقانون اتحادي رقم (38) لسنة 2021 بشأن حقوق المؤلف والحقوق المجاورة، «فنانو الأداء: الممثلون، والمغنون، والموسيقيون، والراقصون، وغيرهم من الأشخاص الذين يلقون أو ينشدون أو يعزفون أو يؤدون بأي صورة، في مصنفات أدبية أو فنية أو أي من أوجه التعبير الفلكلوري متى كانت محمية طبقا لأحكام هذا المرسوم بقانون أو داخلة في إطار الملك العام».
وفي الجمهورية التونسية، وطبقاً للفصل 47 ثالثاً من القانون عدد 36 لسنة 1994 المؤرخ في 24 فيفري 1994 والمتعلّق بالملكية الأدبية والفنية، مضاف بموجب القانون عدد 33 لسنة 2009 مؤرخ في 23 جوان 2009، يحدد المشرع المقصود بفناني الأداء، بنصه على أن «يقصد بفناني الأداء في مفهوم هذا القانون: الممثلون والمغنون والموسيقيون والراقصون وغيرهم من الأشخاص الذين يمثلون أو يغنون أو يلعبون أو ينشدون أو يعزفون أو يؤدون بأية طريقة أخرى المصنفات الأدبية أو الفنية المحمية أو المدرجة ضمن الفنون الشعبية على معنى الفصل 7 من هذا القانون أو التي سقطت في الملك العام».
وقد يرى البعض من الأنسب والأفضل استخدام تعبير «مبدعي الأداء» بدلاً من مصطلح «فناني الأداء»، ناظراً في ذلك إلى أن قراء القرآن الكريم هم ممن ينطبق عليهم التعريف القانوني سالف الذكر لفناني الأداء( ).
المطلب الثاني
النظرة التبعية لحقوق فناني الأداء في التشريعات العربية
أياً ما كان الأمر، وسواء أطلق عليهم تعبير «فناني الأداء» أو «مبدعي الأداء» أو «المؤدين» أو «الفنانون المؤدون» أو أي مصطلح آخر، وباستقراء خطة التشريعات العربية في شأن هذه الطائفة من المبدعين، يبدو سائغاً القول إن النظرة التشريعية السائدة في التشريعات العربية إلى «حقوق فناني الأداء» باعتبارها من «الحقوق المجاورة» أو «الحقوق المتصلة بحق المؤلف». ولعل ذلك يبدو جلياً من خلال الاطلاع على نصوص القوانين والتشريعات ذات الصلة. ففي دولة الإمارات العربية المتحدة، على سبيل المثال، وطبقاً للمادة الأولى من المرسوم بقانون اتحادي رقم (38) لسنة 2021 بشأن حقوق المؤلف والحقوق المجاورة، يحدد المشرع المقصود بأصحاب الحقوق المجاورة، مقرراً أنهم «فنانو الأداء، ومنتجو التسجيلات الصوتية، وهيئات الإذاعة، وفقاً لأحكام هذا المرسوم بقانون».
والأمر ذاته ينطبق على القانون الكويتي رقم (75) لسنة 2019 بإصدار قانون حقوق المؤلف والحقوق المجاورة، حيث تنص المادة الأولى البند الثامن منه على أن «الحقوق المجاورة: الحقوق التي يتمتع بها من يقومون بنقل عمل المؤلف الى الجمهور، ويعرفون بأصحاب الحقوق المجاورة وهم فنانو الأداء ومنتجو التسجيلات الصوتية وهيئات البث».
والحال ذاته ينطبق على القانون البحريني رقم (22) لسنة 2006 بشأن حماية حقوق المؤلف والحقوق المجاورة، والقانون القطري رقم (7) لسنة 2002 بشأن حماية حق المؤلف والحقوق المجاورة، والمرسوم السلطاني العماني رقم 65 لسنة 2008 بإصدار قانون حقوق المؤلف والحقوق المجاورة.
وإذا كان المشرع المصري قد سلك منهجاً مغايراً بعض الشيء، مفضلاً وضع تقنين جامع لكل حقوق الملكية الفكرية، وذلك بموجب قانون حماية حقوق الملكية الفكرية الصادر بالقانون رقم 82 لسنة 2002م، فإن النظرة ذاتها إلى «حقوق فناني الأداء» باعتبارهم من أصحاب «الحقوق المجاورة لحق المؤلف» قد بقيت قائمة. وللتدليل على ذلك، يكفي أن نشير إلى عنوان الكتاب الثالث من هذا القانون، والذي ورد على النحو التالي: «حقوق المؤلف والحقوق المجاورة».
وفي الجمهورية اللبنانية، ورغم أن القانون ذي الصلة بالموضوع الذي نحن بصدده يحمل عنوان «حماية الملكية الأدبية والفنية»، وهو قانون حماية الملكية الأدبية والفنية رقم 75 لسنة 1999م، بحيث لم يظهر تعبير «الحقوق المجاورة» في عنوانه، فإن النظرة ذاتها بقيت موجودة في نصوص القانون ذاته. إذ تنص المادة الأولى من هذا القانون على أن «الحقوق المجاورة هي الحقوق التي يتمتع بها الفنانون المؤدون ومنتجو التسجيلات السمعية ومؤسسات ومحطات وشركات وهيئات البث التليفزيوني والإذاعي ودور النشر».
