
شاهد الزور الرقمي
مقال بقلم د. أشرف نجيب الدريني
هل ما زال للشهادة في عصرنا نفس القدسية التي كانت لها حين كان الشاهد يمد يده ليحلف اليمين؟ وهل ما زالت الحقيقة تُروى بضميرٍ يخاف أن يزيغ، أم أصبحت تُصنع في مختبر التقنية، تُولَد باردةً بلا إحساس ولا وازع؟ من يشهد اليوم أمام العدالة: الإنسان الذي يرى ويشعر، أم الجهاز الذي يسجل ويحلل؟ وكيف يمكن للقاضي أن يزن الصدق في شهادةٍ لا تنبض ولا ترتجف؟ وهل يكفي أن تكون الشهادة دقيقة لتكون عادلة، أم أن العدل يحتاج إلى أكثر من الدقة؟
كانت القاعة ذات يومٍ مسرحًا للحقيقة الإنسانية بكل توترها وضعفها وقوتها. يدخل الشاهد متردد الخطى، يقف أمام القاضي بوجهٍ قد شحب من الرهبة، يسمع القسم فيرتجف صوته قبل أن ينطق به. تلك اللحظة لم تكن إجراءً شكليًا، بل كانت لحظة وعيٍ بالمسؤولية أمام العدالة. القسم لم يكن كلماتٍ تُقال، بل وعدًا مقدسًا بين الضمير والحقيقة. كان الشاهد إنسانًا يتذكّر أنه سيُحاسب على ما يقول، وأن صمته أحيانًا أصدق من كلماته، وأن القاضي يرى ما وراء العيون أكثر مما يسمع من الألسنة.
أما اليوم، فالمشهد تبدّل. لم تعد هناك يدٌ تُرفع، ولا يمينٌ يُقال، ولا نظرة خوفٍ تفضح الكذب قبل أن يُكتشف. دخل شاهدٌ جديد إلى ساحة العدالة: شاهد لا يتعب ولا يخاف ولا يخجل، لكنه أيضًا لا يعي ولا يحس ولا يحلف. هو شاهد رقمي، مكوّن من بياناتٍ وأكواد، يتكلم بلغة الأرقام لا بلغة الضمير. يُقدَّم للمحكمة في هيئة تسجيلٍ أو صورةٍ أو تحليلٍ تقني، لا يعرف اليمين ولا جلال الموقف، ولا يستشعر ما تعنيه الحقيقة أو الزور.
في ميدان الإثبات الجنائي، كانت الشهادة دائمًا أكثر من مجرد دليل؛ كانت مرآةً للنفس قبل أن تكون أداةً للاتهام أو البراءة. كانت العدالة تستنطق الإنسان بكل ما فيه من ضعفٍ ونبل، فتقيس قوله بميزانٍ يزن الصدق بالاحساس، لا بالدقة الرقمية وحدها. أما في صورتها الحديثة، فقد أصبحت الشهادة رقميّة لا تُستجوب ولا تُرتجف. لا يُسأل ملفٌ عن نيّته، ولا يُحاسَب برنامجٌ على ما حذف أو أخفى. وهنا تكمن المفارقة الكبرى: أن الشهادة التقليدية كانت تُبنى على مسؤولية من ينطق، أما الشهادة الرقمية فتُبنى على من برمجها أو أدخل بياناتها، حتى وإن غابت عنه النية أو خانته التقنية.
لقد تغيّر جوهر القسم ذاته. لم يعد الشاهد يَحلف ليُذكّر نفسه بأن كلمته أمانة، لأن الشاهد الجديد لا يعرف ما هي الأمانة. كانت الكلمة في الماضي تخرج من فمٍ يعي وزنها، أما الآن فهي تخرج من آلةٍ لا تعرف ما تقول. لم يعد الكذب يُكتشف بارتجاف الصوت أو بتغيّر الملامح، بل بتحليل البيانات ومقارنة الأكواد. وحتى حين تُكتشف الزيف، لا يجد القاضي أمامه إنسانًا يُسائله، بل نظامًا يُعاد تشغيله.
في هذا التحول العميق، أصبحت العدالة مطالبة بأن تُعيد بناء أدواتها، وأن تُدرّب قُضاتها على فهم الشاهد الجديد كما فهمت القديم. فالقاضي المعاصر لا بد أن يكون عارفًا بلغة التقنية، قادرًا على قراءة الأدلة الرقمية بوعيٍ نقديٍّ يحميها من التلاعب ويُعيد إليها معنى الصدق. لم تعد المعرفة القانونية وحدها كافية؛ بل صار من الضروري إعداد القضاة وأجهزة العدالة لتفكيك ما يُقدَّم أمامهم من أدلةٍ رقمية بصرامةٍ علمية وبصيرةٍ إنسانية، حتى لا يتحوّل الذكاء الاصطناعي إلى شاهد زورٍ جديدٍ يصعب كشفه.
الشاهد الرقمي لا يحلف اليمين، ولا يخاف الملاحقة، ولا يتردد أمام القاضي، ولا يتراجع عن قوله لأنه لا يملك قولًا في الحقيقة، بل هو انعكاسٌ لما يُغذَّى به من معلومات. وفي هذه الحقيقة يكمن الخطر الأكبر: أن الزور لم يعد يُقال عمدًا فحسب، بل قد يُنشأ تلقائيًا بخطأٍ في البرمجة أو بتلاعبٍ في البيانات، فيتحول الزيف إلى “صدقٍ تقني” يربك العدالة ويمتحن وعيها.
ومع كل هذا، تبقى العدالة -في جوهرها- فعلًا إنسانيًا قبل أن تكون عمليةً حسابية. قد تتغير وسائل الإثبات، لكن روحها تظلّ هي السعي نحو الحقيقة. إن الخطر ليس في التقنية، بل في أن تفقد العدالة ذاكرتها الأخلاقية. فالشهادة، في صورتها التقليدية أو الرقمية، ستظل وعدًا بالحقيقة، والوعد لا يُؤدى إلا بحضور الضمير. التقنية بلا ضمير تُنتج أدلةً بلا روح، والعدالة بلا ضمير تُصدر أحكامًا بلا معنى.
وفي النهاية، حين نعود إلى التساؤلات التي بدأنا بها، نُدرك أن القضية لم تكن أبدًا في الإنسان أو في الآلة، بل في الضمير الذي يوجّه كليهما. فالشاهد القديم كان يقف أمام القاضي ليُقسم بالله على الصدق، أما الشاهد الجديد فيقف أمام الشاشة منتظرًا من الإنسان أن يُبرمجه على الصدق. الحقيقة لم تمت، لكنها تبحث عن صوتها بين الضجيج الإلكتروني، والعدالة لن تضيع ما دام فينا من يملك شجاعة أن يسمعها، سواء جاءت من فمٍ يرتجف… أو من جهازٍ صامت. والله من وراء القصد.