شرف مهنة المحاماة
بقلم/ حازم الرمحى
أنا ذلك المتهم، وأيضاً الجاني الذي دفعتهُ الظروف والبيئة التي ترعرع فيها إلى اقتراف أفعال تبتعدُ عن الطريقِ المستقيم، وينبذها المجتمع وتدينها القوانين، سواء كنتُ بريئاً أو جانياً، فأملي يَشعُ من غياهب سجني في أن تُثبت براءتي، أو أن تُؤخذ ظروفي القاسية بعين الإعتبار للتخفيفِ من شدة العقوبة .
في عالمي الجديد _ما بعد الجريمة _ مطيتي الوحيدة للنجاةِ هو ذلك الرجل صاحب الرداء الأسود، والشال الطويل الأبيض في هيبة عباءته كل وقار، دائماً ما يُذَكرني بقداسة الرهبان، هل عرفتم من هو؟
ببساطة هو المحامي، هذا الرجل العظيم الذي إختار هذه المهنة ليجمع في آن واحد بين الحرفة، والفن فالمحاماة هي فن، حيث الترافع بذلك الصوت الجوهري و بخطاب يعج بالحجج والأدلة فاضحاً الزيف منها ومثبتاً الحقيقة في أبهى تجلياتها هو ترجمان وبدون شك لهذا الفن .
ولا تغريراً إن قُلنا إن المحاماة هي مهنة عظيمة القدر والشأن، أو مهنة نبلاء العصور الغابرة فقديماً وفي بلاد اليونان كان المكان الذي يجتمع فيه أصحاب هذه المهنة يعتبر من الأماكن المقدسة فإذا جاء وقت النظر في القضايا رُشَّ بالماء المُطهر إشارة إلى أنه لا تُجرى فيه من الأعمال أو الأقوال إلا ما كان طاهراً ونقياً، و في عهد الرومان وقع الترفيع من مكانة و واجهة المحامي حيث أصبح على قدم المساواة برجال الجيش و أمست لهما نفس الدرجة و القيمة الإجتماعية و اعتبر “أفطيموس”، وأنه لا فرق بين الذين يحمون زمام الدولة بالسيوف، و بين الذين يحمون حقوقها و حقوق أفرادها بألسنتهم و أقلامهم .
ويرجع ظهور هذه المهنة لعهد عتيق من التاريخ فقد عُرفت عند المصريين القدماء منذ سنة 2778 قبل الميلاد حيث كان جماعة من أهل العلم يُبدون المشورة للمتخاصمين، وعُرفت أيضاً عند السومريين القدماء و في عهد حمورابي سنة 1750 قبل الميلاد حيث كان لكل خَصم حق توكيل غيره للمطالبة بحقه، ويرجع أول تنظيم للمحاماة في البلاد الاسلامية إلى عام 1292 هجرياً حيث وُضِعَ في الدولة العثمانية نظام وكلاء الدعاوي، و في مصرنا صدرت أول لائحة لتنظيم هذه المهمة سنة 1884 وأول قانون كان قانون رقم 26 لسنة 1912.
أما على الصعيد الشرعي، وعلى الرغم من أن مهنة المحاماة لم تكن معروفة في صدر الاسلام إلا أن هذا العمل لا يُخالف مقاصد الشريعة الاسلامية، فمن القرآن قوله تعالى : ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) المائدة/2، ومن السنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( ومن مشى مع مظلوم حتى يثبت له حقه ثبت الله قدميه على الصراط يوم تزول الأقدام ) رواه ابن أبي الدنيا وحسنه الألباني في صحيح الترغيب .
وقد سُئلت “اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء بالمملكة السعودية” عن ممارسة مهنة المحاماة لطلب الرزق في ظل القانون الوضعي فأجابت: “إذا كان في الاشتغال بالمحاماة أو القضاء إحقاق للحق وإبطال للباطل شرعاً، ورد الحقوق إلى أربابها، ونصر للمظلوم فهو مشروع؛ لما في ذلك من التعاون إلى البر والتقوى، وإلا فلا يجوز؛ لما فيه من التعاون على الإثم والعدوان.
إن مهنة المحاماة ليست مُحرَّمة لذاتها ؛ لأنه ليس فيها حكم بغير ما أنزل الله ، بل هي وكالة وإنابة في الخصومة ، وهي من الوكالات الجائزة ، لكن ينبغي للمحامي التحري والتثبت من القضية قبل الخصومة عنها ، فإن كانت الدعوى حقّاً مسلوباً عن صاحبها وظلماً واقعاً عليه : جاز لك التخاصم عنه وإرجاع الحق له ، ورفع الظلم ، وهو من باب التعاون على البر والتقوى ، وإن كانت القضية فيها سلب حقوق الناس والتعدي عليهم : فلا يجوز لك المرافعة عنه ولا قبول وكالته ؛ لأنه يكون من باب التعاون على الإثم والعدوان .