وفي الجمهورية التونسية، وبالاطلاع على القانون عدد 36 لسنة 1994 المؤرخ في 24 فيفري 1994 والمتعلّق بالملكية الأدبية والفنية، نجد أنه قد ورد خلواً من أدنى إشارة إلى مصطلح الحقوق المجاورة. ومن ثم، فقد يتبادر إلى ذهن البعض أن المشرع التونسي قد تبنى منهجاً مغايراً في هذا الشأن. والواقع أن القانون المشار إليه قد ورد خلواً من تنظيم حقوق فناني الأداء. ولهذا السبب، لم يرد به مصطلح الحقوق المجاورة. ولذلك، أصدر المشرع التونسي القانون عدد 33 لسنة 2009 مؤرخ في 23 جوان 2009 يتعلق بتنقيح وإتمام القانون عدد 36 لسنة 1994 المؤرخ في 24 فيفري 1994 المتعلق بالملكية الأدبية والفنية. وبموجب هذا القانون الجديد، أضاف المشرع باباً جديداً إلى القانون المتعلق بالملكية الأدبية والفنية، وهو الباب السابع مكرر، ويحمل عنوان «الحقوق المجاورة». وطبقاً للفصل 47 مكرر، «يقصد بالحقوق المجاورة في مفهوم هذا القانون، الحقوق التي يتمتع بها فنانو الأداء ومنتجو التسجيلات السمعية أو السمعية البصرية والهيئات الإذاعية والتلفزية».
ويبدو أن التشريعات العربية قد تأثرت جميعها في هذا النهج بالقانون الفرنسي رقم 92 – 597 الصادر بتاريخ الأول من يوليو 1992 بشأن قانون الملكية الفكرية. إذ يتعلق الكتاب الأول من هذا القانون بحق المؤلف. أما الكتاب الثاني منه، فقد ورد تحت عنوان «الحقوق المجاورة لحق المؤلف».
المطلب الثالث
النظرة الاستقلالية لحقوق فناني الأداء في التشريعات الأنجلو سكسونية
خلافاً لخطة التشريعات العربية والقانون الفرنسي في شأن تنظيم حقوق فناني الأداء، والتي تنظر لها باعتبارها حقوقاً مجاورة لحقوق المؤلف، جاءت العديد من التشريعات الأنجلو سكسونية بنظرة استقلالية لحقوق فناني الأداء. فعلى سبيل المثال، وفي المملكة المتحدة لبريطانيا العظمى وإيرلندا الشمالية، صدر أولاً قانون حماية فناني الأداء المسرحي والموسيقي لعام 1958م. وقد خضع هذا القانون للتعديل بموجب قانون حماية فناني الأداء لسنة 1972م.
وفي جنوب أفريقيا، ثمة قانون خاص بحقوق فناني الأداء، وهو القانون رقم 11 لسنة 1967 بشأن حماية فناني الأداء. وفي جمهورية إيرلندا، صدر قانون حماية فناني الأداء لسنة 1968م.
المطلب الرابع
النظرة الاستقلالية لحقوق فناني الأداء في الاتفاقيات الدولية
على النسق ذاته المتبع في التشريعات الأنجلو سكسونية، وتأثراً بخطتها في تنظيم حقوق فناني الأداء، تنتهج الاتفاقيات الدولية مسلكاً مغايراً لمنهج التشريعات العربية واللاتينية، من خلال إفراد اتفاقية مستقلة لحقوق فناني الأداء، وبحيث لا يتم الجمع بينها وبين حقوق المؤلف. ولعل ذلك يبدو جلياً من مطالعة عنوان «اتفاقية روما بشأن حماية فناني الأداء ومنتجي التسجيلات الصوتية وهيئات الإذاعة لسنة 1961م». والأمر ذاته ينطبق على «معاهدة الويبو بشأن الأداء والتسجيل الصوتي لسنة 1996م». وإذا كان مشروع «معاهدة حماية الأداء السمعي البصري» لم ير النور، ولم يتسن اعتمادها حتى تاريخه، إلا أنها تسير أيضاً في الاتجاه ذاته، من خلال النظرة إلى «حقوق فناني الأداء» بوجه منفصل ومستقل عن «حقوق المؤلف».
المطلب الخامس
تفضيل النظرة الاستقلالية لحقوق فناني الأداء
نعتقد أن إيلاء الاهتمام الواجب لحقوق فناني الأداء ينبغي أن ينطلق من النظرة إلى هذه الحقوق بشكل منفصل ومستقل عن حق المؤلف. ولعل مما يدعم هذا التوجه أن ثمة بعض الإشكاليات المستحدثة التي تستوجب تدخلاً تشريعياً، ونعني بذلك نسخ أصوات بعض المطربين والممثلين الراحلين والحاليين بواسطة تقنيات الذكاء الاصطناعي، وما نجم عنه من إشكاليات قانونية وجدل مجتمعي يستدعي تدخلاً عاجلاً من جانب المشرع الوطني. ويشف لهذا التوجه أيضاً أن النظرة الحديثة للفنون تقوم على أساس اعتبارها أحد العناصر الأساسية للاقتصاد الإبداعي، وهو ما يستوجب البحث عن التنظيم التشريعي الأمثل والأكمل له.